انتهينا في مقالنا السابق، وكان هو الجزء الأول من موضوعنا، ببعض التساؤلات، هل يوجد حُجَج وَمُسْلِمَات تركها لنا بوذا أستطاع أن يُدَلِلُ بها على الوجود الإلهي؟ وما هو موقف بوذا من الديانة البراهمية؟ وأخيراً، هل لقت الديانة البوذية تطورًا، وهل كان مؤثراً بالسلب عليها أم بالإيجاب، من ناحية شعبيتها وفهمها؟ يتطلب منا الإجابة عن هذه التساؤلات، الرجوع والاستناد إلى نصوص العقيدة البوذية متمثلة فيما وصل إليه بوذا حول تصوره عن الوجود الإلهي، حتى نتمكن من الوصول إلى فهم صحيح وسليم حول هذا التصور.
إن العقيدة البوذية ببساطة ليست نسقا أيديولوجيا قصد به التقييم العقلي. ويصر البوذيون، وهم علي حق، علي: "إنك إذا أردت ان تفهم العقيدة البوذية فلابد أن تمارسها". فتعاليم العقيدة أريد لها، مذن البداية، أن ينفذها أولئك الذين ارتبطوا بالحياة البوذية، وأن ترتبط بمواقف الحياة عند التلميذ، خطوة خطوة، وهذا هو أسلوب ممارستها في آسيا حتى يومنا الراهن. ومع ذلك فإن ما يمكن نقله مطبوعا ومضغوطا هو الوصف العام لوجهة النظر البوذية من الموقف الإنساني، والحاجات الروحية للإنسان، وهي التي يعترفون أن بوذا بلغهم عناصرها الجوهرية. وحتى لا يكون حديثنا بدون أدلة آثرنا أن نستعين بنص من النصوص الأصلية لبوذا، وهي على النحو التالي:
"إن العالم غير مطمئن، ويقاسي ألما شديدا، وهو ما فتئ يتطلب راحة القلب والضمير، ليبقي في سلام الخلود، ولكن الذات المركبة من الأطماع العالمية تعصف به فتميله عن قصد. فمن كون حياتنا هذه؟ أهو "إيشفارا" الخالق؟ فإذا كان " إيشفارا" هو صانع الأشياء، فلم لا تخضع جميعهم بصمت لقوة الصانع صاغرة كما يخضع الخزفي ليد الخزاف؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف تمارس الفضيلة؟ وإذا كان العالم من صنع "إيشفارا" وجب إلا يكون فيه حزن وبلاء وخطيئة، لأن الجيد والسيء من صنعه. وإذا كان الأمر على غير هذا الوجه، وجب أن تكون سبب آخر بجانب هذا الخالق ووجب إلا تكون "الذات". أيها المفكرون بـ “إيشفارا" أن "إيشفارا" قد أنهزم وتبدد. ويقول آخرون: إن القدير خلقنا على أن القدير لا يمكن أن يكون السبب، لأن لكل من الأشياء التي تحيط بنا سببا، فالنبتة من الجنة، فكيف يكون القدير سببا لهذه الأشياء كلها؟ فإذا كانت هذه الأشياء وهي متكثرة منتشرة وجب ألا يكون هو صانعها وهي متكررة وهو واحد. وإذا قيل إن الذات هي التي صنعتها، فإذا كانت هي الصانعة، فلم لم تصنع الأشياء كلها سارة حسنة؟ إلي أن الحزن والفرح هما السبب الحقيقي، ولكن كيف أوجدتهما الذات؟ وإذا ثبت اللاوجود لصانع فوجودنا قد وجد من حيث هو ولا سبب له، فما الغاية من هذه الوجود، وما الغاية من الحياة وانقضائها؟ ولو سلمنا جدلا أن كل الأشياء الموجودة لا سبب لها، وكيفما كان الأمر، سواء كان الصانع "إيشفار" أو " القدير"، أو " الذات" أو " العلة " فإن أعملنا هي التي تنتج الخير والشر.. فدعنا نسلم بهرطقة الخضوع لايشفارى والصلاة له، ولكن أي نفع نجني؟ دعنا ألا نفقد أنفسنا باطلا بنبوءات".
لقد طرح بوذا السؤال التالي: من يصنع وجداتنا؟ هل هو ايشغار الإله الكبير الخالق الشخصي؟ ويقدم أدلة على بطلان القول بأن ايشغار هو اخالق وينفي أن يكون المطلق أو الأنا هما خلقا الكون. أما بطلان القول بأن ايشغار هو الخالق، فذلك يؤدي إلى القول بأن كل الأشياء الحية يجب أن تخضع إلي سلطان خالقها. وإذا ما كانت على هذا الوجه كيف تتمكن من ممارسة الفضيلة؟ ثمان كل الأعمال النجسة والطاهرة تأتي منه وعلى ذلك إذا لم يكن هناك سبب غيره تكون فكرة ايشغارا الخالق قد هدمت.
وإذا كانت الأنا هي الخالق فالسؤال: لماذا لم تخلق، هذه الأنا كل الأشياء لطيفة ومستحبة؟ والحزن والفرح والألم جميعها حقائق موضوعية وظاهرة، فكيف يمكن أن تكون من خلق الأنا. ولا يمكن أيضا أن يكون الخالق قد حدث صدفة لأنه عندئذ لا يعود هناك ما يبرر تنظيم الأمور الحياتية وإجراء الحسابات وتوقع النهايات للأفعال.
وينتهي بوذا من عرض هذه الحجج والاحتمالات، إلى القول: "إن كل الأشياء الموجودة ليست بدون سبب. ومع هذا فليس الإله ايشغار ولا المطلق ولا الأنا ولا الصدفة (الاتفاق) التي بدون سبب هي الخالق. لكن أعمالنا الشخصية هي التي تصنع نتائج الخير والشرور". ويختم بوذا هذا قائلاً: "لنرفض إذن البدع والهرطقات والآراء الخاطئة غير المعقولة في عبادتنا للإله ايشغار وفي صلاتنا له. كما يجب ألا نضيع في دروس وأبحاث باطلة عن أمور دقيقة ليس فيها أي نفع، ولنطلق الأنا وكل أنانية. وبما أن كل الأشياء تتحدد وتتعين بالسببية، لنعمل إذن الخير حتى ينتج الخير عن أعمالنا". أي أن دعوة بوذا إلى عدم الخوض في المسائل الماورائية "الإلهية" أتت منسجمة مع مقولته الشهيرة وهي: "إن الحق لا يُعرف بالنظريات، بل بالسير في طريقه، أي السعي إليه من طريق الأعمال. كما أنه يري أن الإنسان، عن طريق العمل، يصنع مصيره ويحدد نهايته. ولا تدخل للآلهة إذا وجدت في مصيره".
سابعآ: نقد بوذا للبراهمية وتشبيه لدي متكلمين الدين:
نجد ان بوذا يسخر من الراهمية (أتباع برهما) الذين يعتبرون أن الإتحاد ببراهما هو طريق الخلاص ويبتهلون إلى الإله إندرا (ملك الآلهة الفيداويين) ويتضرعون إلى الإله سوما (في الأصل أم نبتة عصيرها مسكر، واسم لأحد الآلهة الفيداويين) ويتوسلون إلى الإله فارونا (الإله الفيدي للسماء) والالتماس من الإله برهما. إنهم بالحقيقة، لا يتمكنون بفضل صلوتهم وأدعيتهم وتسابيحهم ومدائحهم الاتحاد بالإله برهما بعد موتهم.
ويشبه البوذا الذين يتحدثون عن الله، مع أنهم لم يروه وجها لوجه، بالرجل الذي يريد الانتقال إلى الضفة الأخرى من النهر، ويظن بأن الصلاة والتوسل إلى الإله برهما كافية لتنتقل به إلى الضفة الأخرى. إن موقف بوذا هذا من الآلهة واستبعاده الخوض في المسائل الميتافيزيقية الدقيقة، لكونها لا تجدي نفعا، دفعت معاصريه من أتباع الديانات الأخرى إلى اتهامه بالإلحاد والكفر. وحقيقة الأمر أن بوذا يعترض على الحديث عن برهما أو غيره من الآلهة لأنها غير مرئية وجها لوجه وغير معروفة، والكلام عما لا نعرف ضرب من الجنون والضلال.
ثامنا: تحويل البوذية إلى دين كامل والخلاف الناشب من ذلك التحويل:
مع مرور السنوات الطويلة بدأ الأتباع ينسون أن فكرة بوذا عن الدين كانت خلقية خالصة. وأن كل ما كان يعنيه هو سلوك الناس. أما الطقوس وشعائر العبادة وما وراء الطبيعة واللاهوت فكلها عنده لا تستحق النظر. نسي الأتباع كل هذا وراحوا يؤهلون بوذا نفسه وبدأت القصص في كتبهم المقدسة تتحدث عن الإله بوذا وتصف كيف تقدم له القربين وبعد أن كان بوذا يعظ ضد الأصنام أقام له أتباعه التماثيل في كل معبد وجعلوا منه هو نفسه إلها معبودا.
واستمرت السنوات تمضي والخلافات تستفحل وتنشب بين الأتباع الذين حولوا البوذية إلى دين كامل وراحوا يختلفون في تفسير التعاليم وأبح للبوذية كهنة، ولكن الأكثرين منهم لم يفهموا ماذا علم بوذا. وعندما لا يستطيع الكهنة فهم التعاليم الكبري لأساتذتهم يحاولون تفسرها بطرقهم الخاصة، وعندئذ يقولون إن تفسيراتهم هي وحده الصحيحة وما عداها باطل، وغالبا ما تتناقض تفسيراتهم مع ما علمه أساتذتهم. وكما هذا هو ما حدث بالفعل، ولذلك اتسعت شقة الخلافات حول ما الذي يقصده بوذا وما الذي لم يكن يقصده. وبدأت هذه الخلافات تتيح الفرصة لكثير من تعاليم الديانات الأخرى التي تعيش في الهند مثل الفيدية والبراهمية تتسرب إلى البوذية بالرغم من حرص المخلصين من التلاميذ على مقاومه تأثر عقيدتهم بغيرها من الديانات. وذلك أدي إلى انقسام بين الأتباع إلى قسمين، وهذا الانقسام كان واضحا في مؤتمر عقده انقسام البوذيين في مدينة فيسالي.
تاسعا: التدرج الناتج وظهور فكرة الولادات المتكررة "التناسخ":
إن الإنسان من وجهة نظر بوذا" مركب من جسم وروح، يفني الجسم فقط، وتبقي النفس ويطول عمرها وتعيش في كثير من الأجساد متغذية على الأرض حتى تنقي وتكمل، وعندئذ ترتفع إلى النرفانا، إن المآسي التي نصيب الإنسان الصالح هي نتيجة الأخطاء التي أرتكبها في أحدي حيواته السابقة. فحياة الفرد الروحية طويلة. وكما أن جسمه فإن الروح بحاجة لعدة أجسام كي تتحر من التناسخ في عالم مملوء بالآلام والآثام، وما الجسد إلا وعاء سريع العطب يحمل الروح مدة من السنين بين جنبيه". فالروح في البوذية تبقي وتتعاقب على الأجسام حتى تنال نعمة تكفير الذنوب. وبالرغم من ذلك لم ير بوذا الروح عائدة لنفس الجسم الذي فارقته كما يري قدماء المصريين. تكرار الولادات مسألة اعتقادية أساسية في الديانة الهندوسية والديانات التي تفرعت عنها. سلم بوذا بهذه العقيدة لكنه فهمها بطريقة مختلفة. كما أن بوذا؟ أعتبر تكرار الولادات مظهر من مظاهر الألم والشقاء الذي يعاني منه الكائن الحي. لذلك كانت هذه المسألة تشغل باله منذ بداية طريقه في السعي إلى معرفة أصول الألم وطرق الخلاص.
وفي ذلك الحين أعلن بوذا أن عقيدة الكارما (الثواب والعقاب عن الأعمال) وتناسخ الروح لا جدال فيها. لكنه أعترض على نظرية الأنا وأعتبرها بدون أساس مع ان البراهمانيين يعتبرونها الأصل الذي لا يد منه لقولهم بتناسخ الروح، على اعتبار أن الروح أو الأنا مغايرة للدبن وهي التي تحل في جسد آخر بعد الموت.
علي أنه من المؤكد إذا كان مفهوم التوحيد أو الألوهية لدي الهنود هو أن الإله. هو "برهما" فإن من المؤكد أيضا أن بوذا أول الكافرين والرافضين لوجود هذا الإله: ذلك أن الطبيعة الإنسانية لا يمكن أن تتحد بأية طبيعة أخري مخالفة لها، لا بل إنها لا يمكن أن تتحد بغيرها من كائنات. ومن هنا كان موقفه من فكرة التناسخ. وامتدادا لهذا الفكر يسعي إلى القضاء على التناسخ، لأنه يرفض فكرة خلود النفس فليس ثمة شيء وراء هذا العالم لا شيء فيما وراء هذا العالم، والحقيقة أن موقف بوذا في هذا الصدد محير ومربك. وهذا لأن القول بإنكار الألوهية يتفق إلى حد كبير مع القول بنفي النفس ومن ثم بنفي التناسخ.
علي ضوء ما تقدم، يعد بوذا من أعظم العظماء الذين عرفهم التاريخ من هذه الناحية. بل أن سيرة بوذا الذاتية كان لها الفضل الأول في نجاح مهمته التي كرس نفسه لأدائها. لقد التف الناس حوله لأن أفعاله جاءت مقدودة على حد أقواله؛ فلم يكن ثمة خلاف أو اختلاف بين القول وبين الفعل. لم يكن بوذا يفعل شيئا ويقول غير ما يفعل. هذا فضلا عن أن مطالبه الدنيوية كانت منعدمة تماما. إن هذا الرجل لم يطمع في مال أو جاه، ولم يتشبث بحسب أو نسب. لقد كانت الدنيا كلها بين يديه منذ النشأة لقد تركها لأهلها طالبا منهم أن يتركوه وشأنه، كما أنه يرفض رفضا كليآ النزعة العرقية أو القومية أو العصبية. فهو لم يميز بين فقير وغني أو وجيه ووضيع أو بوذي وغير بوذي، بل كان يري أن الناس سواسيه كأسنان المشط. الفارق الوحيد بينهم هو في التحرر والانطلاق فقط.
وأخيراً، إن بوذا نفسه لم يدع للألوهية، ولم يقل إنه حتى نبي جاء برسالة يبلغها للناس. فما كانت هذه الأمور تشغل ذهنه أو تنسيه هدفه الأساسي في الحياة ألا وهو إنقاذ البشرية من شقائها وعذابها.