انتهينا في مقالنا السابق الذي حمل عنوان "الإيمان والإلحاد.. الحقيقة والأكذوبة في واقعنا" عند تساؤل: هل سنجد عملاً فنياً – فيلم أو مسلسل – يعرض ويُناقش قضية دون المساس بالأعراف والتقاليد والدين؟ هل سيقدم لنا الفن عملاً لا يعتمد بالضرورة على المشاهد والألفاظ والإيحاءات الخارجة والخادشة للحياء، بحُجة عرض القضية ومعالجتها أو بحجة هذا ما يطلبه الجمهور؟ وفي كلمةً واحدة، ما هو الدور الحقيقي للفن اتجاه المجتمع؟
ولكي نتعرف على القيمة الحقيقة للفن المُتجسدة فيما يُقدم في كل المواد الفنية، وأشهرها المسلسلات والأفلام، سنختار نموذجان لمسلسل وفيلم لكي يكونا معرض حديثنا، من خلال تشريحنا لقصة كل عمل منهم لنبين ما قيمة هذا العمل وما الرسالة التي يُقدمها للمجتمع. لذلك وقع اختيارنا على مسلسل (يوميات ونيس) بأجزائه الثمانية، أما الفيلم هو (الضيف).
ولنبدأ بالمسلسل (يوميات ونيس) – حسب موقع ويكيبيديا – وهو مسلسل مصري كوميدي عائلي مكون من ثمانية أجزاء. تم تصوير الجزء الأول منه عام 1994، حيث تدور أحداثه حول ونيس الشخصية المثالية الذي يريد تربية أبنائه تربية صالحة ويواجه في سبيل ذلك العديد من المشاكل من قبل المجتمع الذي يكتشف أن فيه من يحتاج إلى التربية أولًا. وقد حاز المسلسل على إعجاب الكثير من المصريين والعرب، وبعد نجاح المسلسل تلفزيونيًّا تم تحويله إلى مسرحية شارك فيها نفس أبطال المسلسل. كما شهد الجزء السادس العديد من التغيرات خصوصًا بعد وفاة الفنانة سعاد نصر التي تؤدي بالمسلسل دور شخصية الأم، حيث تم اعتبارها متوفاة وأهدي العمل إلى روحها. وشهد الجزء الثامن أحداث ما بعد ثورة 25 يناير والاختلافات الفكرية التي حدثت للأولاد والأحفاد نتيجة للتغيرات الأخلاقية والسياسية بعد الثورة بالإضافة لانطلاق حملة المليار لتطوير العشوائيات.
إلا انه يستوقفني في هذا العمل الفني الفريد الأكثر من الرائع، ما يقوله الفنان المُبدع صاحب الأسلوب الراقي الأستاذ محمد صبحي في بداية تتر المسلسل، "اتفقتُ أنا وزوجتي أن نُربي أبناءنا على الأخلاق والقيم؛ لنقدمهم للمجتمع أباً عظيماً وأُماً فاضلة.. ولكننا اكتشفنا ونحن نُربي أبنائِنا أننا نُربي أنفسنا معهم".
كما أننا نستطيع ان نُجزم أنه مسلسل تربوي أخلاقي موجه للآباء والأمهات والأبناء في آن واحد، فهو من المسلسلات التي قَلّما تجدها في وقتنا هذا. تستطيع عزيزي القارئ، أن تجلس مع أبنائك سوياً لتُشاهد هذا المسلسل، دون الخوف من كلمة بذيئة، أو مشاهد خادشة للحياء.
أضف إلى ذلك، أن من ابطال هذا العمل وهو الفنان الأستاذ محمد صبحي صاحب مبدأ ورسالة في أعماله، نجد أن مردودها أخلاقياً في المقام الأول. ونستطيع أن نستنبط هذا بسهولة من أحاديثه، قائلاً: "حقا القيم انهارت والأخلاق اضمحلت عندما انهار التعليم وأصبح مهنة وليس رسالة وصار مصدر دخل المعلم من امتهان كرامته علي يد تلامذته".
أما العمل الفني الآخر، وهو فيلم (الضيف) تدور أحداثه حول شاب يعمل أستاذًا في الجامعة والمعروف بآرائه المتشددة بعض الشيء، والذي ينزل ضيف على العشاء مع أسرة الدكتور يحيي التيجاني بدعوة من ابنته. والذي يقيم تحت حراسة مشددة نظرا لآرائه الجريئة ويتحول العشاء إلى نقاش حاد بين الأب والضيف الأب يحاول إقناعه بالحجة والمنطق، بفكرة أننا جميعا نسيج واحد ولا بد من تقبل كل منّا الآخر حتى مع اختلاف العقيدة أو الديانة، وأن الدين ليس بالمظهر وأنه أعمق من ذلك بكثير إلا أن الضيف يظل متمسكا بآرائه ويصاب بصدمة عندما يكتشف أنه متزوج من مسيحية.
وأما الابنة جميلة عوض فهي تمثل الشخصية الحائرة بين مفهوم الصح والخطأ في المجتمع. فهي نشأت في أسرة ليبرالية تربت فيها على حرية الرأي والاختيار. ومع ذلك تخفي على صديقها أن والدتها مسيحية وعلى الجانب الآخر فهي سئمت هذه التربية مشيرا إلى أن الحرية مليئة بالقيود ومن ثم تنبهر بآراء الضيف والذي أقنعها بأن ترتدي الحجاب لرغبتها بأن تكون تابعة أو مسؤولة من شخص أقوى منها، وأما في النصف الثاني فتنقلب الأحداث رأسا عقب ليظهر الوجه الآخر للضيف ويقوم بتهديد العائلة بالسلاح ليتضح أنه ينتمي إلى إحدى الجماعات المتطرفة والمطلوب منه تصفية الدكتور يحيي، ولكن بأسلوب مختلف.
يبعث الفيلم بعدة رسائل أهمها أن الأفكار الخاطئة ليست مرتبطة بارتداء جلباب أو بلحية، فالضيف كان شابًا وسيمًا أنيقا يرتدي أحدث الطرازات ومع ذلك يتخفى وراء قناع مليء بالمعتقدات الذي لا يستطيع التخلص منها بينما أكد الفيلم أنه ليس هناك من جدوى من الإقناع بالحجة والمنطق إذا كانت الأفكار قد مسحت العقول تمامًا وأنه في النهاية هم من يدعونك للعنف والقتل.
نجد أن هذا الفيلم من أدنى الأعمال السينمائية التي قُدمت، فهو من الأعمال التي لا ترقى أن يُطلق عليها كلمة فن، على الرغم من منع عرضه في دور العرض المصرية، إلا أنه تم عرض فيلم «الضيف» على نيتفليكس (إحدى المنصات الرقمية والإنتاجية للأفلام والمسلسلات والبرامج التليفزيونية). إلا أننا نجد في هذا الفعل، أقصد طريقة العرض التي تم عرضه بها، تثير لدينا تساؤلات عديدة أهمها، لمصلحة من يريد أن يتم بث مثل هذه الأعمال في المجتمعات العربية؟
إلا انه بعد عرض الفيلم خرج بعض مشايخ وعلماء الأزهر الشريف للأدلاء برئيهم في هذا العلم السينمائي وأجمعوا أنه عمل يحتوي على تحريف كثير من آيات القرآن الكريم. وأخص بالذكر فضيلة الشيخ خالد الجندي (عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية). يقول: "يحتوي هذا الفيلم (فيلم الضيف) على عدد كبير جدا من الأخطاء في الآيات القرآنية، فلو أمسكنا السبحة لن تكفي عدداً لهذه الأخطاء. هذا بالإضافة إلى الأخطاء العلمية والفنية الخاصة بالمعلومات – حدث ولا حرج". وللأسف لم ينتبه أحد لهذه الأخطاء (فلم يسأل أحد) وأكمل فضيلة الشيخ حديثه قائلاً: "لو أنا صاحب القرار لازم أحول الرقابة على المصنفات الفنية للتحقيق، هذا تحريف لكتاب الله، من الأولى أن تُسحب هذه النسخ من السينمات لإعادة ضبط الآيات القرآنية ووضعها في صورتها الصحيحة". والسؤال الآن، لمصلحة من يحدث كل هذا؟ هل تتخيلون حجم الكارثة التي أمامنا؟ هذه الكارثة ليست فقط في الآيات التي سيسمعها أبنائنا أصحاب الأعمار المختلفة وشبابنا، بل في الأمور اللا أخلاقية التي قُدمت في هذا العمل.
والسؤال الآن، ما أثر مثل هذه الأعمال التي تدعي أنها تُقدِم فن وصاحبه رسالة، على مجتمعنا وبالأخص على شبابنا؟ هل سيكون مردود هذه الأعمال له وقت وينتهي، أم انه ممتد؟ ما هو الغرض الفعلي من هذه الأعمال الهابطة؟ حتمًا سنجد أن هدفها الأول هو بث أخلاقيات ليست هي أخلاقيات وعادات مجتمعنا المصري العربي، هذا من جانب. ومن جانب آخر، هدم الأخلاقيات التي نبهنا عنها الدين، والعادات التي تربينا عليها والتي نص عليها الدين.
انظروا معي إلى شوارع اليوم وشبابنا الذي أصبح يُعاني سوء اللفظ وسوء الخلق، انظر إلى مجتمعاتنا اليوم، وانظر على وسائل الاتصال ونحن نسمع الألفاظ القبيحة. كما أننا لا نستطيع – بدون مبالغة – أن نجلس مع أطفالنا وأبنائنا سوياً لنُشاهد مسلسلا على شاشة التلفاز، دون أن نسمع كلمة قبيحة، حتماً سنسمع كلمة فاجرة، أو نُشاهد مشهدًا خليعا، يظهر فيه أشخاص يرتدون ملابس فاضحة، هذه المشاهد والكلمات التي تُقال، لا تمت الأخلاق بصلة. كما وصل الأمر إلى أننا لا نستطيع أن نسير في الشارع، لأننا حتماً سنرى منظر يُنبئ عن سوء الأخلاق، عن الفحش والتفحش، وللأسف يُسمى هذا تمدن وتحرر، وتحضر، وإذا عارضت هذا يقولون لك أنت متخلف، ورجعي، ومتطرف، ومتشدد، وأزيد من ذلك سيقال لك وعليك.
العجيب في الأمر أن كل مصطلحات الدين تُقلب لعكس معانيها، بمعنى أن الفحش والتفحش صار تمدنًا وتحضرًا، وقطيعة الأرحام صار أمرا عاديا، وحجتهم في ذلك المثل الشعبي المتردد على لسان البعض (الأقارب عقارب). والسؤال الآن، هل قمنا بمقارنة حالنا بما نعيشه من سوء، وعندما نطلب من الله سبحانه وتعالى أن يرضى عنا، ويوسع أرزاقنا، ويجنبنا ويجنب بلادنا الفتن ما ظهر منها وما بطن؟ هل قرأنا قول الحق تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد:11). أين نحن من هذه الآية؟ أين هذه الآية مما يقال في أحاديثنا؟ لماذا ضاعت هذه الآيات من قاموسنا؟
أنظروا إلى أخلاقنا وقل (أغايةُ الدِّينِ أن تُحْفوا شواربكم.. يا أمةً ضحكتْ من جهلها الأمم) المتنبي. وأنظروا أيضًا في تقليد الأمم السابقة، وتقليد ما يسمون أنفسهم فنانين، أنظر لتقليد شبابنا لهم، حتى وصل الأمر في التقليد إلى حلاقة الرأس، وفي ارتداء الملابس سواء للبنات والشباب. وحجتهم في ذلك أنها مواكبة للعصر. يا للأسف، وكل الأسف، أصبح الآن من يتمسك بدينه منبوذًا في المجتمع إلا من رحم ربه.
وليكن في علمنا أنه يكفي المنتجين الدخلاء الذين ليس لهم رسالة إلا رسالة المال، مغازلة الشباك (شباك بيع التذاكر) عن طريق مغازلة الغرائز، لا باعتبار ذلك تعبيرًا فنيًا عن حالة إنسانية، وإنما باعتباره وسيلة رخيصة للاستيلاء على بضعة قروش من جيوب شباب عاطل – بحكم الظروف القاهرة – عن العمل وعاطل عن الزواج وعاطل عن الإبداع الفني أو السياسي أو الرياضي. (محمد الخشت، نحو تأسيس عصر ديني جديد، ص 185).
إلا أننا نجد في الأثر الضخم للفن عمومًا نشأت إشكالية العلاقة بين الفن والأخلاق، ومن ثَمَّ، نجد أن رأي التيارات التي تطالب الفن عمومًا والسينما على وجه الخصوص بعدم تجاوز "السقف الأخلاقي" للمجتمع ليست بدعًا ولا ابتداعًا ولا تطرفًا! فهي متوافقة مع رأي مجموعة من كبار الأدباء والفنانين والفلاسفة الغربيين. (المرجع السابق، ص 187).
ولم تعد السينما المصرية في هذه الفترة المضطربة أداة للتسلية، بل أصبحت – مثل برامج التوك شو – تعبيرًا عن حالة "الإثارة العامة"، ولا يُقصد هنا الإثارة الجنسية، بالذات، بل يُقصد حالة الإثارة الفكرية والنفسية والعصبية التي أصبحت دائرة مغلقة ودوامة لا تنتهي سقط فيها الشارع وسقطت فيما منابر الرأي. (المرجع السابق، ص 188). كما أن الصورة السينمائية – شئنا أم أبينا – هي أداة توجيه للسلوك والأفكار سواء بشكل مباشر أو غير مباشر؛ إنها أخطر من الكلمات المقروءة، نتيجة التأثير غير المحدود للصورة المتحركة. (المرجع السابق، ص 190).
عزيزي القارئ، نحن أمة لها استقلالية، نحن أمة نُقلَد وليس نُقلِد. اليوم نجد الشباب ينزلون الشوارع بالملابس الداخلية كأنها شيء عادي بلا حياء، وفي هذا قال رسولنا الكريم، عن أبي سعيد رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُم شِبْرًا بشبْر، وذراعًا بذراع، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْر ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ))؛ قلنا: يا رسول الله؛ اليهودُ والنَّصارى؟ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((فَمَن؟!))؛ رواه الشيخان.
لا يوجد لدي مانع في تقليد الغرب، ولكن ليس كل شيء يُقلد، نقلدهم في العمل والنظام في حب الوطن في التفاني في الأمانة في التقدم العلمي، حتى لا نكون متأخرين كما يسموننا. وفي عبارة واحدة، نكون منتجين، وليس مُستهلكين.
لذلك يجب أن يكون الفن – على حد تعبير الدكتور محمد الخشت كما أنني أتفق معه أتم الاتفاق – محكومًا بوعي أرقى من وعي الشارع، لكن يبدو أن هذه النظرية باتت مهددة عندنا؛ إذ صارت مقولة "هذا ما يريده الجمهور" هي المحركة لمنتجي الأفلام أو لأكثرهم. والخطورة أن السينما في مصر – عدا القليل منها – لم تعد أداة لتوجيه المجتمع أو للارتقاء بغرائزه، مثلما كان يحدث في الماضي في كثير من الأفلام القديمة التي لها الفضل في تخفيف حدة الصراع بين الطبقات والتقريب بينها، والتي كانت تحمل معظم الأحيان فكرة الصراع بين الخير والشر، وطبعًا كانت توظفها لصالح الخير في النهاية تأكيدًا لقيم العدالة الإلهية، وهنا تلتقي مع الدين في أسمى معانيه.
ونختم مقالنا، بقول الفنان محمد صبحي: "إذا أردت أن تبنى أمة عظيمة عليك أن تبنى طفلاً عظيماً بالعلم والأخلاق". وعلينا أيضًا أن نُدرب ونُمرن عقولنا وعقول أبنائنا أن يفصلوا بين الأفعال والأقوال، وأن يفصلوا بين ما يصح وما لا يصح، وليكن الضابط الوحيد أمامنا هو قول الحق تبارك وتعالى، وسنة رسولنا الكريم ووصاياه بمكارم الأخلاق. وبذلك يكون الدين هو الأساس الأول لدينا، وعلينا أيضًا ألا نُقلد الغرب في أمور لا تمت للدين والأخلاق بصلة.