السبت 29 يونيو 2024

«الأصليين».. فيلم الغموض الجميل

21-7-2017 | 16:51

كتبت : هبة عادل

أصلي و«ألماظ».. أقل كلمات يمكن بها أن نصف فيلم «الأصليين» الذي شاهدته قبل أيام ولا تزال أصداء المتعة التي حققها لعقلي ووجداني تسري في ذهني.. فقليلة هي الأفلام التي تشعر أمامها بالرغبة في أن تصفق لها.. بل ربما لكل مشهد فيها وانت أمام شاشة العرض، الأصليين فيلم للمخرج المتميز مروان حامد والذي يتلقف نص المبدع المؤلف أحمد مراد وكأنه ينسج بمنتهي الحرص داخل قطعة قماش من «الدانتيل».

وقد سبق وأنتج لنا هذا الثنائي البديع مروان ومراد فيلم «الفيل الأزرق» قبل سنوات.. ليأتي «الأصليين» في ثاني تجرية تجمعهما.. متوجاً لسلسلة نجاحهما التي نتمني ألا تنقطع أبداً مادام المنتج بهذا الحجم من التوهج والألق.

«الأصليين» فيلم يبدأ بداية عادية جداً يحكي عن «سمير عليوة» رب الأسرة التقليدي.. الموظف الذي يعيش مع أسرته.. الزوجة والأبناء حياة مثل ملايين الناس.. حتي تنقلب حياته في لحظة رأساً علي عقب.. عندما يظهر في حياته شخص.. يقوم بدوره هنا الفنان القدير «خالد الصاوي» ليقنعه بأنه مراقب منذ أول يوم في حياته.. من خلاله إعطائه جهاز محمول به عشرات الفيديوهات المسجلة له منذ طفولته وحتي لحظة مشاهدته لهذا المحمول وتلك الفيديوهات بما في ذلك لحظات حياته الخاصة مع زوجته وحتي وهو في «الحمام».. بل والأعجب من ذلك أن هذا الرقيب خالد الصاوي يقنع عليوة «ماجد الكدواني» بأن كل الناس متراقبة وإن «ما فيش حد ما بيتراقبش» وهذه الجملة العبقرية هي أحد أهم مفاتيح الفيلم وفكرته الرئيسية.. ويقول الصاوي: أن هؤلاء الذين يقومون بهذه المراقبة هم مجموعة ناس تدعي «الأصليين».. ويشرح له أنه منذ قتل قابيل أخاه هابيل.. منذ بدء الخليقة.. و«الأصليين» هم أبناء الجهة التي تولت أخذ حق القتيل وهم مستمرون إلي وقتنا هذا.. ويسمون أنفسهم بـ «حراس الوطن».. فنظل نحن المشاهدين مشدوهين لنعرف من هم «الأصليين».. هل هم جهة أمنية سيادية؟!.. هل هي فكرة دينية تعكس فكرة الملكين اللذين يقفان علي كتفي كل إنسان.. أم هي رموز وإسقاطات لأشياء أخري يدع فيها المؤلف لكل مشاهد مساحة من خياله ليتصورها كيفما يشاء حيث تيمة العمل الأساسية تبدو متجسدة في عبارة تظهر علي تتر البداية تقول: «الخيال أهم من المعرفة» للعالم ألبرت آينشتاين.

ويقود الصاوي الكدواني لتجنيده ليكون مراقباً لسيدة تدعي «ثرية جلال» وهي البطلة منة شلبي من خلال وضعه في حجرة بها أجهزة كمبيوتر متقدمة جداً يستطيع من خلالها مراقبة أي شخص في أي مكان.. وتتوالي الأحداث علي نحو من المتعة في كل عناصر العمل.

فالفكرة مبهرة كونها جديدة ومثيرة ومكتوبة بدقة واتقان وعناية فائقة.

والتمثيل جاء كمباراة عالية الأداء خاصة في الدويتوهات التي كونها الصاوي والكدواني .. كما لعبت منة شلبي دورا صعباً معقداً بطلاقة تضيف لرصيدها الكثير.. فيما اختص دور الزوجة «كندة علوش» الكثير من رصيدها بمظهرها الرث، وكانت كالمغردة خارج السرب، وتألق محمد ممدوح في دوره وإن كان مجرد مشهد لكن لعبه بموهبة تتجدد في كل عمل يظهر فيه وتحية خاصة للقديرة هناء الشوربجي في دور الأم العفوية الجميلة للنجم ماجد الكدواني، الإخراج جاء عبقريا.. رسم لوحة منفردة في مشهد تلو الآخر.. إذا أغلقت أذنك تستمتع وإذا فتحت عينيك تستمتع وإذا أعملت خيالك فقط.. تستسلم لحالة من العصف الذهني ربما تكون غير مسبوقة.. والغموض المحمود كان سيد الموقف في الفيلم .. فثمة غموض قد يسيطر علي الأحداث يشعرك بالملل وربما السخف إذ تقف عاجزا أمام فك رموزه ولكن الغموض هنا كان يقدم بطريقة السهل الممتنع.. فكل لقطة تأتي لتشرح ما قبلها وتمهد لما بعدها بنعومة شديدة، وبإيقاع مونتاج متفوق حيث استطاع أن يدمج لقطات داخل بعضها ومكالمات تليفونية مطولة بينما الأبطال يتمشون ويمارسون كل مظاهر الحياة، وخلفيات مشاهد هذه الحياة في الخلفية بقطع سريع ومتلاحق ومتناغم صنعه بعناية المونتير أحمد حافظ.

كما جاءت الموسيقي التصويرية للمبدع هشام نزيه وكأنها بطل رئيسي وقد سمعته في حوار تليفزيوني يقول: أردت أن تسكن الموسيقي داخل الفيلم كجزء من تصميمه.. وهذا ما استطاع نزيه صنعه بالفعل.

أما الإضاءة.. فقد خلقت جوا خاصا لم يكن الفيلم ليخرج بهذا التفوق بدونها خاصة إضاءة الحجرة الحمراء الخاصة بكمبيوترات المراقبة التي يجلس فيها الكدواني.. والمشاهد الغامقة جداً في لقائهما في الدهليز أو أثناء التمشي داخل ممرات الخوص والزروع العالية فيما كان مدير التصوير أحمد المرسي موفقاً إلي أبعد الحدود في خلق هذه الأجواء.. التي تؤهل الفيلم مع تكامل كل العناصر لأن يكون فيلما عالميا بامتياز.

***

مشاهد متتالية إذا أغلقت أذنك تستمتع بها وإذا فتحت عينيك تنبهر بها وإذا أعملت خيالك تستسلم لحالة من العصف الذهني غير المسبوقة .