ثلاثة عقود كاملة مرت على اغتيال شهيد الكلمة فرج فودة، أرداه المتطرفون الجناة قتيلًا مساء الاثنين 8 يونيو 1992، وهو يغادر مكتبه بمصر الجديدة في صحبة ابنه أحمد وصديق له، الذكرى عادت بي طويلًا حتى 7 يناير 1992، أي خمسة أشهر قبل اغتياله، داخل أروقة معرض القاهرة الدولي للكتاب بأرض المعارض في مدينة نصر، كنت وقتها على مشارف سن الرشد، وأحرص على التفرغ لمتابعة أنشطة المعرض طوال مدة انعقاده، وفي المقدمة منها أنشطة قاعة الندوات الرئيسية أو الكبرى، أذهب يوميًا في العاشرة صباحًا إلا عدة دقائق، فأضمن لنفسي موقعًا متميزًا، أنهل من خلاله المعارف المتنوعة بتنوع محاور النقاش ورؤى المتحدثين.
لم أتصور في هذا اليوم 7 يناير 1992، أنه كان من الضروري التبكير عن المعتاد، حتى أجد لنفسي موقعًا لقدم في الدوائر المحيطة بقاعة الندوات الكبرى، وليس مقعدًا في الصفوف الأمامية منها، كانت الندوة الرئيسية في العاشرة صباحًا يومها تحت عنوان "مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية" وهي مناظرة في حقيقة الأمر، مثل فيها الدولة الدينية كل من الداعية الإسلامي الشيخ محمد الغزالي، ومرشد جماعة الإخوان المسلمين آنذاك مأمون الهضيبي، والكاتب الإسلامي الدكتور محمد عمارة، بينما مثل جانب الدولة المدنية الشهيد فرج فودة، ومعه المفكر الدكتور محمد أحمد خلف الله، وأدار المناظرة باقتدار الدكتور سمير سرحان، رحمة الله عليهم أجمعين.
استقبلني يومها على بوابات معرض الكتاب، مشهد مهيب إلى أبعد الحدود، غير معتاد فيما يتعلق بحضور الندوات، ملامحه الأساسية حشد كبير متشح بالزي الإسلامي، تظهر بينه قاعة الندوات الكبرى على مرمى البصر على استحياء، وصل عدد الحضور وفق ما تردد تاريخيًا إلى ما يزيد على 20 ألف شخص، وانتشرت السماعات الصوتية في طرقات المعرض بما يسمح لمن يرغب بمتابعة المناظرة، كنت قبلها لسنوات آخذ ديني عن مؤلفات الشيخ محمد الغزالي، بعدما تأثرت به طفلًا يصحبني والدي رحمة الله عليه، لصلاة العيد وسماع خطبة الغزالي بساحة قصر عابدين، والحقيقة أنني كنت محظوظًا في هذا، الشيخ محمد الغزالي من المجددين دون شك.
قطعًا لم أحضر المناظرة إلا بدافع حمية دينية شابة وحب الشيخ الغزالي على وجه الخصوص، لم يأخذني الميل يومًا تجاه الإخوان المسلمين، يساري الهوى من يومي، كما أن الدكتور محمد عمارة لم يعطه ربي قبولًا في قلبي حتى أسمع أو حتى أقرأ له، أما فرج فودة فكنت أقرأ له مقالاته بالصحف والمجلات من زاوية المعارف العامة، وأتابع جهوده في استقطاب الشباب لحزب سياسي يعمل على تأسيسه أطلق عليه حزب المستقبل، وتابعت الدكتور محمد أحمد خلف الله من نفس المنطلق، ولم أكن قد تعمقت شخصيًا في فصل الخطاب بين الدين والعلمانية أو الدولة الدينية والدولة المدنية، كنت محظوظًا أيضًا بحضور المناظرة.
لم أجد فرج فودة إلا هادئًا مرحبًا منهجيًا منفتحًا على الحوار، وقبل هذا كله مُقَدِرًا إلى أبعد الحدود قيمة الشيخ محمد الغزالي، بينما لم أجد في المقابل إلا انفعالًا ونفورًا واستهانة بفريق الدولة المدنية وطرحه، أما الحشد الإخواني الكبير من الحضور، فلم يكن إلا قطيعًا مؤيدًا على طول الخط، لا أحد ينصت أو يعطي لنفسه مساحة ليفكر، فقط تنطلق صيحات التكبير تهز أرجاء مدينة نصر، بمجرد أن ينهي أحد الفريقين مداخلته، التكبير مناصرة أو تشويشًا، تابعت المناظرة لعدة ساعات باهتمام وإنصات وإعمال عقل متأملًا المشهد بشكل عام، فلم أخرج منها إلا منطلقًا في أجنحة المعرض، أبحث عن مؤلفات فرج فودة.
"لا أبالي إن كنت في جانب والجميع في جانب آخر، ولا أحزن إن ارتفعت أصواتهم أو لمعت سيوفهم، ولا أجزع إن خذلني من يؤمن بما أقول، ولا أفزع إن هاجمني من يفزع لما أقول، وإنما يؤرقني أشد الأرق، أن لا تصل هذه الرسالة إلى من قصدت، فأنا أخاطب أصحاب الرأي لا أرباب المصالح، وأنصار المبدأ لا محترفي المزايدة، وقُصَاد الحق لا طالبي السلطان، وأنصار الحكمة لا محبي الحكم، وأتوجه إلى المستقبل قبل الحاضر، وألتصق بوجدان مصر لا بأعصابها، ولا ألزم برأيي صديقًا يرتبط بي، أو حزبًا أشارك في تأسيسه، وحسبي إيماني بما أكتب، وبضرورة أن أكتب ما أكتب، وبخطر أن لا أكتب ما أكتب، والله والوطن من وراء القصد".. رحمة الله على شهيد الكلمة فرج فودة.