الخميس 9 مايو 2024

«كنوز دار الهلال» | بخط يدها.. مديحة يسري تكتب قصتها مع «ابن العمدة»

مديحة يسري

فن30-5-2022 | 00:32

أشرف سلام

تحلّ اليوم الذكرى الرابعة لوفاة سمراء الشاشة الفنانة مديحة يسري، التي رحلت عن عالمنا في 30 مايو عام 2018، بعدما قدّمت خلال مسيرتها الفنية أكثر من 100 عمل، وشاركت مع عمالقة زمن الفن الجميل، يوسف وهبي، أنور وجدي، فريد الأطرش، عبدالحليم حافظ، محمد عبدالوهاب، محمد فوزي، عماد حمدي، كمال الشناوي، رشدي أباظة، وغيرهم.

ونُقدّم لكم من أرشيف «دار الهلال» مقالًا كتبته مديحة يسري في 12 يونيو 1962، بعنوان «قصص من حياتي»، حول نشأتها وحكايتها مع ابن العمدة.

وكتبت مديحة يسري:

نشأتُ في الريف.. وللريف تقاليده التي تنطبع في النفس، وتتغلغل في الأعماق، فلا يستطيع الإنسان التحلل منها، وتصبح جزءًا لا يتجزّأ من تكوينه ومن حياته.

وهكذا كان أبي.. كان مهندسًا نال نصيبًا طيبًا من التعليم والثقافة، ومع هذا فقد كان أسيرًا لتقاليد الريف الذي نشأ وعاش فيه.. ففي يوم مولدي جاءه العمدة وقدّم له التهنئة، ثم طلب منه أن يقرأ فاتحة ابنه على المولودة الجديدة!.. التي هي أنا.

ولم يجد هذا الطلب الغريب استنكارًا من أبي، لأن هذا التقليد شائع في الريف، وكاد والدي يقبل العرض خضوعًا للتقاليد، لولا أن ثارت أمي وقالت لوالدي: «يا راجل.. أنت عارف بكره حايحصل إيه؟.. قراءة الفاتحة وعد وارتباط وربما عجزت عن تنفذي هذا الوعد».

ولهذا طلب والدي من العمدة إرجاء هذا الأمر إلى وقت آخر. وما من شكّ في أن العمدة لم يخطبني لجمالي، إذ أنه لم ير وجهي، وفضلًا عن ذلك فقد كنت في تلك اللحظة بنت بضع ساعات، وليس في خلقتي من الملامح ما يمكن أن يُعدّ من الجمال أو من الدمامة!، ولكن العمدة كان رجلًا بعيد النظر، فقد أراد أن ينتفع بالنفوذ الذي كان يتمتع به كثيرون من أفراد أسرتي، ومنهم الطبيب والمهندس والضابط، وهذه المصاهرة تضمن له تأييد هذه الأسرة بجميع أفرادها، وبذلك تثبت أقدامه في «العمدية»، وثبت بعد ذلك لأفراد أسرته جيلًا بعد جيل.

أما المسألة من وجهة نظر والدي فكانت خاضعة أيضًا لتقاليد الريف التي تجعل من مصاهرة العمدة لونًا من ألوان الشرف، ووسيلة من وسائل تدعيم النفوذ والسلطان.

ونشأتُ في القرية الهادئة، وبدأت أشب عن الطوق، فكنت ألعب مع الأطفال ولكني شعرت بعد ذلك برغبة في اعتزال هذا اللون من اللعب، وبدأت أميل إلى الانفراد بنفسي لأعيش تحت ظلال الأشجار ومع أصوات الطيور، إلى جانب مياه النيل في الجداول بين الحقول الخضراء.

وملأ حب الطبيعة نفسي وسيطر على عواطفي، فرأيت أن أحاكي الطبيعة الجميلة برسوم أرسمها. ولم تكن هذه الرسوم في أول الأمر متقنة ولا جيدة، ولكن مع التكرار بدأت أستطيع أن أنقل عن الطبيعة بعض المشاهد نقلًا فيه ظلال الحقيقة، فازددت تعلقًا بالرسم وازددت بُعدًا عن أطفال القرية.

ولكن هذه العزلة لم تعجب أبناء قريتنا وضايقهم ابتعادي عنهم، فكانوا يحاولون اجتذابي لمشاركتهم في ألعابهم بشتّى الوسائل، ولكنهم لم يفلحوا، وكانوا إذا مضوا في هذه المحاولة وألحّوا فيها، ثُرت عليهم ونهرتهم، بل وهددتهم بالضرب.

وحدث أن حاول ابن العمدة في أحد الأيام أن يجرني إلى اللعب معه ومع الأطفال، وكان أكبر مني بسنوات عدّة، فلم أستجب له، وألحّ إلحاحًا ضايقني، فأمسكت بقطعة حجر كبيرة وضربته بها فوق رأسه، وإذا بالدم يتدفّق منه غزيرًا، وإذا بابن العمدة يصرخ صرخة مدوية، ثم يسقط على الأرض، وشاهد الأطفال هذه «الجناية»، فجروا متفرقين في أزقة القرية ودروبها صائحين ابن العمدة مات.. وبلغ الخبر إلى العمدة فجاء مسرعًا وهو يبكي ويولول، وجاء وراءه جمع كبير من أهل القرية، بعضهم جاء لأنه من أقارب العمدة، وفريق آخر جاء بدافع الفضول.

ووقف العمدة أمام ابنه المبطوح وأخذ يحتضنه وقد أنسته اللهفة عليه أن «الجانية» واقفة.. أما أنا فكنت موزعة النفس بين الخوف والغيظ والشفقة.. كنت خائفة من منظر الدم، وكنت مغتاظة من جرأة ابن العمدة ومحاولته إرغامي على اللعب معه.. وكنت مشفقة عليه لأن إصابته شديدة.

وحمل بعض الناس ابن العمدة المصاب وأسرعوا به إلى حلاق القرية الذي أجرى له إسعافات سريعة، أما أنا فقد التف حولي الخفراء، وساقوني إلى بيت العمدة، وبعد قليل جاء العمدة ومعه ابنه وقد استطاع أن يمشي بعد تضميد جرحه، وبهذا سرى الاطمئنان في قلب أبيه، فلمّا دخل البيت ورآني، سألني عما دفعني إلى ضربه، فقلت له ما حدث بلا تحوير.. وسأل ابنه، وكان طفلًا شجاعًا فلم يكذب واعترف بصدق ما قلته.. ولم يسع العمدة إلا أن ينهي الأمر.

ولكن أهل القرية، ومن تقاليدهم التحدّث عن كل ما يحدث بينهم من وجهات نظر مختلفة، تناقلوا الحادث وقلبوه على وجوه عديدة، وانتهوا من كل هذا إلى أنني بنت علقها فيه «حاجة».. وقالها بعضهم في صراحة وأكدوا أن قواي العقلية ليست فوق مستوى الشبهات.. وتساءلوا كيف تجلس طفلة صغيرة وحدها في وسط الحقول، وتقضي ساعات طويلة هادئة ساكنة، تنظر إلى ما حولها في شرود وتأمّل.. لابد أن هناك «قرينة» من الجن مسّتها.

وسرت الإشاعات وترددت وكثُر ترديدها حتى صدّقها أهلي، وحملوني إلى بعض المشايخ، وملأوا رأسي ورقبتي بالأحجبة والتمائم والتعاويذ، ولكني رغم هذا لم أتحوّل عن وحدتي وتأملاتي ورسومي.

وبدأ والدي يشك في الأمر، ثم بدأ يميل إلى تصديق أهل القرية، فرأى أن ينتقل بنا إلى القاهرة، عسى أن يكون في هذا الانتقال العلاج الشافي.

وفي القاهرة التحقت بالمدارس، وبدأت أحسّ أن هناك حياة عصرية أفضل من حياة القرية يجب أن أعيشها... وكان يخيل إلىّ أنني أسمع أصواتًا مجهولة تدعوني إلى هذه الحياة العصرية.. فكنت أزور معارض الفن وأشاهد الصور والرسوم والتماثيل.. ولم أكن قد تجاوزت الثانية عشرة من عمري.

وحصلت على الشهادة الابتدائية، ثم التحقت بمدرسة الفنون الطرزية، وفيها اتصلت بالفن اتصالًا وثيقًا فلم يمض نصف عام حتى كانت المدرسة كلها تتحدّث عن براعتي في الرسم. وكان البعض لا يصدقون إلا أن هذه الرسوم من صنع فنان، لا من صنع فتاة مبتدئة!.

وانتهت دراستي في الفنون الطرزية وأردت أن أحتفل بنجاحي، فذهبت إلى إحدى دور السينما الصيفية.. وهناك كنت على موعد مع الأقدار.

كانت الأقدار قد رسمت لي طريق حياتي المقبلة، فهيّأت لي في تلك الليلة لقاءً غير مقصود مع أحد أساطين السينما.. التقيت بالأستاذ المخرج محمد كريم، وبعد حديث قصير معي اقترح عليّ أن أعمل في السينما بعد أن أكّد أن وجهي من أصلح الوجوه لها.. وآمنت بفكرته، وظهرت لأول مرة في فيلم «يوم سعيد» مع الأستاذ محمد عبدالوهاب.

كان دوري في هذا الفيلم من أدوار الكومبارس.. وبرغم أنه دور قصير فقد استطاع أن يلفت إليه الأنظار، وبعد عرض فيلم «يوم سعيد» ببضعة أيام، عُرض عليّ دور البطولة في فيلم «أحلام الشباب»، فكان هذا الدور صفحة جديدة من حياتي.. وأصبحت بعده «مديحة يسري» ممثلة السينما.

والآن.. وقد مرّت سنوات تنقلت فيها من نجاح إلى نجاح، ونلت فيها من رضاء المواطنين ما أسعدني، ولوّن حياتي بلون مشرق.. كثيرًا ما يطيب لي أن أستعيد ذكريات طفولتي، وأستعرض شريط حياتي كما أخرجته الأقدار، فأذكر محاولة العمدة قراءة فاتحتي على ابنه، فأسأل نفسي: «تُرى لو لم تعترض أمي على ذلك، ولو استجاب أبي لتقليد القرية، ماذا كان يحدث؟».

وعندئذ أرى بعين خيالي أنني زوجة ابن العمدة.. الذي تولّى العمدية بعد وفاة أبيه، أو على الأصح إحدى زوجاته الخمس اللاتي تزوجهن، ثم طلقهن الواحدة بعد الأخرى، ولو أسعدني الحظ وكنت إحدى اللاتي أبقى عليهن دون طلاق لكنت اليوم أرملة.. لأن العمدة ابن العمدة توفي في حادث.. ولكنت اليوم في دواره أجتر الذكريات.

Dr.Radwa
Egypt Air