أكثر من خمسين عاما قد مرت على حادثة خروج الشعب المصري من كل حدب وصوب يومي 9 و10 يونيو 1967 ترفض الهزيمة وتتمسك بالزعيم الذي شغف العقول وامتلك القلوب خرج الشعب ليهزم الهزيمة، وكنت دائما أحدث نفسي كيف يتمسك الشعب بزعيم ذاقوا تحت حكمه مرارة الهزيمة؟.
ولكن المشهد الذي رأيته وأنا ما زلت طفلا في أعقاب خطاب التنحي وهو أول ظهور للرئيس عبد الناصر بعد إعلان وقف إطلاق النار وقد سمعناه في الراديو فلم يكن أحد في العريش تقريبا يمتلك جهاز تليفزيون وحتى لو أمتلك فالتيار الكهربي مقطوع والراديو الترانزيستور الذي يعمل بالبطاريات هو الكنز الحقيقي في هذه الأيام وربما كان الفضل في توافره أننا جيران قطاع غزة حيث كان يعتبر منطقة حرة وقد أذيع البيان وصرخت أمي وكأن زوجها قد مات للتو مع أنه رحل منذ ٧ سنوات ورأيت أخي كمال الذي كان أحد المتطوعين في فرق الكشافة مع الهلال الأحمر يبكي بحرقة بل يشد خصلات شعره والبيت في صيوان عزاء وانطلق الرجال في الشوارع في فترة رفع حظر التجول الذي فرضه المحتل وكأنهم يعزون بعضهم، والنساء تبكي ونحن نرقب المشهد على وجوه زملاء أخوتي من القوات المسلحة الذين كانوا يختبئون في أحد غرف بيتنا ودموعهم لا تجف، ويتصايحون هتسبنا لمين يا جمال؟.
وبرغم المقاومة التي كانت ما زالت مستعرة على أطراف المدينة بعد أن سيطرت قوات الاحتلال على سيناء بالكامل إلا أن ذلك لم يمنع الجماهير أن تعبر عن رفضها برغم شدة المعاناة وما زالت رائحة الموت تزكم الأنوف حيث الحكايات عن مقتل رهط من الأسرى بدم بارد قرب طريق المطار أو إخراج الجنود والضباط المختبئين في البيوت مع أصحاب البيت ورشقهم وهم وقوفا ووجوههم للحائط وقصص لا تنتهي سمعناها ولم نرها عن مرور الدبابات على أجساد الأسرى المكبلين أحياء.
وفي حديثي مع المرحوم عبد الغفار شكر والذي كان نائبا لرئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان وأنا عضوا فيه عن هذه الحقبة وكيف أنه أثير غمز ولمز أن الاتحاد الاشتراكي هو من أخرج الجماهير إلى الشوارع ويحكي لي أن التلقائية المطلقة هي التي سيطرت على الموقف وهو شخصيا نزل إلى الشارع ووصل إلى رمسيس والجماهير تتجه إلى منشية البكري حيث منزل عبد الناصر دون أن يدري وكان طوفان البشر لا يقاوم ويبدو أن الجماهير قد أحست أن عبد الناصر وهم كانوا ضحية مؤامرة، وعندما قرأت عن خدعة الحشد على الجبهة السورية واستدعاء القوات من اليمن وحشد المتطوعين وقوات الاحتياط الذي وصل بعضهم إلى الخطوط الأمامية وهم ما زالوا بملابسهم المدنية، وعن المحادثات التي دارت بين الأمين العام للأمم المتحدة وعبد الناصر وطالبه فيها بضبط النفس والتهدئة وألا تكون الرصاصة الأولى منه بعد أن تلقى تطمينات من جونسون الرئيس الأمريكي وقتها إثر موافقة عبد الناصر فتح خليج العقبة أمام كل السفن ما عدا الإسرائيلية كبادرة حسن نية لتخفيف الاحتقان، وخاصة بعد أن طلب عبد الناصر انسحاب قوات الطوارئ الدولية كان جزئيا ولكن أمين عام الأمم المتحدة يوثانت قد رفض وقال إن المهمة كل لا يتجزأ وانسحب بالفعل من كل المواقع عندما أصر مجلس الحرب كاملا على ذلك بعد عرض عبد الناصر للموقف، واتضح فيما بعد أن الحشود على الجبهة السورية كانت تكتيكيا، وليس للتصعيد وإنما لردع بعض عمليات التسلل التي كان يقوم بها الفدائيون الفلسطينيون، ولكن الفخ كان منصوبا لكسر شوكة عبد الناصر في المنطقة وتمرير ما تريد أمريكا تمريره، وخاصة أنها قد منعت تصدير القمح لمصر قبل شهور كجس نبض ولكن عبد الناصر قابل ذلك بكل شموخ ولم يرضخ لما تمليه.
كل هذا اتضح فيما بعد واستغلال وجود ٣ فرق من جيشنا في اليمن، لتحقيق مأرب إسرائيل وقيل أن الطيران الذي دمر المطارات المصرية على الأرض قد خرج من قاعدة هويلس الجوية الأمريكية والتي كانت في ليبيا.
ولكن نعود لجماهير ٩و١٠ يونيو والتي وصفها الأستاذ عبد الغفار بأنهم ملايين العمال الذين أصبحوا شركاء في المصانع وفق نظام نقابي وتأميني عادل والفلاحين الذين تملكوا الأرض وأصبحوا يجنون ثمرة أيديهم بعد أن كانوا عبيدا فيها وطلاب الجامعات الذين نالوا حظوظ متساوية وفق مكتب تنسيق عادل والشباب الذين كانوا يتسلمون أعمالهم بعد التخرج دون أي واسطة كل هؤلاء خرجوا وأسرهم وذويهم وفي المجموع هؤلاء هم الشعب الذي أحس بقيمة العدالة الاجتماعية فخرجوا ليدافعوا عن مكتسبات ثورتهم ويهزموا الهزيمة وهم الذين خرجوا في فبراير ١٩٦٨ يطالبون الزعيم بمحاكمة عادلة لمن تسببوا في الهزيمة وفتح الأفق السياسي والحريات العامة، وبالفعل كان ردي عليه لو كان الاتحاد الاشتراكي قد أخرجهم في القاهرة والمحافظات فمن الذي أخرج الجماهير في الأرض المحتلة وفي بعض الدول العربية؟.
هكذا حركة الشعب لم تهدأ إلى أن أعيد بناء الجيش وخاضت مصر أشرس معارك حرب الاستنزاف والتي مهدت لنصر أكتوبر المجيد.