لم يستغرق اللواء أشرف الداودي محافظ قنا، ثوان معدودة من التفكير للاستجابة إلينا وتحقيق رغبتنا الشديدة في زيارة مدينة نقادة، قرية جراجوس ونجع الشيخ على، أهم أماكن صناعة «الفخار والخزف والفركة»، ومناطق الحرف التقليدية اليدوية التي اشتهرت بها محافظة قنا جنوب صعيد مصر.
كانت الساعة لم تتجاوز العاشرة والنصف صباحًا، عندما انطلقت بنا السيارة إلى نقادة وتبعد31 كيلومتر جنوبًا عن مدينة قنا، إنما اللافت للانتباه أن الناس هنا وبمجرد الإعراب عن رغبتك لزيارة هذه الاماكن يحدثونك عن ذلك الكوبري الذي نجح في أن يربط بين وحدة هذه الحرف الثلاث، حرفة صناعة الشال الحرير أو كما يطلقون عليها "الفركة" التي عرفت بها مدينة نقادة عالميًا قبل محليًا، وهي تقع على الشاطئ الغربي من النيل، وحرفتي الفخار والخزف التي عرفت بهما بعض من القرى الواقعة على الشاطئ الشرقي للنيل، مثل نجع الشيخ علي وقرية جراجوس، وكأن النيل أراد أن يحتضن هذه الحرف الثلاث بين شاطئيه حتى يمنحها خلوده وقدسيته، بالمناسبة هناك أكثر من سبعة قرى بمحافظة قنا عرفت بصناعة الفخار والقلل القناوي، أشهرها «الترامسة، والطويرات، والدير والمحروسة البلاص سابقًا».
كان الصمت يسود السيارة، وكنت أنا مشغولًا بالعثور على إجابة سؤال ظل يراودني ونحن فى طريقنا إلى الحاجة سهير أحد أهم صناع الفخار بنجع الشيخ علي، هل فعلًا سنجد ورشة مجهزة لائقة بتاريخ وعراقة هذه الحرفة اليدوية التي اشتهرت بها قنا منذ أيام الفراعنة وحتى الآن، وغنى لها العظيم سيد درويش (مليحة قوي القلل القناوي.. رخيصة قوي القلل القناوي.. قرب حدانا وخدلك قلتين) أم سأشاهد مجرد عشوائيات وحالة تهميش وفقر ومعاناة تختبئ بين الطواجن والقلل والبلاليص القناوي، كما رأيت ذلك في أماكن حرف تقليدية عديدة بمحافظات أخرى، طبعًا أعرف جيدًا أن صناعة الفخار في قنا تواجه مشكلات عديدة تهدد وجودها وتعجل باندثارها، لكن الذي زاد من ازعاجي وقلقي على مستقبل هذه الحرفة من الاندثار، ما تضمنته دراسة علمية للدكتور محمد سعد عبد الله، الباحث المتخصص في دراسة مجتمع الفواخرية، فقد أكدت الدراسة أن هناك أكثر من 500 حرفي ماهر، إلى جانب 1000 شيال وعجان وحراق، كانوا يعملون بصناعة القلل القناوي في قنا، إلا أنه وفي السنوات الأخيرة وبشكل ملحوظ، بدأ يتقلص عدد هؤلاء إلى العشرات، مما أثار قلق المتخصصين بالتراث وحماية الحرف التقليدية اليدوية، لاسيما أن هذه الحرفة الفرعونية الأصل بدأت تتآكل بالفعل، فلا أسواق ولا أماكن للصناعة توفرها المحافظة، وأصبح الأمر مجرد حلاوة روح، وكل من يستطيع من هؤلاء الفخارين أن يعمل في بيته تحت ظروف بائسة فليعمل، ومن لا يستطيع فليهجر الحرفة ويهرب.
أمام منزل صغير وعلى حافة ترعة مواجهة للمنزل، توقفت بنا السيارة في نجع الشيخ علي، كانت الحاجة سهير الأشهر بين صناع الفخار في قنا في استقبالنا بترحاب ومودة، وبصحبتها دخلنا البيت، تستطيع أن تقول دخلنا إلى ورشة الفخار، فالبيت ما هو إلا ساحة صغيرة مكتظة بالأواني الفخارية من طواجن برام، وأقول برام لأن هذا نوع من الطين الطفلي تتميز به جبال أسوان وقنا لصناعة الفخار في هذه المنطقة، ونحن أبناء الصعيد كثيرًا ما نردد عبارة «أكلنا لحمة في طاجن من البرام»، وهو يمنح الفخار القناوي خواص متفردة منها احتفاظ الطعام بسخونته لوقت طويل وكذلك النكهة المتميزة.
لم أجد وصفًا دقيقًا لبيت الحاجة سهير أفضل من أننا كنا في بيت داخل ورشة وإمراة صعيدية من الفولاذ تقاوم بكل شراسة للحفاظ على حرفتها التي ورثتها أبًا عن جد، وعلى بيتها الذي اختفت ملامحه تقريبًا بين ركام وأواني من الفخار، وفرنين الأول لخبز العيش وإطعام أهل بيتها، والآخر لحرق الفخار.
نظرت إليّ الحاجة سهير وكدت ألمح دموع المعاناة محبوسة في عينيها، وقلت: «راح فين صوت سيد درويش.. كنت أتوقع أن اسمعه هنا وهو يغني "مليحة قوي القلل القناوي، رخيصة قوي القلل القناوي، قرب حدانا وخدلك قلتين"».
بابتسامة خجولة قالت: «عايزه يغني في الزجمة دي .. لما إحنا نقدر نتنفس الأول يبقى هو يغني»، فتدخل ابنها قائلًا: «تلاقي صوته اتحبس من كتر البرام اللي في البيت»، قلت: «خد بالك سيد درويش أول من غنى للفخار والقلل القناوي، وأنا شايف إن إطلاقه اسمه على فخار قنا هيرفع من تسويقه وشهرته، ونلقبه من هذه اللحظة فخار سيد درويش»، قلت: «بس كدا خطر عليكم.. يا ترى تقدمتم بطلب للمحافظة لتخصيص مكان تشتغلوا فيه بدلًا من اللخبطة والفوضى دي».
قال الابن: «طلبنا كتير وعشمنا في الباشا المحافظ كبير، الوضع زي ما انت شايف صعب.. ربنا يهديهم علينا».
خرجت من بيت الحاجة سهير أقصد ورشتها وإحساس شديد يتملكني أنه لم يعد باقي في عمر حرفة الفخار الكثير، وكم أخشى أن يأتي يوم قريب نقول فيه كان ياما كان هنا في قنا قلل وفخار»، ياريت مشروع «حياة كريمة» الذي يسعى لتطوير وتحسين غالبية القرى المصرية، يضع في اعتباره تخصيص أماكن صناعة وتسويق لكل الحرف اليدوية التقليدية التي تملأ وتنتشر في محافظات مصر، وما من محافظة بالمحروسة إلا وبها عدد من الحرف التقليدية اليدوية التي تستحق الاهتمام والعناية لعراقتها وتفردها واهتمام العالم الخارجي بشراء منتجاتها، وسوف نوضح ذلك بالبرهان في حكايات قادمة.