الأحد 24 نوفمبر 2024

مقالات

تحالف الظلام

  • 19-6-2022 | 03:16
طباعة

قبل عدة أيام فى لقاء مع عدد من الأصدقاء، وبدأت الحوارات المتشعبة حول كل شأن وموضوع، لكن أحدهم لم يكن يشغله سوى أمر واحد، وهو فيلم أمريكى شاهده على فضائية متخصصة فى عرض الأفلام الأمريكية، لم يتكلم صديقنا عن المستوى الفنى للفيلم أو مستوى أداء الممثلين ما سبب له حالة الانبهار بالفيلم هو الموضوع الذى يناقشه.

تدور قصة الفيلم عن علاقة المخابرات الأمريكية بعصابات تهريب المخدرات من أمريكا اللاتينية إلى داخل الولايات المتحدة وكيف استطاع صحفى أمريكى كتابة سلسلة من التحقيقات بعنوان "تحالف الظلام "حول هذه العلاقة، وبدأ صديقنا وهو مستمر فى حالة انبهاره يشيد بحجم الحرية المتاحة ويعقد المقارنات هنا وهناك ، ووجه الصديق سؤاله لى عن رؤية هذا الفيلم الخطير كما يراه هو بواقع علمه أننى اتابع كمشاهد دائم الأفلام السينمائية، أجبته بأننى شاهدت الفيلم" الخطير" واسم الفيلم " أقتل حامل الرسالة " بطولة جيرمى رينر وإخراج مايكل كويستا وعرض الفيلم فى صالات السينما قبل بضع سنوات.

سألته عن علمه بأن هذا الفيلم مأخوذ عن وقائع حدثت بالفعل؟ لم يكن صديقى يعلم بهذه النقطة مما رفع عنده معدلات الانبهار ووزع علينا المزيد من المقارنات.

سألته مرة أخرى هل شاهدت هذا الفيلم جيدا ؟ أجاب بثقة نعم فأخبرته أن هذا الفيلم الضعيف فى مستواه الفنى أسهم فى رسم الصورة المطلوبة حول بطل هذه القصة الحقيقية الصحفى الأمريكى "المنتحر" جارى ويب فالفيلم الخطير كما يراه لم يظهر النهاية المأساوية لجارى ويب بل أن هذا الفيلم بعد عشر سنوات من وفاة ويب جاء ليقول أنه مجرد صحفى غير مهنى وكاذب فيما كتبه عن المخابرات الأمريكية وأن الأمر كله مجرد بحث عن الشهرة من صحفى فى جريدة صغيرة بكاليفورنيا اسمها(سان خوسيه ميركورى نيوز ).

لم يستسلم الصديق متمسكا بانبهاره قائلا : يكفى الأحداث والموضوع الذى يتعرض له الفيلم ، فأخبرته أن مايفعله هذا الفيلم وغيره هو عرض نصف الحقيقة أو أجزاء منها لصنع حالة من التنميط فأنت تعلقت بحالة الإعجاب بالفيلم لأنك لا تعرف التفاصيل كاملة وكل ماوصلك أن اسم المخابرات الأمريكية يتردد فى الفيلم بشكل عادى وأنت مواطن غير أمريكى فتشعر بهذه الحالة من الإعجاب من كم الحرية المزعومة ولو كنت مواطنا أمريكيا وأنت المستهدف الرئيسى من الرسالة فقد ظهر أمامك هذا الصحفى جارى ويب كمدعى وكاذب دون أن تعلم ماحدث له بعد نشر هذه التحقيقات من كوارث أدت فى النهاية كما قيل إلى انتحاره.

طلب صديقنا أن يعرف ماهى التفاصيل التى لم يتطرق إليها الفيلم ، قلت له رغم مارأيت فى هذا الفيلم "المبهر" فإن الدولة وأجهزتها فى الولايات المتحدة أخرجت الكارت الأصفر فقط لويب عندما نشر هذه التحقيقات فى أواخر التسعينات من القرن الماضى فحلت عليه المصائب ولكن قبل " الانتحار" حاول ويب اجتياز خط ممنوع الاقتراب منه وهنا خرج الكارت الأحمر والذى قد يؤدى إلى طرد الشخص من الحياة نهائيا.

إن الأزمة التى سببتها تحقيقات ويب لم تكن حول علاقة المخابرات الأمريكية بكارتلات المخدرات فى أمريكا اللاتينية لأن تحقيقات جارى ويب دارت حول تمويل المخابرات الأمريكية لعصابات الكونترا فى نيكارجوا المناهضة لجبهة السندينستا الشيوعية الحاكمة فى نفس البلد، هذا الموضوع أثير من قبل فى عهد رونالد ريجان بالثمانينات فيما عرف بفضيحة كونترا جيت وانتهى الأمر لعدد من التحقيقات وبعض الاستقالات لصغار الموظفين وكان السبب تقديم تمويلات إلى جهات خارجية ومنها الكونترا بعد منع الكونجرس هذه التمويلات و إن كان عاد ووافق عليها بعد ذلك وقبل كشف الأمر.

كان السبب الرئيسى لكشف هذه التمويلات علاقات أمريكا المعقدة فى الشرق الأوسط أثناء الحرب العراقية ـ الإيرانية لأن جزءا من هذه التمويلات كان يأتى من بيع أسلحة لإيران عبر وسطاء رغم حالة العداء المعلنة بين الدولتين ومما ظهر وقتها أن جزءا آخر من الأموال التى تذهب إلى حركة الكونترا يأتى من أرباح تجارة المخدرات التى تتدخل فيها المخابرات الأمريكية، بمعنى آخر لم تكن تحقيقات جارى ويب صادمة للرأى العام الأمريكى لأن الإدارات الأمريكية المتعاقبة احتوت الأمر وصدرت الصورة النمطية وعلى رأسها جلسات الاستماع فى الكونجرس بأن الحرية تكشف كل شيء رغم أنه لم يحدث أى تغيير واستمرت أجهزة الاستخبارات الأمريكية فى عملها المعتاد.

إن هذ الحالة مشابهة لما حدث مع شركات التواصل الاجتماعى قبل وقت قليل وكما قيل من أجل مراجعة عملها فعقدت جلسات استماع فى الكونجرس واستدعاء شهود وتغطية إعلامية متواصلة ووصلت حالة الانبهار بهذا " الشو " السياسى إلى الداخل الأمريكى والعالم كله فهل حدث شيء حقيقى لهذه الشركات؟ لم يحدث أى شيء وكانت هناك أسباب ورسائل سياسية أخرى يطول شرحها وراء هذا " الشو " لكن من ناحية أخرى حقق "الشو" غرضه فى تعظيم التنميط حول صورة الحريات الأمريكية وبالطبع هذا دهاء يحسب لهم فى الترويج لفكرة الحرية المزعومة فى هذا السيرك السياسى الأمريكى الذى يقدم فقراته بحرفية أمام العالم كله ويحوز على إعجاب المتابعين.

عندما نعود لتحقيقات جارى ويب فإن الأزمة التى سببتها لم تكن بسبب هذه العلاقة بين المخابرات الأمريكية وكارتلات المخدرات فى أمريكا اللاتينية ولكن تحقيقاته ذكرت أن المخدرات كانت تدخل الولايات المتحدة برعاية المخابرات الأمريكية ومن أرباحها تمول الكونترا وهنا أيضا لم يكن هذا أساس الضجة التى حدثت، السبب الرئيسى الذى جعل الكارت الأصفر يظهر لويب أنه ذكر فى تحقيقاته أن المخدرات كانت توزع فقط فى أحياء السود الأمريكيين وهنا بدأت كل الحركات الأمريكية السوداء تهاجم الحكومة الأمريكية وبدأت تحدث اضطرابات منذرة بعواقب وخيمة على الأمن فى الولايات المتحدة وبعدها فتحت أبواب الجحيم على جارى ويب.

خرجت الصحف الثلاث الرئيسية فى الولايات المتحدة نيويورك تايمز وواشنطن بوست ولوس أنجلوس تايمز تهاجم ويب وصحيفته الصغيرة وتشكك فى كل مانشره وخرجت المخابرات الأمريكية فى ظهور نادر تنفى كل ما جاء فى تحقيقات ويب وتؤيدها الصحف الثلاث الكبرى بسبب حجم الاضطرابات فى مجتمعات السود الأمريكيين مما يهدد بأزمة سياسية كبرى خاصة أن الإدارة التى كانت متواجدة وقتها فى البيت الأبيض هى إدارة بيل كلينتون المنتمية للحزب الديمقراطى والتى تعتمد على تأييد الأمريكيين من أصل إفريقى هذا غير أن الأخ غير الشقيق للرئيس الأمريكى بيل كلينتون روجر متورط فى قضايا ضخمة لتهريب الكوكايين وهى نفس نوعية المخدرات التى أدخلتها المخابرات الأمريكية إلى الولايات المتحدة ، فى نهاية مدة رئاسة بيل كلينتون أصدر عفوا رئاسيا لشقيقه وشقيق زوجته هيلارى المحامى هيو رودام المتورط أيضا مع تجار الكوكاكين.

لم تتوقف الحملات الممنهجة من كافة وسائل الإعلام الأمريكية ضد جارى ويب وصحيفته وأى خطأ ارتكبه فى حياته تم الكشف عنه مما جعله ينفصل عن زوجته ويترك أولاده وكانت الضربة الكبرى عندما أصدرت صحيفة جارى ويب سان خوسيه ميركورى نيوز بيانا تعلن فيه أن تحقيقات جارى ويب غير دقيقة مقدمة شبه اعتذار وألقت بجارى ويب إلى مكتب تابع لها فى بلدة على الحدود الأمريكية مما جعله يتقدم باستقالته بعد أن انهارت حياته المهنية وأصبح صحفى غير مرغوب به فى أى وسيلة إعلام أمريكية.

اختفى ويب بعدها حتى وجد وظيفة بسيطة فى مجلس ولاية كاليفورنيا ويبدو أن ويب لم يرد الاستسلام أو أن عشقه لمهنة الصحافة طغى على خطورة عودته للحياة الصحفية فبعد 7 سنوات من تركه مهنة الصحافة وتحديدا فى العام 2004 سمحت صحيفة ساكرامنتو نيوز أند ريفيو الأسبوعية لويب أن يعمل لصالحها كمراسل تحقيقات فبعيدا عما تعرض له ويب بسبب تحقيقاته عن الكونترا وأرباح المخدرات ففى بداية عمله الصحفى حاز على جوائز لأنه صحفى موهوب.

عاد ويب بنشاط إلى عمله الذى يعشقه وأخبر صحيفة ساكرامنتو أنه يقوم بسلسلة تحقيقات عن أخطر تاجر مخدرات ظهر فى العالم وهو الكولومبى بابلو اسكوبار وكارتيل ميدلين الذى كان يديره وقتل على يد القوات الكولومبية فى عام 1993 اعتبرت الصحيفة أنها سلسلة تحقيقات مثيرة وجاذبة للقراء ولكن ويب لم يخبر الصحيفة أنه يجرى هذه التحقيقات من زاوية أن المخابرات الأمريكية هى من صنعت بابلو اسكوبار وأن كارتل ميدلين كان يأخذ أوامره من واشنطن، يبدو هنا أن الكارت الأحمر خرج فى وجه جارى ويب فمع بداية عمله فى هذه السلسلة وبشهادة أصدقائه أنه كان سعيدا بالعودة للعمل الصحفى عثر عليه فى منزله "منتحرا " برصاصة فى رأسه لتتحول نهاية جارى ويب المأساوية إلى لغز آخر لأن من يعرفونه أكدوا أن شخصيته وحالته النفسية فى هذا الوقت لا تدل على أنه يفكر فى الانتحار بل الأغرب أن بعض أصدقائه أصروا على أن كانت هناك رصاصة أخرى أطلقت من هذا المسدس فكيف ينتحر برصاصتين فى رأسه ؟ لكن الشرطة الأمريكية نفت هذا وسجلت القضية أنها انتحار لأن "المنتحر" جارى ويب كان يمر بحالة اكتئاب لأسباب عائلية .

سألت صديقى الذى شاهد الفيلم الأمريكى " الخطير" هل رأيت كل هذه التفاصيل فى فيلمك ، أجابنى مندهشا ... لا .

الاكثر قراءة