الجمعة 28 يونيو 2024

ثورة الشعب حدود الإنجاز.. وخلود القيم

23-7-2017 | 17:46

بقلم –  د. صفوت حاتم

 ٦٥ عاما تمر اليوم..على ثورة يوليو١٩٥٢.. ومازال الجدل حيا.. يتصاعد حول هذه الثورة.. إيجابياتها وسلبياتها..

وينشب الصراع الفكرى بين أنصارها ومعارضيها فى جدل لا ينتهى.

وهو جدل وصراع لا ينتهيان بمرور الزمن. 

فالثورة الفرنسية..التى يعتبرها الكثيرون « أم الثورات « المعاصرة.. لازالت تحظى بذات الجدل والإنكار..بعد أكثر من قرنين على اندلاعها، ويمثل كتاب « جوستاف لوبون « روح الثورات....نموذجا لهذا النوع من الفكر المعادى لفكرة الثورة بشكل عام.

فالثورات..فى مفهوم هؤلاء..هى تمرد مذموم يدمر أسس السلام والاستقرار الاجتماعيين..ولا ينتج عنها سوى الفوضى والدم والحقد.

ورغم أن الفكر العالمى يضع الثورة الفرنسية فى مكانة متقدمة فى تطور النظم السياسية ويعتبرها الرافعة الحقيقية لكثير من المفاهيم الإنسانية كالحرية.. والإخاء.. والمساواة.

ولازال هناك فى فرنسا من لا يرى فى الثورة الفرنسية سوى سنوات الدم والقتل وسقوط الرؤوس تحت المقصلة التى حصدت آلاف الرؤوس من أعداء الثورة..ومن مؤيديها..على حد سواء !!

ورغم هذه الصورة الكئيبة عن الثورة الفرنسية .. فالفكر السياسى الحديث يعترف بالإيجابيات والنتائج غير المنكورة لها على تطور النظم السياسية والاجتماعية.. والتى يمكن تلخيصها فى الآتى :

 ١- النتائج السياسية:

إحلال النظام الجمهورى بدل الملكية المطلقة، وإقرار مبدأ فصل السلطات وفصل الدين عن الدولة والمساواة وحرية التعبير ووضع حد للاستبداد وثم وضع دستور جديد وإعلان حقوق الإنسان وتوحيد فرنسا سياسيا و اقتصاديا وإداريا ولغويا.

٢ ـ النتائج الاقتصادية: تم القضاء على النظام الإقطاعي، وفتح المجال لتطور النظام الرأسمالى وتحرير الاقتصاد من رقابة الدولة وحذف الحواجز الجمركية الداخلية، وأصبحت الميزانية تقترح من طرف الحكومة ويصادق عليها البرلمان.

٣ ـ النتائج الاجتماعية: تم إلغاء امتيازات النبلاء ورجال الدين ومصادرة أملاك الكنيسة، كما أقرت الثورة مبدأ مجانية وإجبارية التعليم والعدالة الاجتماعية وتوحيد وتعميم اللغة الفرنسية وانفصلت الكنيسة عن الدولة وأصبح الطلاق مباحا والقضاء مجانيا وهو من مهام الدولة.

وإذا كان لنا أن نقيم الثورة الفرنسية فإنه يمكن القول بأنها مثلت تحولا كبيرا فى تاريخ فرنسا الحديث، وأثرت فى باقى المجتمعات الأوربية، هذا بالرغم من أنها غرقت فى دماء الإرهاب وظلماته إلا أنها أورثت القرن التاسع عشر الحرية والمساواة والإخاء، لتقوم فيما بعد على أسس أمتن من تلك التى عجز الثائرون عن إقامتها.

 لكل هذا..وغيره.. احتفل الفرنسيون عام ١٩٨٩..على اختلاف مشاربهم وتياراتهم الفكرية.. من اليمين واليسار..بمرور قرنين على الثورة الفرنسية وأثرها الحاسم فى التاريخ الفرنسى والتاريخ المعاصر.

الثورة الروسية

 تعد الثورة الروسية بحق أهم حدث تاريخى فى القرن العشرين.

ويعد صعود الاتحاد السوفييتى عام ١٩١٧..ثم سقوطه عام ١٩٩٠ هو الحدث السياسى الأبرز والمميز للقرن العشرين.

فلا يمكن..مثلا..تصور نجاح حركات الاستقلال الوطنى المناهضة للاستعمار والإمبريالية دون دعم الاتحاد السوفييتي.. وموقفه المبدئى من هذه الحركات الوطنية.

 ولا يمكن..مثلا.. تصور انتهاء الحرب العالمية الثانية وهزيمة الفاشية والنازية..دون المشاركة الفعالة للاتحاد السوفييتى فى هذه الحرب..والتضحيات المادية والبشرية التى دفعها والتى وصلت لحوالى ٢٦ مليون سوفييتى من أصل ٦٠ مليون شخص..هم كل ضحايا تلك الحرب.

ورغم التضحيات البشرية والقمع الذى شهدته فترة حكم «جوزيف ستالين».. لكن لا يمكن إنكار الدور الذى لعبه فى تطور الإمبراطورية السوفياتية وسيطرتها على مساحة جغرافية كبيرة فى القارتين : الأوربية والآسيوية..

ولا يمكن.. طبعا.. إنكار دور ستالين فى قيادة بلده والانتصار على النازية.

كما أنه لا يمكن إنكار دوره فى تأسيس الصناعة الروسية المتقدمة، وبناء الجيش الروسى الحديث.. وتحويل روسيا إلى قطب سياسى وصناعى وعسكرى مواز للقطب الأمريكى.

 ورغم سقوط الإمبراطورية السوفييتية وتحلل جمهورياتها.. تظل الدولة الروسية حاملة جينات الدولة السوفييتية وطموحاتها وقدراتها المختزنة.

هذا يفسر لنا إصرار الرئيس الروسى « فلاديمير بوتين « على الاحتفال بالعيد المئوى للثورة الروسية فى أكتوبر من هذا العام.. رغم انهيار الإمبراطورية السوفييتية التى شيدتها الثورة الروسية عام ١٩١٧..ورغم انتهاء سيطرة الشيوعية كفكر.. وانتهاء سيطرة الحزب الشيوعى على الحكم فى روسيا.

   ثورة يوليو ١٩٥٢ والاستقلال الوطنى 

 يرجع البعض بإرهاصات ثورة يوليو ١٩٥٢ إلى هزيمة الجيش المصرى فى حرب فلسطين عام ١٩٤٨.

وقد يبدو ذلك صحيحا...

ولكن مقدمات ثورة يوليو ١٩٥٢ تعود لعام ١٨٨٢واحتلال بريطانيا لمصر.

فلقد عمل الاحتلال البريطانى على إضعاف الجيش المصرى وتحطيمه وتجريد مصر من أى قوة حربية.

وقد تتابعت مؤامرات الإنجليز على الجيش المصرى لمحو هويته الوطنية.. بالقضاء على ما تبقى من قوات الزعيم الوطنى الخالد « أحمد عرابى «.

فأرسلوا الجيش المصرى للقضاء على الثورة المهدية فى السودان..والتى كان يقود الجيش فيها قواد إنجليز غير أكفاء للجنرال « هكسلى «.. والذى تسبب بجهله العسكرى فى إبادة معظم الجيش المصرى فى موقعة « شيكان» فى ٥ نوفمبر عام ١٨٨٣.. أى بعد عام من الاحتلال!!

 وبعد انتهاء حملة الجيش المصرى فى السودان.. أنشأت بريطانيا جيشا مصريا هزيلا يفتقر للتسليح والكفاءة..

ويفتقر قبل كل شىء للروح الوطنية والمعنويات القتالية.

وكان يرأس هذا الجيش ضابط إنجليزى « سردار «.. أى قائد عام.. ويتولى قيادته ضباط إنجليز.

وهبط عدد الجيش إلى عشرة آلاف ضابط وجندى.. واستبعد الضباط الوطنيون.. وتفشى النفاق بين الضباط المصريين وخضوعهم للقادة الإنجليز وتملقهم لهم.

ومنذ الاحتلال عام ١٨٨٢.. أغلق البريطانيون المدارس الحربية والبحرية.. واقتصر التعليم العسكرى على مدرسة واحدة يلتحق بها أعداد قليلة من الشباب الوطني.. ويقتصر التعليم بها على معلومات لا قيمة لها..ويقوم بالتعليم فيها مدرسون معظمهم من الإنجليز.

وبعد إعلان ٢٨ فبراير عام ١٩٢٢.. والذى اعترف صوريا بمصر كدولة مستقلة.. بقى الجيش المصرى تحت قيادة « السردار « الإنجليزي.. وكان آخر سردار إنجليزى هو « السير لى ستاك « الذى أغتيل فى ١٩ نوفمبر عام ١٩٢٤.. وأطاح اغتياله بوزارة الزعيم الوطنى « سعد زغلول «.. وأعقب ذلك الإنذار البريطانى الذى قضى بإقصاء الجيش المصرى عن السودان نهائيا !!

لكل هذا..وغيره.. كانت قضية الاحتلال البريطاني.. والاستقلال الوطنى هى القضية الأساسية وراء الحركة الوطنية المصرية منذ عرابى وحتى ثورة يوليو ١٩٥٢.

وقد حققت ثورة يوليو هذا الهدف من خلال حرب الفدائيين فى القناة فى نهاية عام ١٩٥٣.. التى كانت سببا مباشرا فى إرغام البريطانيين على التفاوض وتوقيع اتفاقية الجلاء فى ١٩ أكتوبر عام ١٩٥٤.... وإقرار جلاء الإنجليز جلاء تاما عن الأراضى المصرية خلال فترة عشرين شهرا من تاريخ التوقيع على الاتفاق.

وقد تم جلاء آخر جندى إنجليزى يوم ١٨ يونيو عام ١٩٥٦.

وهكذا خرجت الجيوش البريطانية من مصر بعد ٧٤ عاما من الاحتلال والمهانة والذل.

لقد انتصرت مصر فى معارك عديدة للتحرر الوطني.. وانهزمت فى معارك عديدة..

لكن تبقى قضية الاستقلال الوطنى أهم القيم التى زرعتها الثورة فى أجيال مختلفة من المصريين.

إنها محدودية الانجاز.. وخلود القيم.

العدالة الاجتماعية 

 من الأشياء المعلومة والمكررة فى كتب التاريخ.. سوء توزيع الثروة فى مصر قبل ثورة يوليو.

ففى عام ١٩٥٢ كان ٦ ٪ من ملاك الأراضى الزراعية يسيطرون على ٦٥ ٪ من جملة الأراضى الزراعية.

كانت حياة المصريين اليومية تنوء تحت أهرام من الظلم يعود إلى آلاف السنين.

وبعد تطبيق أول قانون للإصلاح الزراعى فى ٩ سبتمبر ١٩٥٢.. بعد ٤٦ من الثورة.. عرف المصريون لأول مرة معنى « العدالة الاجتماعية « بشكل عملى بعد سنوات طويلة من الأحلام والأماني.

ومهما كان قصور أو محدودية إنجاز  ثورة يوليو  أو انتكاسها فى هذا المضمار.. فإنه يظل هدفا باقيا فى عقل ووجدان أجيال عديدة من المصريين..

إن معالجة قضية الاستقلال الوطنى والتخلص من الاحتلال البريطانى ظل هو محور نضال كل القوى السياسية قبل ١٩٥٢.

ولكن مع ثبات هذا الهدف لدى قادة ثورية يوليو من الضباط الصغار..فقد تفتح وعيهم بشكل غائم على قضية الاستغلال الاجتماعى وسوء توزيع الثروة فى البلاد..

لقد أدرك هؤلاء الضباط الثوريون أن بناء دولة مدنية حديثة لا يمكن أن ينجح فى ظل تخلف الأوضاع المعيشية لملايين الفلاحين من الأجراء والترحيلة وصغار الملاك.

 ومع نهاية الخمسينيات ثبت للضباط وهم التحالف مع الرأسمالية المصرية لتصنيع البلاد والتخلص من نمط الإنتاج الإقطاعى الريفى المتخلف اجتماعيا تكنولوجيا.

 وبالرغم من هزيمة يونيه ١٩٦٧..فقد ظلت طاقة الدفع الثورى مستمرة.. وكان هدفها الأول استعادة دور الجيش المصرى كجيش محترف لحماية البلاد وإبعاده عن السياسة وتلقيحه بقيادات عسكرية محترفة كالفريق عبد المنعم رياض  محمد فوزى وسعد الدين الشاذلي.. ونظرائهم فى البحرية والقوات الجوية.

 وهكذا انتهى دور الجيش كقوة مشاركة فى حكم البلاد.. ليتحول لقوة حامية للبلاد.

وظلت طاقة التطور الاجتماعى مستمرة فى الريف المصرى بعد حادثة كمشيش عام ١٩٦٦.. بعد مقتل مناضل شاب كان يستقصى أوضاع الإصلاح الزراعى فى منطقته.. وقد قتل بأمر من عائلة الفقى  ذات النفوذ.. وعلى الفور تشكلت لجنة عسكرية - مدنية لتصفية الأوضاع الإقطاعية فى الريف المصري.

إن الطريق الوطنى الذى سارت عليه ثورة يوليو كان نابعا من النضال الوطنى المصرى الخالص..وليس تقليدا ﻷى تجربة فى الشرق أو الغرب.

 ومهما كانت الانتقادات التى توجه لشخصية عبد الناصر.. وبغض النظر عن موجات التملق أو الكراهية الذى تعرضت لها شخصيته ونظام حكمه.. فسيظل له الفضل الأول فى تثبيت مفاهيم وقيم الدولة الوطنية الحديثة :

 ١ - تأسيس النظام الجمهورى وحمايته من الانهيار أو الارتداد كل فترة حكمه.

 ٢- تأسيس الجيش الوطنى الحديث وتخليصه من سيطرة ورقابة القواد والضباط الإنجليز.

 ٣- إبعاد الجيش عن السياسة والحكم والانقلابات العسكرية.. وتحويله لجيش محترف ومتفرغ لحماية الوطن بعد هزيمة يونيه ١٩٦٧.

٤- طرح برنامج عمل اجتماعى ذى صبغة اشتراكية لتحقيق العدالة الاجتماعية والانحياز الصريح للفقراء والطبقات المتوسطة.

 ٥.ـ وضع فكرة التقدم وتصنيع البلاد كهدف عملى للخروج من العلاقات الريفية والريعية والتحول للإنتاج للاستهلاك المحلى والتصدير.

 ٦- طرح فكرة القومية العربية كشعار عملى لمستقبل مصر مع شقيقاتها العربيات.. دونه تضيع مصر وتضيع البلدان العربية.. وهو ما تأكد بعد ما سمى « الربيع العربى «.

إن محدودية الإنجاز فى كل هذه الأهداف لا يمكنه أن يمنع كل هذه القيم من الاستمرار.. وأن تظل خالدة فى العقل العربي.. .

مهما طال الزمن..

ومهما احتشد أعداء التقدم..
ومهما كتب كارهو الثورة !!!