الخميس 25 ابريل 2024

فضلاً لا تلوثوا الفطرة.. معركة وعي جديدة

مقالات3-9-2022 | 17:30

لم نكتفي بتداعيات كورونا على الكوكب وما أسفرت عنه من فقدان أعز الناس حتى بات لكل منا تاراً مع هذا الوباء وصانعوه، وما خلفه من عوار بأجسادنا سواء بأمراض مناعية أو بأوجاع نفسية، وتلاها اشتعال الحرب المعلنة والضمنية لتكمل ما تبقى على الكوكب من فتات بشرية تعمل على فناء جنسها بأقصى طاقاتها، ثم تجلس لتولول على حالها على مواقع التواصل ما يسمى بالاجتماعي.

فها هي الهجمة الجديدة المُسيّرة في اتجاه هدم قوام الأسرة وأفرادها تكمل مسار خطتها الخبيثة، برغم عدد المرات التي لفتت فيها القيادة السياسية إلى خطورة ارتفاع نسب الطلاق وزيادة عدد الأجيال الناشئة الفاقدة لأحضان أحد الأبوين، وما يستتبع ذلك من كم الأمراض النفسية التي يعانيها المجتمع، ووجه خطابه إلى كل رجال الدين والإعلام وعلماء النفس والاجتماع بأن يتولى كل منهم مسؤوليته تجاه المجتمع.

فأتابع من طرفي مع آخرين فوضى التصريحات التي سيطرت على العديد مما يسمى بالنخبة أو الصفوة المثقفة، ولا أعلم من منحهم حق الكلام من أساسه بالإنابة عن شعب قوامه يتخطى المئة مليون، ومن منحهم حق الفتوى في حقوق وواجبات دينية وإنسانية بحتة، لا نقاش فيها ولا جدال بوازع الفطرة السليمة لا فقط امتثالاً للتعليمات الربانية، فهي تولد بالفطرة بغض النظر عن أوامر سائر الأديان بالإحسان والمحبة، وكنت أظنه لا مجال فيه للغط بفعل الفطرة والمنطق، إلا أنه بفعل الألسنة الملتوية والقلوب المعتلة بعلة الفوقية وإثبات الذات حتى لو على أنقاض كيانات أسرية ومجتمع بأكمله، قد باتوا كثيرين هم وأتباعهم.

وبعيداً عن تلك المعارك الدائرة على رويبضة الزمان بما يسمى السوشيال ميديا، هذا المرتع المتروك للجميع على إطلاق فئاته وتوجهاته بلا رقيب ولا حسيب ولا مُنَقِّح ولا مُراجِع، أراني وغيري من بقايا تربية البيوت القويمة نشعر بالخطر الذي يهدد فكرة بقائنا من الأساس بهدف إعمار الأرض لا خرابها، والإحسان إلى كل خلقه لا التعالي عليهم أو الدخول في مهاترات ودوامات "الواجبات والحقوق"، التي هي واضحة وجلية ومنطقية وفطرية ولا غضاضة فيها إلا في نفوس من فسدت فطرتهم وتمردوا عليها.

فالخالق الذي هو منبع كل شيء، حشاه أن يخلقنا بلا قواعد وبلا هدف وبلا ميزان عدل دقيق دقة سائر حركة الكواكب، فآدم وحواء المفترى عليهم دوماً، قيل فيهم ما لم يقال في تاريخ الجحود ونكران الفضل، بدلاً من اشتقاق الحكمة والغوص في تفاصيل بدء الخلق وحكمته، فآدم الذي عاش وحيداً بائساً خلق الله له حواء لتسكن إليه لا ليتقاتلا، وعاشا حياة سعيدة حتى وسوس لهما الشيطان " فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا"، فلم توسوس حواء لآدم كما يشيع البعض الجاحد أيضاً، حتى ولو على سبيل المزاح السخيف بأن سبب نزول آدم من الجنة هي حواء "سكنه وسر سعادته" والعكس صحيح، ففعل الوسوسة كان لهما مجتمعين، والعقاب كان لهما مجتمعين، وتحملنا من بعدهما تبعات الذنب، وأكملنا عليه ما اسود من أجله الحجر الذي كان أبيضاً.

هكذا كانت بداية الخلق، وهكذا هي اللبنة الأساسية للحكمة الإلهية من خلق الذكر والأنثى على الأرض من كل شيء، "وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"، فما من شيء إلا وقد خُلِقَ لحكمة، وحكمة البشر هي السكن والإعمار، "وَمِنْ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا لِّتَسْكُنُوٓاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَءَايَٰتٍۢ لِّقَوْمٍۢ يَتَفَكَّرُونَ"، أي أن السكن أساس العلاقة التي تجمع كل ابن آدم وحواء، سكن كل منهما الآخر تماماً كما خلقت حواء من أضلع آدم، والشرط المكمل للسكن هو المودة والرحمة.

وحكمة خلق سائر المخلوقات من ذكر وأنثى للتكاثر بهدف تسيير حياة البشرية، كما أمر الله سيدنا نوح في زمان الطوفان بأن يأخذ معه ذكراً وأنثى من كل المخلوقات حتى يستطيع بمعشر المخلوقات الناجي من الطوفان، أن يبدأ حياة جديدة في بقعة أخرى بعد انتهاء الطوفان واستقرار مركبه على الجودي، "حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّۢ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ".

فمن منا ينتظر الفتوى من بشر -بعد كل تلك الآيات الصريحة الشارحة لنفسها- ومن منا في انتظار السماح لأي كائن من كان بأن يوجهنا داخل مساكننا وتحت أسقف منازلنا بما يتعارض مع ذكر الله الحكيم أو الفطرة التي خلقنا عليها.

فالغريزة الجنسية التي هي أصل الغرائز بهدف السكن والمودة والتكاثر، يستتبعها غرائز البقاء، والأمومة، كغرائز فطرية تولد مثلها مثل عضو معنوي في الجسد البشري، لا نشعر به إلا في حالات ومواقف بعينها، فالله يُنزل الرحمة والمحبة في قلب الأم مع أول نبضة لجنينها تشعر بها في أحشائها، برغم كامل الآلام والصعاب التي تواجهها على مدار شهور الحمل، إلا أنها تحتمل وتبتلع أي شيء في مقابل أن يشق هذا الجنين رحمها في طريقه إلى النور، مسبباً لها آلاماً -لا يقوى عليها أعتى الرجال- وتاركاً لها علامات بجسدها وكأنها توقيعه الحي الذي لا يزول، أنا صنيعة هذا الرحم.

هل يمكن أن يتصور أي عقل بشري أن نفس هذه الأم قد تقوم بحرمان وليدها من النعمة الني منحها "لهما" الله في جسدها هي ووليدها -دون أدنى تدخل منها- لترضعه شهداً ولبناً يشد من عظامه ويمنحه المناعة والقوة لمواجهة الحياة، هل يمكن أن تصارع فطرتها لتتخلى عن تلك اللحظات الذهبية التي تحتضن فيها وليدها إلى أقرب نقطة من قلبها ليتلمس كل منهما دفء الآخر.

وهل يمكن لأي أب متوازن وحنون ومعطاء وعطوف ألا يرى في تلك المهام الصعبة للأم منذ الحمل للولادة للرضاعة للتربية والتنشئة أنها مهام تدرج في سبيل العادة أو الواجب أو الفرض، لا والله إنها الفطرة والرحمة والمحبة الفياضة التي وضعت في قلوبنا يا سادة، لا تدخلوها في مقام الفروض والطاعات لأنها موجودة بالفعل داخل أرحامنا وأضلعنا، وليست مجالاً للتصنيف في العادة على أنها تجيء في مقام الواجبات أو الحقوق، فإذا حدث، أضعنا بذلك حكمة الخالق ببديهية وطبيعية الفطرة.

الفضل والإحسان هما صفتان لصيقتان بالعلاقة الزوجية وشرطاً أساسياً لهما "وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير"، يتشاركان نفس الجدران والأسقف والأكل والشرب وظروف المعيشة، فلا رقيب عليهما إلا الله، فلو أننا نعلم الله علمه بنا، لما تبادلنا الاتهامات وإلقاء أولويات الواجبات كل طرف على الطرف الآخر، اعلموا أنها فطرة وواجب شرعي، متى اختل ميزانها فقدت قدسيتها التي خلقت البشرية من أجله، ولا يمكن أن تستمر إلا به.

خبيثة الوقيعة المستمرة في إفشاء فقه التحزبات والتفرقة والعنصرية مستمرة ما بين مسلم ومسيحي، وأهلي وزمالك، وأبيض وشوكولاتة، وولد وبنت، وامرأة عاملة وربة بيت، وأصحاء وذوي همم، وغني وفقير، ورئيس ومرؤوس، وزوج وزوجة، ويظل القوس مفتوحاً بقدر رغبتنا في استكمال طريق النهاية المبكرة، أو بالأحرى طريق اللاعودة، أو تصحيح المسار بالعودة للخلف وترتيب الأوراق وإنارة الأبصار المعمية بالرغبة المنفردة. 

دعوة للتدبر وإعمال العقل وتغليب صالح الأسر والأبناء، هي ليست معركة أفضلية أو بقاء جنس وفناء آخر، هي معركة وعي وجب الوقوف لها بكامل قناعة لا فرض أو إجبار.

دامت القلوب والعقول مكملات للفطرة الإنسانية.

Dr.Randa
Dr.Radwa