الجمعة 26 ابريل 2024

ضمائر «آيلة للسقوط»

مقالات19-6-2022 | 20:19

انهيارات المبانى والمنازل لم تأت صدفة ولكنها جاءت جراء فساد تراكم عبر العقود الماضية.. فهذا العدد الكبير من المبانى القديمة والآيلة للسقوط التى تعد «قنابل موقوتة».. تحصد أرواح الأبرياء.. فى ظل تقاعس وتخاذل موظفى ومهندسى الأحياء الذين لم يكلفوا أنفسهم بعمل قاعدة بيانات عن حالة المبانى ومدى سلامتها.. واتخاذ الإجراءات والتدابير، مازال فساد الذمم يعشش فى عقول بعض الموظفين ولم يدركوا ان زمن الفساد انتهى وولى دون رجعة وان هذا الوطن يسير بخطوات وقفزات متسارعة لبلوغ التقدم وبناء دولة بأعلى المعايير العالمية.

انهيارات المبانى والعمارات.. وحصد أرواح الأبرياء.. وتعطيل مصالح الناس

مازال الفساد (أبيض وأسود) فى اشارة إلى انه جاء من الماضى على مدار 50 عاماً حتى انه خيم على العقول فلم تتغير الأفكار والأساليب ونظم الإدارة فى ثقافة وعى البعض ممن مازالوا يتشبثون بممارسات الماضى السحيق من (انتخة) وفهلوة وتخاذل وفكر عفى عليه الزمن، وتجاهل للأساليب العلمية والتكنولوجية.
مصر تتغير إلى مسار وطريق الدولة العصرية الحديثة، وتدخل عصر الجمهورية الجديدة.. وتبنى قيادتها دولة بأعلى المعايير والمواصفات العالمية، زى ما الكتاب بيقول، لا تدخر جهداً أو «ميزانيات» لتوفير كل سبل التطوير والتحديث والرقمنة ومواكبة العصر.. إلا ان ذلك للأسف لم يصل إلى بعض موظفى الأحياء المتخاذلين، الذين مازالوا يعانون من «البلادة» والنوم فى العسل والتفرغ للفساد وابتزاز الناس وتطبيق نظرية «ابجنى تجدنى».

قبل أن أتناول موضوعى الذى أريد الحديث عنه.. لابد ان أتناول واقعة تلخص حال موظفى الأحياء ومجلس المدينة.. حيث ذهب المواطن إلى مجلس المدينة.. لقضاء خدمة مشروعة وقانونية وسهلة وبسيطة، أخبروه ان ينتظر حتى يظهر أو يعود الموظف، دقت الساعة الثالثة عصراً ومازال الموظف فى عداد الغائبين.. ثم قالوا للمواطن الذى قطع 20 كيلو متراً للوصول إلى مجلس المدينة.. واستيقظ مبكراً، وتغرم مصاريف المواصلات فى جو شديد الحرارة.. فوت علينا يوم الأحد يكون الموظف موجوداً.. السؤال هنا من يتحمل فاتورة تكاليف ومصاريف المواطن، وهل مصير الناس ومصالحهم متوقفة على موظف واحد.. وهل هناك من حاسب الموظف.. وأين التطوير فى تقديم الخدمات.. وماذا عن حالة الرضا لدى المواطن الذى سيعاود الحضور إلى مجلس المدينة بنفس السيناريو؟.. يصحو من الفجر، ويركب مواصلات.. ويستهلك الوقود والبنزين أو السولار.. ويتكبد المسافة وربما يخبرونه ان البيه الموظف لم يأت بعد «فوت علينا بعد شهر».. هل هذا الفكر والممارسات مازالت موجودة لدى الموظفين؟.. ولماذا البعض يحصل على ورقة التصالح فى مخالفات البناء والتعديات؟.. والبعض الآخر مازال يعانى من رحلة العذاب رغم انطباق نفس الشروط عليه، الحقيقة ان السبب هو غياب من يراقب ويحاسب ويتابع سلوكيات وانحرافات وإهمال وتقصير بعض الموظفين والإدارات، والدولة بريئة تماماً.. جل همها ان ترفع المعاناة عن كاهل المواطنين.. لكن هناك من يبدد هذه الجهود.. ناهيك عن ممارسات أخرى يعف القلم عن ذكرها ثم يأتى المواطن أو الموظف لينتقد الدولة ويهاجمها.. ويشكو من انه لا يحظى بالمرتب المناسب والمكافآت والاضافيات رغم انه غارق فى (الإكراميات) وهى اللفظ المهذب للرشاوى.. ورغم ان راتبه الذى توفره له الدولة لا يستحقه، وهو حرام لأنه مقصر ومتخاذل وتسبب فى الإساءة للدولة، لا تجد مثل هذه الظواهر فى القطاع الخاص.. فمن يقصر ويتخاذل أو يتبع الطرق الملتوية يطرد ويرحل.. لكن بعض الموظفين استحل مال الحكومة أو الدولة وعايش بنظرية «شيلنى واشيلك مع المواطن».

الدولة المصرية تسير وفق معدلات استثنائية فى التطوير والتحديث والأخذ بالتكنولوجيا والتحول الرقمى.. وتحرص على ان تكون جميع المشروعات القومية فى كل المجالات والصناعات بأحدث وأعلى المواصفات والمعايير، لكن للأسف الشديد هذا الفكر لم يتسلل إلى عقول بعض الموظفين والإدارات وفى مقدمتها الأحياء ومجالس المدن التى مازالت تتبع نفس أساليب (الفساد الأبيض والأسود) على مدار 50 عاماً، ورثتها الدولة المصرية ودفعت تكلفة باهظة فى إصلاحها.. وخصصت ميزانيات هائلة وضخمة لإصلاح أخطاءالماضى على مدار 7 سنوات من عشوائيات إلى بحيرات إلى تعديات إلى أمراض وفيروسات، فما نراه من فساد فى مخالفات البناء وناطحات سحاب على شوارع لا تزيد على أربعة أو خمسة أمتار جاء جراء ونتاج فساد الأحياء وللأسف مازال البعض منهم يمارس فرض الاتاوات على المواطن ويتفرغ لجمع المال الحرام ويتجاهل عمله ومهامه الرئيسية.. فالانهيارات المتوالية للمبانى القديمة والضحايا من الأبرياء الذين ينتشلون من تحت الأنقاض، هى مسئولية موظفى الأحياء واللجان الهندسية فى الأحياء والمحافظات.. فعندما تطالع الصحف أو وسائل الإعلام وفى قلب العاصمة القاهرة بحى الوايلى.. لتقرأ عن انتشال 6 جثث من تحت الأنقاض جراء انهيار منزل من خمسة أدوار فجراً يقطنه 9 أشخاص بينهم رجال ونساء وأطفال ومازال البحث جارياً عن باقى السكان.. هذه كارثة بكل المقاييس، وهى مسلسل عرض مستمر تراه فى الإسكندرية والقاهرة والجيزة وهى مدن كبرى المفترض ان تكون بأحدث المواصفات والمعايير فى البناء والإشراف والمتابعة والمراجعة لكل المبانى.. لكن السادة الموظفين والمهندسين فى الأحياء ليس لديهم وقت للمتابعة.

فى اعتقادى أن السبب وراء هذه الانهيارات التى تودى بحياة العشرات أو المئات من الأبرياء جاء من إهمال وعشوائية وفساد الماضى بالإضافة إلى انعدام الرؤية والخيال والمهنية لدى المسئولين فى الأحياء، فلم تكلف اللجان الهندسية فى الأحياء والمحافظات أن تقوم بعمل قاعدة بيانات عن جميع المبانى والمنازل فى كل حى ومدى سلامتها وصلاحيتها للسكن والاقامة.. ودرجة الأمان التى تتمتع بها، ومناطق الخلل فيها ومدى تهديدها لسلامة وأرواح الناس وبناء على ذلك تتخذ الإجراءات والتدابير اللازمة سواء فى الصيانة أو الترميم أو الإزالة دون السماح للعبث فى مصير الناس سواء أو تقاضى الإكراميات أو قل «الرشاوي» للتغاضى عن اتخاذ القرار السليم والصحيح وهنا تحدث الكارثة فلماذا لم تذهب اللجان الهندسية إلى منزل الوايلى قبل حدوث الكارثة، وهل لدى حى الوايلى معلومات وبروفايل عن هذا المبنى، وهل حذر الحى السكان، وهل اتخذ الإجراءات الهندسية أو القانونية وطالب السلطات بإخلاء العقار؟.

الحقيقة أن هناك شقاً آخر فى القضية وهى المبانى والعمارات والمنازل القديمة فى الأحياء الشعبية، هو أن مالك العقار لا يذهب إليها وربما ينسى تحصيل الإيجار لأنه للأسف إيجار لا يناسب العصر أو السوق العقارى وهناك بون شاسع بين القديم والحالى وغياب للعدالة.. فالساكن أو المستأجر الذى يدفع 3 أو 5 جنيهات فى الوحدة السكنية أو الشقة لا يهمه فى الحياة إلا التمسك بوحدته السكنية وبنفس القيمة الإيجارية ويرفض أى محاولات أو مبادرات للصيانة أو الإصلاح أو الترميم ويريد من المالك الذى يحصل على خمسة جنيهات قيمة إيجارية ان يقوم بالإصلاح والصيانة والترميم.

فى اعتقادى أن المبانى القديمة والكثير منها آيل للسقوط ويشكل قنابل موقوتة تهدد حياة الناس ولن يكون منزل الوايلى الأخير لذلك أطالب بالآتي:

أولاً: فحص جميع المبانى والعمارات والمنازل فى الأحياء، وجمع قاعدة بيانات عن كل مبنى ومنشأة فى الحى ودرجة صلاحيته للسكن والإقامة وهل هو آمن وسليم للاطمئنان على أرواح الناس، خاصة أنه عقب زلزال 1992 انهارت منازل، وقامت الأحياء بإزالة بعض الأدوار من منازل أخري.. وترميم وصيانة الأخرى بطبيعة الحال وحتى لو كانت هذه الإجراءات التى تمت عقب الزلزال سليمة وشفافة فإنه من الطبيعى ان تتعرض للتقادم والمدى الزمنى لاستمرار صلاحيتها فات وعدى لذلك من المهم إجراء المراجعات الهندسية على كافة العمارات والمبانى والمنازل فى الأحياء بنزاهة وشفافية واتخاذ الإجراءات الموضوعية حيالها حتى لا تتعرض حياة الناس للخطر.

ثانياً: ضرورة وجود تشريع أو قانون يحاسب موظفى ومهندسى الأحياء على التقصير والتخاذل.. ويعاقب المواطن الذى يقاوم من أجل الاستمرار فى السكن أو الإقامة فى المنازل الخطرة والآيلة للسقوط.

ثالثاً: ايجاد وحدات سكنية بديلة لسكان العمارات والمنازل والمبانى غير الصالحة للسكن والآيلة للسقوط خاصة ان الدولة تتوسع فى إقامة المدن السكنية التى تخاطب كل الفئات ويحصل عليها المواطن بتيسيرات وتسهيلات وضمن مبادرة التمويل العقارى مع سرعة الإجراءات.

رابعاً: الإسراع فى التعامل مع المساكن القديمة وإيجاراتها.. بحيث يكون هناك إيجار عادل يتناسب مع المواطن.. ويمكن المالك من المساهمة فى أعمال الصيانة والترميم والمعالجات الهندسية للاطمئنان على سلامة المبانى بالشراكة مع سكان العقار وبنسب يضعها القانون.

خامساً: تغليظ العقوبة على المالك والمقاول إذا تعرض المبنى أو العمارة للانهيار والسقوط بعد مرور وقت يحدده المتخصصون والمهندسون والمكاتب الهندسية الموثوق فيها وخبراء البناء، لضمان سلامة الأجيال القادمة وردع كل من يحاول العبث فى أرواح الناس.

سادساً: لابد من حصر وتصنيف جميع المبانى والعمارات والمنازل فى جميع الأحياء خاصة الأحياء الشعبية والقديمة.. وان تكون لديها قواعد بيانات وتوصيف لحالة كل مبنى، وسنوات صلاحيته أو مدى احتياجه للصيانة والترميم، مع ضمان شفافية ونزاهة التعامل من قبل الموظفين والمهندسين فى الأحياء مع الملاك أو المواطنين.

لا يمكن ان نفاجأ بحوادث انهيارات المبانى وسقوط ضحايا أبرياء، فربما لا يحدث هذا العام، لذلك نحتاج إلى حصر دقيق للمبانى (الآيلة للسقوط) أو التى تشكل خطراً على السكان.. وللأسف تتكرر نفس الأحداث.. ولا نتعامل معها أو نتعلم الدرس ونتخذ الإجراءات والتدابير الصحيحة فلا يعقل ان تكون مثل هذه الانهيارات مازالت موجودة فى مصر رغم التقدم الكبير، وقدر مصر بعد 2014 ان تتحمل فاتورة أخطاء وكوارث وفساد الماضى الأسود الذى مازلنا ندفع ثمنه حتى الآن.

عندما تمر بسيارتك على الطريق الدائرى والذى يشكل صورة (البلد) لترى حجم المبانى العشوائية على (جانبى الطريق) تتأكد أن هذه البلد كانت (نايمة) على مدار عقود طويلة، فالمشهد يشير لك انها كانت بلد (أبوكيفه).. كل واحد يفعل ما يحلو له وتدفع نفس البلد التى عزمت وامتلكت الرؤية والإرادة لبناء الدولة الحديثة فاتورة هذه الأخطاء لإزالة هذا القبح دون الاضرار بالمواطن أو الساكن وتعويضه بشكل مناسب من أجل توسعة الطريق وان يكون بشكل حضارى لائق ويتواكب مع دولة زى الكتاب ما بيقول بأعلى المعايير العالمية.

فى اعتقادى ان الإعلام مطالب بالتركيز على تناول هذا الملف الخطير، والقضية المهمة التى ترتبط بأرواح الناس.. وتحقيق العدالة بين المالك والمستأجر.. حتى يقوم كل منهما بدوره تجاه الحفاظ على الأبرياء.. بالإضافة إلى عودة الضمير لبعض موظفى ومهندسى الأحياء، واللجان الهندسية فى جميع المخالفات.
مازالت بعض مظاهر رحلة المعاناة والعذاب التى يعانيها المواطن على أيدى بعض الموظفين الذين اتخذوا من الوظيفة الحكومية وسيلة للتربح غير المشروع أو أنها مجرد وظيفة تحقق لهم عائداً.. مرتب ومكافآت وينشغلون عن أداء واجباتها لأعمال تجارية أو وظيفة أخرى.

فالطبيب والممرضة فى المستشفى الحكومى يذهب إلى المستشفى وعيادة القطاع الخاص فى أوقات عمله الحكومي، والمدرس يترك مدرسته من أجل الدروس الخصوصية فى «السناتر»، أو منازل الطلاب، و(الموظف) الخدمى يترك وظيفته والمواطن يتعذب.. من أجل أن يمارس أعمالاً أخرى فى أوقات عمله.. فعلاً اتمرمغ فى تراب (الميري).. وفى النهاية الناس تشتكى من الأمراض والكوارث وعقوق الأبناء ولا يدرون أنه بسبب وجراء أعمالهم من أكل السحت والمال الحرام.. (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) صدق الله العظيم.

 

Dr.Randa
Dr.Radwa