مكرم محمد أحمد*
هذا المقال كتب ودوي أصوات الرصاص لا يفارق عقل وآذان كاتبه الذي كان قد نجا للتو من محاولة اغتيال علي يد إرهابيين عابثين. نعيد نشر ما كتبه مكرم محمد أحمد في مجلة المصور ( ١٩٨٧ ) ونفتتح بها ملفنا هذا، لنقول لقارئنا إن ما حدث مع كاتب أعزل لم يحمل سلاحا سوى قلمه، يؤكد أن إخوان التكفير وأعداء الكلمة يحاربون من منصة الأمس إبداع اليوم والغد.
أشكرك ربى، الحمد والنعمة لك، لا شريك لك، وحدك القادر، بيدك الأمر، بيدك الحياة، بيدك الموت، ما أعرت يدا أخرى حق النجاة وحق الموت، حتى إن أمطرت ضحيتها وابلا من رصاصات ظالمة وجهولة، فظة العقل والفؤاد، إلا أن تكون، أنت وحدك، يا الله، قد أذنت.. سبحانك أنت علام الغيوب.
دقيقتان؟! ثلاث؟! أكثر؟!
لا أعرف سوى أنه كان وقتاً بطيئاً، تحجرت فيه الدقائق المعدودة، دهراً ثقيلاً فوق الصدر، يكتم الأنفاس، يستحث الموت، يتعجله إن كان مقدراً خيراً من رعب الانتظار.
محاصر أنا فى كابين سيارتى، تحت عجلة القيادة، والرصاص ينهمر، يدوى فى المكان، وزجاج السيارة يتفجر شظايا شاردة من حولى.
لم أكن قد أدركت بعد، أننى المقصود، وأننى الهدف، وعندما هممت برأسى من تحت عجلة القيادة، أتطلع من زجاج سيارتى، المثقوب برصاصتين كانت وجهتهما الدماغ، التقت عيناى بعينيه، كان فى المقعد الخلفى لم يزل يصوب سلاحه والمسافة بيننا ستة أمتار.
عيناى تسألانه، فى دهشة استنكار مذعورة: ماذا فعلت؟! وماذا جنيت؟! لكنهما تخاطبان وجه الإرهاب.. وجها جامدا كقناع شمعى، خلف يد لم تزل ممدودة بالموت، وعندما دوى صوت الرصاص مرة أخرى، كان الذعر يسود المكان، كانوا قد أطلقوا على أرض الشارع دفعة نيران أخيرة إرهاباً للجميع.
عندما توقف صوت الرصاص، هممت برأسى مرة أخرى، لأرى سيارة الجناة وهى تمرق من زحام الميدان، وخرجت مسرعاً إلى الرصيف بين جموع الناس حول الحادث، يسعفون جرحى “البيجو”، ويسعفون من سقط فى الشارع بشظايا الرصاص التى طالت واجهات المحلات القريبة.
واقف أنا على الرصيف، الدم ينزف من جرح أحدثته شظية زجاج نزعتها من راحة اليد، معافى وإن كان يعتصرنى من الداخل أسف حزين، خجول، وأنا أرى الجمع ينقلون الجرحى لإسعافهم، حائراً يساورنى بعض القلق فى أن يعود الجناة بعد أن يلفوا الميدان كى يحاولوا مرة أخرى، أسأل نفسى مهموماً، إن كان قد سقط سبعة من الجرحى فى المرة الأولى، فكم يكون عدد الضحايا فى المرة الثانية؟
ما ذنب هؤلاء؟ ما جريرتهم؟!.
إن كانت الصدفة قد جمعتنا فى حادث كنت المقصود به، فلست أملك سوى أسف الاعتذار، أملاً فى أن يدركوا أننى الآخر لا ذنب لى أو جريرة، شفيعى إليهم، أننا جميعا ضحايا لرصاصات الإرهاب.
بعد عشرين دقيقة، أنقذنى من هذا الهم، سيارة شرطة حملتنى إلى مبنى وزارة الداخلية.
من يكونون؟
لا أعرف.
إسلاميون؟
إسلاميون، لا وإن تسموا بأسماء مسلمة.
إن كانت مغفرة القادر قد وسعت فى الإسلام، كل الكبائر إلا أن يشرك به، فلماذا هذا القصد الفظ، خمس وعشرون رصاصة تطلقها يد الإرهاب قبل منتصف الليل بساعة، فى ميدان لا ينفض زحامه قبل الواحدة صباحاً، لتطول كاتباً أعزل، فتصيب سبعة من الجرحى مصريين عاديين، ذنبهم الوحيد، أنهم كانوا على المقهى أو كانوا يتأهبون لركوب سيارتهم، عندما مرت إلى جوارهم، فى صدفة عاثرة، سيارة شخص ربما لا يعرفونه، ربما قرءوا أو لم يقرءوا له، لكنه مرصود، لا لأنه أشجع الجميع، ولكن لأن كبيرته أنه رفض أن يصدق أن يكون الدين مطية للإرهاب إثمه العظيم، أنه تساءل عن الأهداف والوسائل والذرائع.
وكبيرته التى استحقت حكماً بالإعدام، أنه تشكك فى النوايا، سأل نفسه وسألهم: ماذا تريدون الآن من رصاصات الإرهاب، تطلق هنا أو هناك، إلا أن تعصفوا باستقرار بلد هو أحوج البلاد إلى استقرار يعيد فى ظله البناء.
وعندما يصبح شاغل المصريين أن يخرجوا من تجاربهم الطويلة والصعبة إلى طريق واضح، تحددت أهدافه فى تنمية عادلة وديمقراطية صحيحة.. أفلا يكون من حق كاتب مصرى أن يسأل رصاصات الإرهاب مهما يكن مصدرها، لماذا تريد أن تقطع الطريق على مصر وهى تناضل عبر مصاعب ضخمة وعديدة، تستعيد نفسها من أجل أن تبنى غداً أفضل لإنسانها المكدود، حتى لا تبقى أفقر الجميع وقد كانت أغناهم، حتى لا يدهمها ضيق الأرض، وضيق الرزق، فتعجز حتى عن أن تسد رمق أجيالها الجديدة.
أو ليس من حق كاتب مصرى لا يملك سوى أن يقول كلمته، أن يعض بالنواجز حفاظاً على بدايات طريق صحيح يقود إلى ديمقراطية مكتملة، بعد أن توهنا الاختيار الشمولى طويلاً، أو ليس من حقه أن يسأل عن البديل إلا أن يكون فوضى شاملة تتجسد أمام أعيننا الآن خرابا فى لبنان ودمارا يأكل الحرث والنسل فى طهران.
أو ليس من حقه، أن يعتقد بأن أى اختيار شمولى لن يصلح لمصر الراهنة قام هذا الاختيار الشمولى على حكم المستبد العادل، يرتدى ثوب الثوار أم ثوب الكهنة، لأن العدل والاستبداد لا يجتمعان، ولأن حكم الفرد مهما بلغت مكانته أو قداسته، يقود فى النهاية إلى كارثة محتومة.
فى مصر يكفينا سابقة ما حدث فى هزيمة 1967.
فى طهران، من يجرؤ الآن على أن يراجع نخبة الدين الحاكمة كى يقول لها: كفى هذا الدمار!
لو أن الشجاعة واتت أحدا، فسوف يكون مصيره الموت إعداماً، لأنه اجترأ على أن يعترض على مشيئة فرد تصور أن مشيئته من مشيئة الرحمن.
من يستطيع أن يقول لنا، كم من الضحايا حملت أجسادهم أعواد المشانق أو سقطوا برصاص الإعدام فى طهران، لأنهم اجترءوا على هذا السؤال.
أو ليس من حق كاتب مصرى وهو يرى فى وطنه بؤرتين نشيطتين للإرهاب أن يحذر، من أن مصر مستهدفة من دوائر عديدة يسوؤها أن تستقر الأوضاع فى مصر الداخل، بينما ريح السموم تعصف من حولها بنذر الخطر، تطول أماكن عديدة، تجتث فيها وحدة الوطن وتغتال شرعيته وتأخذ مصيره إلى مجهول وفوضى لا يبدو أن لهما نهاية.
ثم ماذا يملك هذا الكاتب سوى الكلمات، إن كان قد أخطأ ففى الإسلام الصحيح له ثواب من اجتهد، وفى الإسلام الصحيح، يكبر عن ثوابه ثواب من صحح له الخطأ، بالحوار، بالكلمات، بالقول الحسن، بالحجة فى مواجهة الحجة، لا بأحكام التكفير، أو أحكام الإعدام.
كبيرتى يا سادة، أننى أشركت بهذا الطريق، لأننى لا أراه طريقاً إلى الله.
كبيرتى يا سادة، أننى لا أعرف بعد من يكونون!
إسلاميون؟
إسلاميون لا، وإن تسموا بأسماء مسلمة.
مصريون؟
مصريون لا، وإن حملت بطاقاتهم الوصف.. لأنه ليس فى شخصى الضعيف، ما يصلح أن يكون هدفاً لمصرى.
لم أسرق، ولم أكتنز، ولم أخن، ولم أقبض رشوة.
عشت عارقاً، أجهد الفكر حلماً بغد مصرى أفضل.
أخطأت عشر مرات كى أصيب مرة، لكننى فى كل المرات فقط، تحدثت! فقط، تكلمت! فقط، أسلت على الورق أفكاراً وأخبارا تصلح للقبول وتصلح للرفض، لا تلزم أحداً سواى.
لماذا أنا؟! وفى صحافة مصر أقران آخرون، كان لهم نفس الموقف، بل لعلهم كانوا أكثر شجاعة ورواجاً.
ربما فقط، كنت - كما يقولون - أسهلهم صيداً، كانوا يعرفون العنوان وكانوا يتابعون نمط الحياة، البيت والمكتب ومنزل الصديق.
أخطأت الرصاصات طريقها إلى، لكن الحادث وضعنى فى مكانة قد لا تطولها قامتى، غمرتنى فيها مشاعر مصرية نبيلة من مصريين عاديين، يروننى على الطريق إلى مكتبى، محشوراً فى سيارتى بين حارسين، فيلوحون بأيديهم تحية وتشجيعاً.
من أساتذة أجلاء وزملاء أفاضل، فاضت مشاعرهم بما يعجز القلم، إحسان ومصطفى أمين وهيكل وبهاء والخولى والشرقاوى ومراد ومحسن وإدريس والطويلة وجلاب والأنصارى، جميعهم رفضوا قسمة اليسار واليمين والوسط، ليقولوا “لا” لإرهاب الكلمة.
من أعلام تزهو بهم ثقافة مصر وفكرها، خالد محمد خالد ومحمد حسن الزيات، وفرج فودة، وآخرين.
من نقابة شجاعة، كانت دائماً حصناً منيعاً يدافع عن حق مصر فى صحافة حرة ومستقلة، ثم وجدت نفسها أمام مهمة جديدة، أن تدافع عن حق مصر فى صحافة حرة وآمنة.
من شباب فى المهنة لم يزل غض الإرهاب كتبوا فى برقيتهم: “إن كانوا قد أصابوا منك راحة اليد اليمنى، يكفيك منها، الإبهام والسبابة، لتمسك القلم ثابتاً دون رعشة.
من أهل بيتى فى دار الهلال، حذرونى أن أخاف، فالله وحده خير حافظ.
من ناس لم ألقهم من قبل حتى على سماعة التليفون.
كم كانت رقيقة ومشجعة كلمات عادل إمام وهو يصرخ على الناحية الأخرى من خارج القاهرة: لابد من أن نفعل شيئاً، نحن الفنانين، أن نضرب ساعة، أن نخرج فى مظاهرة، المهم أن تعرف مصر كلها، أننا أيضاً نقول “لا” لأننا إن سمحنا باغتيال الكلمات اليوم، فسوف يغتالون غداً.