الأحد 24 نوفمبر 2024

ثوابت جرجي زيدان في "روايات تاريخ الإسلام"

  • 21-7-2017 | 15:22

طباعة

د. حامد أبو أحمد

كتب جرجي زيدان اثنتين وعشرين رواية ضمن سلسلة "روايات تاريخ الإسلام". وهو يبدأ العمل بقائمة تضم أبطال الرواية، تليها قائمة أخرى بالمراجع التي اعتمد عليها. فمثلا نجد المراجع الخاصة برواية "عبد الرحمن الناصر" هي: تاريخ المقريزي، طبقات الأدباء المؤرخ كوندي، تاريخ رومي، الأحكام السلطانية، العقد الفريد، الأمالي للقالي، كتاب الحواشي، الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، نفح الطيب، وتاريخ ابن خلدون. وبذلك فإن أول الثوابت عند جرجي زيدان هو الاعتماد على عدد من المراجع تاريخية كانت أو أدبية أو غير ذلك. ويمكن أن تختلف المراجع وفقا لطبيعة كل رواية. ففي رواية "الأمين والمأمون" نجد بعض المراجع المذكورة إضافة إلى مراجع أخرى مثل تاريخ التمدن الإسلامي للمؤلف نفسه، وتاريخ ابن الأثير، وأبي الفدا، وسير الملوك، ومعجم ياقوت، وكتاب البلدان لليعقوبي، وتاريخ المسعودي.

ولا يعني هذا أن جرجي زيدان في "روايات تاريخ الإسلام" ينقل تاريخا، وإنما الأمر، في الحقيقة، ما هو إلا استعانة بالتاريخ، وليس التاريخ فقط، بل الواقع السياسي والثقافي والفكري والاجتماعي والاقتصادي خلال الفترة التي تدور فيها أحداث الرواية. فالتاريخ خلفية في غاية الأهمية، وكذلك الواقع المذكور. ولهذا يحس القارئ أنه يعيش العصر الذي يقرأ عنه في الرواية بكل أبعاده، وذلك من خلال حدث وأشخاص ووقائع يمكن أن نعدها هامشية بالمقارنة بالأحداث التاريخية الكبرى، لكن هذه الهوامش تقفز لتصير هي الواجهة، وهي المتن. أي أن جرجي زيدان ينطلق من الهامش ليصل إلى المتن. وهذا أحد الثوابت المهمة في روايات تاريخ الإسلام.

ففي رواية "عبد الرحمن الناصر" – على سبيل المثال – يمكن أن ينتظر القارئ وفقا لما يسمى بأفق التوقعات في "نظرية التلقي"، أن يقرأ عن جهاد الناصر طوال خمسين عاما ضد الخارجين على نظام حكمه، ومن أبرزهم ابن حفصون الذي بسط سلطانه على طائفة من المدن والحصون القوية فيما بين رُنده ومالقة، وكذلك التهديدات القوية من جانب الممالك المسيحية الشمالية، ولكننا لا نجد في الرواية أي أثر لذلك فيما عدا فقرة وردت على لسان عبد الرحمن الناصر في آخر الرواية عندما طلبت منه الزهراء أن يعفو عن أخيها سالم الملقب بصاحب النقمة، وكان أحد الخارجين على الخليفة، فرد عليها قائلا: "عفوت، ولكنني لم أفهم  ما يحمل هؤلاء على الخروج، وكان الإسلام على وشك السقوط فأنهضته، وكانت الدولة مبعثرة فجمعت شتاتها، وقهرت أعداءها. ألم أرفع شأن الإسلام بعد أن كادت هيبته تذهب بما أتاه أصحاب بغداد من أسباب الضعف، فأتاني ملوك النصارى يتزلفون ويتقربون، وهاداني أمير ملوك النصرانية وخطبوا مودتي؟ أليس في ذلك عز للإسلام والمسلمين؟ من استطاع ذلك من الخلفاء قبلي؟ وأنتم مع ذلك تتآمرون وتتواطؤون؟.

إذن لو أن جرجي زيدان كان يريد أن يكتب تاريخا لتوقف عند الأحداث الكبرى، لكنه كان يكتب رواية يستمتع بها القارئ، ولهذا لجأ إلى استخدام العناصر والتقنيات والمهارات الخاصة بهذا الفن والتي سوف نتوقف عندها بشيء من التفصيل، لكنه في الوقت نفسه كان حريصا أشد الحرص على أن ينقل للقارئ أجواء الفترة التاريخية التي يكتب عنها. وبذلك فإني أرى أن هذا المؤلف البارع المثقف الموهوب استطاع أن يحدث توازنا دقيقا ومحسوبا بين العناصر الفنية للنوع الأدبي الذي يكتبه وبين الوقائع والأحداث والأجواء التاريخية. وهذه قدرة لا يمتلكها إلا من حباه الله بثقافة واسعة. ومعروف أن جرجي زيدان كان مثقفا كبيرا تشهد على ذلك كل مؤلفاته والتي أذكر منها الآن كتابه المهم "العرب قبل الإسلام" وهو كتاب يبحث في أصل العرب وتاريخهم ودولهم وتمدنهم وآدابهم وعاداتهم من أقدم أزمانهم إلى ظهور الإسلام، وكتابه الآخر "تاريخ التمدن الإسلامي". وقد كتب عنه المؤرخ المشهور الدكتور حسين مؤنس قائلا: "تحدثت في مقدمة تاريخ التمدن الإسلامي" عن جرجي زيدان المؤرخ والأديب، وذكرت فضله على تاريخ العرب وحضارتهم، وبقي أن أؤكد هنا (يقصد تقديمه لكتاب "العرب قبل الإسلام") تقديرنا نحن المؤرخين المصريين لهذا العالم الجليل الذي يعتبر بحق رائد المدرسة المصرية من المؤرخين، ومؤسس التاريخ على المناهج الحديثة عند العرب المعاصرين".

فجرجي زيدان يقدم للقارئ رواية تنطلق من أحداث ووقائع تاريخية ومن ثم فإن أهم تغيير يدخله المؤلف هو تبديل مواقع الشخصيات: فبدلا من أن يكون الخليفة عبد الرحمن الناصر هو البطل الأساسي للرواية نجد شخصية هامشية تحتل هذا الموقع هي سعيد الوراق صاحب مكتبة قرطبة، وبهذا يبدأ الفصل الأول الذى جاء تحت عنوان "في مكتبة قرطبة". وسوف نكتشف أن سعيدا هذا هو جاسوس الخليفة الفاطمي في بلاط الخليفة الأموي، وأن مهمته الأساسية هي إثارة القلاقل والاضطرابات في دار الخلافة الأموية بالأندلس لمصلحة الخلافة الفاطمية الناشئة في منطقة شمال إفريقيا.

وتأتي جارية من بغداد اسمها "عابدة"، وهذا هو الفصل الثاني، وهي أديبة تحسن الغناء والضرب على العود، وقد تعلمت ذلك على يد أساطين الغناء في بغداد. وقد أحبت عابدة سعيدا الوراق حبا لا مثيل له، لدرجة أنها قالت له: "إني لا يقع بصري على بصرك إلا شعرت كأنك غلبتني على أمري وقيدت إرادتي بإرادتك، فأشعر كأني عضو من أعضائك يخضع لإرادتك ويعصاني". وقد سألها سعيد: إذا اقتضت الحال أن تقتلي أحدا بيدك فهل تفعلين؟ فردت: "إذا كان ذلك في إمكاني فعلته". وهذا ما كان يريده منها سعيد ذلك المتآمر الكبير، أما الحب فإنه لم يشعر نحوها بأي حب.

وسوف يحدث تقارب شديد مع الفقيه ابن عبد البر لا سيما بعد أن فشل الأخير في إلقاء خطبة أمام جمع من الناس في حضور الخليفة، وكان هذا سببا في فقدانه لمنصب كان يسعى إليه وهو القضاء. وأثناء ذلك نهض إسماعيل القالي صاحب الأمالي فخطب، وخطب أيضا المنذر بن سعيد فأجاد كثيرا، وأدى ذلك إلى توليه القضاء. أما ابن عبد البر فقد نقم على الخليفة وبدأ مع سعيد الوراق يتآمر على البيت الأموي. وكانت أول ضحية لهما الأمير عبد الله الذي اقترب منه سعيد وترك عنده عابدة لإحياء ليالي الأنس والغناء في قصره، وعندما علم الحكم أخوه بذلك طلبها منه، فانتهز سعيد الفرصة للوقيعة بين الأخوين لدرجة أنه كان يكتب بنفسه رسائل الأمير عبد الله إلى أخيه الحكم رافضا إرسال عابدة إليه. وبالإضافة إلى ذلك أوغر سعيد وابن عبد البر صدر الأمير عبد الله تجاه أخيه بعد اختيار الحكم وليا للعهد، وقد أقنعا عبد الله أنه كان أحق بولاية العهد من أخيه لزهده وحصافته وميله للعدل. وتمضي الحبكة القصصية لتنسج خيوط المؤامرة بدخول الزهراء محظية الخليفة في الخط، وإن كانت الزهراء لم تشترك في المؤامرة بل كانت تعمل لصالح الخليفة الذي أحبها ولم يدخر وسعا في سبيل إرضائها لدرجة أنه أنشأ من أجلها مدينة الزهراء المشهورة في قرطبة والتي بنيت في حضن جبل العروس ومازالت آثارها بادية إلى الآن. وتنتهي الأحداث بقرار الخليفة الناصر بقتل الثلاثة الذين رأى أنهم تآمروا عليه ومنهم ابنه، وأمر بأن يوضع لوح على الباب الكبير للقصر كتب عليه ما معناه: "نفذ حكم الشريعة بالقتل في كل من الأمير عبد الله ومحمد بن عبد البر الفقيه وياسر رئيس الخصيان لخيانتهم وخروجهم على أمير المؤمنين وحامي حمى المسلمين،  ومؤيد الدين وعلي ولي عهده، وهذا جزاء الخائنين. ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب. فليعتبر كل من سولت له نفسه الأمارة بالسوء أن ينبذ الطاعة ويخرج على الجماعة وأولهم ذلك الخائن الملقب بصاحب النقمة".

ولصاحب النقمة هذا قصة أخرى، فهو – كما أسلفت – أخو الزهراء التي كانت تسمى "حسناء" يوم حملت صبية من صقلية وبصحبتها أخوها سالم. وقد تفرق الاثنان بعد ذلك، وظلت حسناء أو الزهراء في حالة تعاسة وشقاء على الرغم من نعيم القصور ورغد العيش. أما سعيد الوراق فهو سليمان الذي صحبهما في السفينة وتسبب في ضياع أخيها منها، وهو الذي رباه على كره المروانيين لدرجة أنه أصبح من أعتى الخارجين على الدولة. وكان سعيد يكن حبا شديدا للزهراء هو الذي دفعه إلى أن يصبح جاسوسا للفاطميين في دار الخلافة في قرطبة.

الحب محرك الأحداث

وهكذا نرى أن الحب يمثل أحد الثوابت المهمة في روايات تاريخ الإسلام. فهو الذي يحرك الأحداث، ويدفع الشخصيات لاتخاذ مواقف حاسمة وفعالة، ويؤدي إلى حوك الدسائس وتدبير المؤامرات وغير ذلك مما يدخل في الفعل وردود الفعل. ولهذا نجد في المواجهة الأخيرة بين الخليفة الناصر وسعيد الوراق هذا المشهد الذي ننقله بنصه: "تنهد سعيد تنهدا عميقا، وأجال نظره في الحاضرين حتى وقع على الزهراء، وكانت شاخصة ببصرها إليه وقد غطت رأسها بالنقاب وأخذ منها الإعجاب به كل مأخذ، فلما رأته ينظر إليها حولت نظرها عنه، أما هو فلما وقع نظره عليها ابتسم ابتسامة شفت عن معان كثيرة، وتنهد ثانية وقال وهو يوجه كلامه إلى الناصر: "إن السبب الذي حملني على ما ارتكبته هو أشرف الأسباب، بل هو الوسيلة الوحيدة لجمع شتات الناس، وتأليف قلوبهم، وحفظ أنواعهم. وهو الذي أمر به الشرع، وأوصى به الله، وقد امتدحه الحكماء وتغزل به الشعراء، بل هو أكبر الفضائل. ذلك السبب يا سيدي هو الحب".

وفي رواية "الأمين والمأمون" – وهذا مثال آخر- نتصور أو نتوقع أن المؤلف سوف يتناول الأحداث التاريخية الكبرى التي أدت إلى مقتل الأمين وتولي المأمون الخلافة، ولكننا نجد أنفسنا أمام قصة أخرى من قصص الحب بطلاها هما: بهزاد ذو الأصل الفارسي الذي أراد أن ينتقم من العباسيين لمقتل أبي مسلم الخراساني بأمر الخليفة المنصور، ومقتل جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي ونكبة البرامكة جميعا على يد الخليفة هارون الرشيد. أما الطرف الثاني فيتمثل في ميمونة بنت جعفر البرمكي التي كانت صغيرة حين قتل والدها فربتها جدتها لأبيها عبادة بنت محمد. وسوف نكتشف في آخر الرواية أن بهزاد هو حفيد أبي مسلم الخراساني.

وهكذا من خلال أحداث قصة الحب بين بهزاد وميمونة تتكشف لنا الأجواء والخلفيات التاريخية التي تعطينا فكرة واضحة عن طبيعة الحياة وسير الأحداث في ذلك العصر بما في ذلك الأحداث التاريخية الكبيرة التي صنعت تاريخ الإسلام في ذلك الوقت. ولا شك أن الشخصيات الأخرى في الرواية تلعب أدوارا مهمة مثل سلمان خادم بهزاد الذى كان يتخفى في شخص الملفان سعدون قارئ الطالع والعارف بالنجوم، وكان له دور كبير في حوك الدسائس والمؤامرات، وهو الذي ساعد بهزاد مساعدة قوية في الانتقام من العباسيين. هناك أيضا الفضل بن الربيع وزير الأمين وكان له دور بارز في نكبة البرامكة، والفضل بن سهل وزير المأمون، وزبيدة زوجة الرشيد أو بالأحرى أرملته، وزينب بنت المأمون، ودنانير مربية زينب وطاهر بين الحسين قائد المأمون. ومما يميز جرجي زيدان أن ملامح الشخصيات عنده واضحة تماما ومرسومة بدقة وإحكام، ومهما كانت الشخصية أساسية أو هامشية فإنها تقوم بدور بارز في البناء الدرامي للرواية.

والبناء الدرامي للعمل يمثل أيضا أحد الثوابت الرئيسية في روايات تاريخ الإسلام. فالصراع هو الأساس: صراع بين الأب وابنه، وبين الأخ وأخيه، وصراع من أجل الوصول إلى الهدف حتى ولو كان القتل هو النتيجة الحتمية لهذا الصراع. فسعيد الوراق –على سبيل المثال- كان يتوهم أنه سوف يسترد حبيبته الزهراء من الخليفة الناصر، ولهذا ارتكب كل ما لا يخطر على البال للوصول إلى هذا الهدف، على الرغم من أنه كان يعرف أن الزهراء أو حسناء منذ صباها الباكر كانت تنفر منه. والصراع يمكن أن يظهر في أشياء بسيطة مثل تنازع الحكم ولي العهد وأخيه الأمير عبد الله لعابدة الجارية المغنية الأديبة، وتنافس الاثنين أيضا في اقتناء الكتب. والحق أن جرجي زيدان يجيد استخدام هذه الأشياء لتقديم دلالات تخدم البناء الدرامي لعمله القصصي.

استلهام الأشعار

أشرت من قبل إلى أن الخلفيات في روايات تاريخ الإسلام ليست تاريخية فقط وإنما هناك خلفيات أخرى أدبية وفكرية وثقافية . من ذلك توظيف الأشعار، التى يجيد جرجي زيدان اختيارها من عشرات المراجع الأدبية. فعندما ذهب سعيد الوراق لمقابلة الخليفة الناصر في مجلسه بقصر المؤنس ياسر كبير الخصيان قرأ على باب المجلس الأبيات التالية:

صل من هويت ودع مقالة حاسد

ليس الحسود على الهوى بمساعد

لم يخلق الرحمن أحسن منظرا

من عاشقين على فراش واحد

متعانقين عليهما أزر الهوى

متوسدين بمعصم وبساعد

يا من يلوم على الهوى أهل الهوى

هل تستطيع صلاح قلب فاسد

فتذكر سعيد أنه قرأ هذه الأبيات وهو في بغداد في صدر مجلس المأمون. وكان مجلس الخليفة الناصر نفسه يمتلئ بالطنافس المزركشة بأبيات الشعر. وننقل منها الأبيات التالية:

هجرتني كي أجاريكم بفعلكم

لا تهجريني فإني لا أجاريك

قلبي محب لكم راض بفعلكم

أسترزق الله قلبا لا يجافيك

أصبحت عبدا لأدنى أهل داركم

وكنت فيما مضى مولى مواليك

وبراعة جرجي زيدان في اختيار الأبيات الشعرية تذكرني ببراعة نجيب محفوظ في اختيار الأشعار. ففي رواية "ليالي ألف ليلة" نقرأ:

يترجم طرفي عن لساني لتعلموا

ويبدي لكم ما كان صدري يكتم

ولما التقينا والدموع سواجم

خرست وطرفي بالهوى يتكلم

ونقرأ ايضا:

لو علمنا مجيئكم لفرشنا

مهجة القلب أو سواد العيون

وفرشنا خدودنا والتقينا

ليكون المسير فوق الجفون

ونقرأ كذلك:

أنا في الغربة أبكي

ما بكت عين غريب

لم أكن يوم خروجى

من بلادي بمصيب

عجبا لي ولتركي

وطنا فيه حبيبي

الوصف

من أهم الثوابت في روايات تاريخ الإسلام الوصف، ولا شك أن تاريخ الخلفاء والأمراء قد منح جرجي زيدان مساحة تصرف فيها ببراعة فائقة: فهو يصف القصور والمجالس والحدائق والطبيعة والأشخاص والمدن والجلسات نفسها والقاعات والمواكب وصفا ينم عن معرفة قوية بالأجواء التاريخية والمراجع التى قدمت زادا وفيرا يغترف منه كما يشاء، لدرجة أنه ينقل قارئه ليعيش هذا الواقع التاريخي بكل أبعاده ودلالاته. من ذلك ، في رواية "الأمين والمأمون" وصفه للطبيعة عند نهر دجلة، فيقول: "وكانت زينب في أثناء الحديث تنظر إلى مجرى دجلة وعيناها تتأملان على الشاطئ الآخر من النخيل القائم كالأصنام الهائلة، يتراءى من خلالها في عرض الأفق بر فسيح تغشاه الأشجار والأعشاب، تتخللها أبنية متفرقة كأنها أحجار كريمة نثرت على ديباجة خضراء. وكانت الشمس قد مالت إلى الأصيل فوقعت ظلال النخيل على الماء واستطالت وتراءت في قاع النهر معكوسة كأنها نبتت جذورها من الشاطئ لتنساب في الماء". والحق أن الوصف يأخذ مساحة واسعة في كل عمل روائي لدرجة أني من براعة الوصف ودقته وشاعريته كنت أستمتع بقراءته أكثر من مرة سواء كان وصف شخصية أو مكان أو منظر طبيعي أو حفل سمر أو غير ذلك.

ولا شك أن القارئ عندما يقرأ روايات تاريخ الإسلام سوف يطلع على أوصاف لا مثيل لها، وسوف نكتفي هنا بأحدها وهو وصف مجلس الخليفة الناصر، حيث وصفه جرجي زيدان بما يلي: "فلما دخل سعيد على الخليفة رآه في صدر المجلس قاعدا على سرير من الذهب الخالص. والمجلس قاعة كبيرة جدا في وسطها بركة يأخذ لمعانها بالبصر، لأنها مملوءة بالزئبق تقع عليه أشعة النور من نوافذ في جدران المجلس يغشاها زجاج ملون، فيتلون سطح الزئبق ألوانا جميلة يزيدها لمعان سطحه جمالا. وفي كل جدار من جدران المجلس ثمانية أبواب، قد انعقدت على حنايا من العاج والأبنوس المرصع بالذهب وأصناف الجواهر، قامت على حوامل من الرخام الملون والبللور الصافي.. الخ".

ومما لا شك فيه أن بعض هذه الأوصاف موجودة في المراجع التاريخية الكثيرة، ولكن مهارة جرجي زيدان في أنه كان يحسن الاختيار، ويضع الوصف في موقعه من الأحداث، ويضيف إليه من خياله وبراعته في القص ما يجعله سائغا محببا وقويا في الدلالة على ما يريد الكاتب أن يقوله أو يستخدمه في ثوابت أخرى مثل عنصر التشويق الذي يلعب دورا مهما في روايات تاريخ الإسلام، ويجعل من الأدب متعة خالصة.

ومعروف أن هناك ثوابت أخرى في روايات تاريخ الإسلام مثل استخدام عنصر المصادفة التى تجعل من لقاء بعض الشخصيات بعد سنوات طويلة من البعد والتفرق أمرا ممكنا. وكذلك الدسائس السياسية التى تؤجج حدة الصراع داخل البيت الواحد أو الأسرة الواحدة، وتؤدي إلى التفنن في تدبير المؤامرات وزيادة الشقاق ومحاولة التخلص من الخصم أيا كان موقعه في نطاق ذوي الأرحام.

ولن نختم هذه الدراسة عن روايات تاريخ الإسلام قبل أن نلم بأحد الثوابت وهو استخدام التنجيم بوصفه عنصرا فعالا في الإيحاء بالثقة لدى الطرف الآخر. فسعيد الوراق في رواية "عبد الرحمن الناصر" كانت لديه معرفة بالتنجيم وقراءة الطالع والكيمياء. وهذه الأمور قربته من الخليفة الناصر لينصب شباكه ويدبر مؤامراته. وكان في بعض الأحداث يثير النقمة فيمن حوله على الخليفة بسبب إسرافه الشديد في بناء القصور وترصيع حوائطها بالذهب وغير ذلك، لدرجة أن أقداح الشراب كانت من الذهب الخالص، أما بناء القصور فكان يصرف عليها ثلث دخل الدولة، ولم يكن الناصر يرى في ذلك خروجا على النواميس العامة ، لأنه كان يعتبر كل هذا مظهرا لتأكيد هيبة الخلافة.

وفي رواية "الأمين والمأمون" قلنا إن سلمان خادم بهزاد الناقم على الخلافة العباسية كان يتخفى في شخص الملفان سعدون الذي يجيد قراءة الطالع ولديه معرفة كبيرة بالتنجيم. ومن العجيب أن قراءة الطالع والتى عملت على تقريب هؤلاء من الوزراء والخلفاء كانت تتم في العادة من خلال معرفة المنجم مصادفة ببعض ما جرى، وبالتالي فإنه يوظف هذه المعرفة في الإدلاء بأقوال للخليفة تنم عن علمه بما حدث أو سوف يحدث.

ويبقى لنا أن نشير إلى بعض التقنيات الأخرى التى استخدمها جرجي زيدان في رواياته ومنها مناجاة النفس التى تشبه ما نسميه الآن بتيار الوعي. ومنها العودة إلى الوراء ومنها استشفاف ما يجري في خاطر الآخر، وسوف نكتفي بمثال واحد  من هذه التقنية الأخيرة. فخلال مناجاة لسعيد الوراق في رواية "عبد الرحمن الناصر" تدور حول الزهراء وياسر كبير الخصيان نقرأ الفقرة التالية: "وأدرك سعيد كل ما كان يدور في خاطر ياسر فقال: إن أمر هذه الجارية حيرني، ولم أستطع كشف سرها تماما، مع أني قضيت ليلتي ساهرا لم أنم إلا قليلا أفكر في أمرها، ولما رأيتك داخلا ظننتك آتيا لتدعوني إلى أمير المؤمنين".

وهكذا نستطيع أن نؤكد أن روايات تاريخ الإسلام التي كتبت منذ فترة طويلة مازالت ممتعة ومشوقة وجذابة، وهى بالإضافة إلى كل هذا تقدم للقارئ – من خلال السرد الروائي- أفكارا مهمة ونظرات صائبة عن مراحل فاعلة في تاريخ الإسلام. ولا شك أن جرجي زيدان يعد أحد المؤرخين والمبدعين الذين نذروا حياتهم وجهودهم لقضية رابحة تركوا عنها آثارا لن تمحى أبدا طالما وجدت حياة على هذه الأرض.

    الاكثر قراءة