حينما أقدمت على محاولة كتابة موضوع عن الإرهاصات الشعرية لنصر 1973، عدت إلى بعض المراجع في مكتبتى .. فوجدت هذا الكتاب المهم الذى يغنينى عن البحث الطويل.. فآثرت أن أعرضه للقارئ حينما وجدته يحيط بالموضوع بشكل كبير.
الكتاب هو: أثر النكسة فى الشعر العربى (1956 - 1973) للدكتور عبدالله سرور.. وقد صدر عن دار المعرفة الجامعية بالإسكندرية عام 1996.
يقول المؤلف فى مقدمة كتابه: غايتى من هذا البحث أن أفتش عن أثر النكسة فى الشعر العربى الغنائى المعاصر.. وأن أحدد ملامح شعرنا بعد النكسة..
وكعادة الباحثين الجامعيين.. عاد المؤلف إلى قيام ثورة 1952 محاولاً رسم خريطة للشعر حتى عام 1967.
ويقسم هذه المرحلة إلى ثلاثة محاور رئيسية هى:
1- شعر الواقعية الثورية.. ويعنى بها الواقعية الناصرية لمبادئ الثورة.. والمتعلقة بمبادئ الزعيم جمال عبدالناصر وإنجازاته ومعاركه الوطنية.. وقد بدأ هذا الاتجاه مدعوماً بمناصرة كبار الكتاب وفى مقدمتهم توفيق الحكيم والذى قال فى بيانه: هذه النظرة الجديدة إلى الأدب عند شبابنا صائبة لأنها لعصر أدب الكتب الذى طغى طغياناً حارقاً على أدبنا العربى طوال سنوات عديدة خلت.. بل قرون، ثم يذهب الحكيم إلى أبعد من ذلك حين قطع بأن أدب الثورة هو أدب المستقبل بعامة..
وهكذا ينطلق الأدب بفضل الثورة المصرية اتجاهاً جديداً يمجد الإنسان ويمنحه دور البطولة.. وينادى بالحرية والاستقلال وبلغ الأمر بالشعراء أن وجدنا أحدهم وهو عبدالرحمن الشرقاوى يأسف لأنه لم يشترك بجسده ويده فى مقاومة العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 بعد عجزه عن العودة من الخارج بسبب هذا العدوان فيقول:
قد كنت أحلم أن يكون دمى فداء الآخرين
قد عشت أرجو أن أخوض المعركة
لا بالقلم.. بل باليمين
قد عشت أحلم أن أسد بجثتى ذاك الطريق
كى لا يمروا..
أما صلاح عبدالصبور فيسعد بجلاء الإنجليز فى يونيه 1956 ورفع العلم المصرى على مبنى البحرية ببورسعيد فيقول:
لترتفع يا أيها المجيد
يا أجمل الأشياء فى عينى
أنت يا خفاق
يا أيها العظيم يا محبوب
يا رفيع.. يا مهيب
يا كل شىء كان فى الحياة أو يكون
يا علمى.. يا علم الحرية.
2- شعر الاتجاه الناصرى:
وقد أحب الناس عبدالناصر.. حينما خاض معهم معارك الحرية والكرامة.. وحقق انتصارات فى المجالات المتعددة.
ولم يجد الشعراء حرجاً فى التعبير عن هذه الحقيقة.. فهذه عفيفة الحصنى تقول:
أمة العرب تباهى بجمال
ناصر حقق أحلام الخيال
باعث المجد.. وعملاق النضال
رائد العدل.. ونبراس الكمال
وهذا على الجندى يقول واصفاً الرئيس:
حاملاً هم بنى العرب من دان وناء
جاهد فى حكمه العادل والحكم شقاء
الفتى (المرى) بأساً و(الصعيدى) إباء
و(الصلاحى) اعتزاماً حين يحمر العداء
والذى يصدح بالصدق ويأبى الافتراء
وأغلب الظن أن ملامح الشخصية الأسطورية كما رسمها الشعراء لعبدالناصر كان مستمدة من التراث الشعبى وأبطاله الذين تحيطهم الخوارق.. وتحاصرهم الأهوال.. ويتربص بهم الأعداء لكنهم فى النهاية ينتصرون.
3- شعر الحزن والتنبؤ:
تورط الجيش المصرى قبل نهاية 1964 فى حرب اليمن وانعكس ذلك على الاقتصاد المصرى.. وكثرت الاحتجاجات والاعتقالات.. وأحس الشعراء بالانكسار والألم.. وفى ذلك يقول أحمد عبدالمعطى حجازى:
لن أترجل
لن يأخذنى الخوف
فأنا الأصغر
لم أعرف بعد مصاحبة الأمراء
لم أتعلم خلق الندماء
لم أبع الكلمة بالذهب اللألاء
وشاعت نغمة الحزن الغامض.. والأسى العميق.. وفى ذلك يقول صلاح عبدالصبور:
هناك شىء فى نفوسنا حزين
قد يختفى ولا يبين
لكنه مكنون
شىء غريب غامض.. حنون
بل نجده يسمى زمانه: زمان السأم الذى صنعه الألم العظيم:
هذا زمان السأم
نفخ الأراجيل سأم
دبيب فخذ امرأة
بين إليتى رجل.. سأم
لا عمق للألم.
ثم يأخذنا المؤلف خطوة إلى الأمام ويرصد الشعر بعد النكسة.. ويؤكد أن الإبداع الشعرى بعد النكسة يمثل نقلة نوعية ومرحلة جديدة فى حياة الشعر العربى.. فقد نضجت رؤية الشاعر وتجسدت فى عدة محاور أهمها:
1- شعر الألم والحزن الوجودى: حيث كانت الهزيمة مفاجئة وكانت ضربة ساحقة للحلم العربى وللمشروع الثورى الكبير وأدرك الناس أنهم كانوا يعيشون فى وهم كبير..
ويصف أمل دنقل هذه الحال فى قوله:
ووقفنا فى العراء
ببقايا أعمدة
وتلفتنا فأبصرنا عظام الشهداء
تتلوى فى رمال الصحراء
تقصد النيل لكى يمنحها جرعة ماء
فسقاها كمده
ورأينا فى مرايا مائه أوجهنا
كنا عراة تعساء
أما صلاح عبدالصبور فيقول:
آه يا وطنى
أبكى مهراً وثاباً مشدوداً
فى درب المعراج إلى الله
مهراً بجناحين..
الريش من الفضة
والوشى اللؤلؤ والياقوت
إيه يا زمن الأنذال
2- شعر الصمود والإصرار: فبرغم الانكسار والهزيمة كان هناك شعراء يرفضون ذلك.. ويتمسكون بعزة الصمود.. والإصرار على رد العدوان.. ورفض اليأس والإحباط..
فهذا أمل دنقل يقول:
لا وقت للبكاء
فالعلم الذى تنكسينه على سرادق العزاء
منكس على الشاطئ الآخر والأبناء..
يستشهدون كى يقيموه على تبة
وهذا أحمد سويلم يقول:
عز علىّ أن أنام
ولا مفر من توعد.. ومن صدام
أغمد إذن حكاية الفرار من حديثنا
لكى نلبى هاتف المضيق
ونصحب الصدى على الطريق
يذيق كأس الموت والحريق
يصارع الثيران دون ما عصا ولا ملاءة
لنمسح الدمع عن السماء
ونستعيد فى زماننا النهار
ونجعل النصر على شفاهنا
قصيدة.. وصيحة.. وثار
ويومها نحكى معاً حكاية جديدة
حكاية لا تقبل الفرار
3- شعر المحبوبة - الوطن -: حيث صارت المرأة رمزاً للوطن واتسعت آفاق القصيدة فى آماد إنسانية واسعة.. فصار الشعر رمزاً دائماً لعشق الوطن.. صارت إذن لغة الحب ممزوجة بالأسى.. وصار الخوف على الوطن المحبوب الشاغل للشعراء..
يقول صلاح عبدالصبور:
أبحث عنك فى مفارق الطرق
واقفة.. ذاهلة.. فى لحظة التجلى
منصوبة كخيمة من الحرير
يهزها نسيم صيف دافئ
أو ريح صبح غائم مبلل مطير
فترتخى حبالها حتى تميل فى انكشافها
على سواد ظلى الأسير
ويبتدى.. لينتهى حوارنا القصير
ويقول أمل دنقل:
أذكرينى إذا نسيتنى شهود العيان
ومضبطة البرلمان
وقائمة التهم المعلنة
والوداع.. الوداع..
ويرفض أحمد سويلم الهزيمة.. وزيف الكلمات.. ويترجم حبه لوطنه بهذه الكلمات الحماسية:
ها نحن الفتية نلقى عن أنفسنا رؤيا الأمس
لا تعنينا أن تصدق أو تكذب
فلقد أمست رؤيانا
شوقاً محموماً للوطن
ووصايا عشر..
أمست قوتاً سلبته أمس
رءوس النمل الأسود
لن نتحول عن دنيا الإنسان
لكنا الفتية من عمر واحد
نحمل فى كفينا الموت
نتقاسم أدوار الزحف المحموم
حتى تتحقق رؤيا لا تكذب
وبعيداً عن هذا الكتاب بمكننا أن نضيف بعداً لم يذكره المؤلف.. وهو التنبؤ بالنصر.. حيث رأينا شعراء - ومعظمهم التحقوا بالقوات المسلحة عام 1986 - وكنت أنا أحدهم - هؤلاء الشعراء انعكست فى أشعارهم ما لمسوه فى تجربتهم القتالية استعداداً للمعركة.. فكانوا فى طليعة الشعراء الذين بشروا بالنصر.. وملأوا دواوينهم بهذه القصائد المتفائلة..
ولم يكن هؤلاء الشعراء يحيدون عن الصدق فى أشعارهم.. فهم يعيشون ليل نهار على أمل العبور وتحقيق النصر.. والحلم باستعادة سيناء الحبيبة نقرأ مثلاً للشاعر نصار عبدالله قصيدته (من مذكرات مقاتل كيماوى) كتبها عام 1970:
يقال: إن الأقنعة
علامة الزيف
وأنها الوجه الذى بلا ملامح
فوق محيا عصرنا المخيف
لكن أنت يا قناعى
حقيقتى.. براءتى دفاعى
ثم يقول:
تبصركم عيوننا
يا أيها الأعداء
تبصركم.. تبصركم
عبر جدار الليل
عبر عتمة الأشياء
عيوننا المضيئة.. المضاءة
تكبر فى ظلالها الأضواء
تسكب فى أضوائها البراءة
لكن فى قلوبنا
تنسكب الدماء
وهذا الشاعر المقاتل فوزى خضر يكتب قبل أكتوبر 1973:
أنا لا أقول:
على كفى الشمس
فى جيبى الريح
فى حرفى الخلد
فى خطواتى ابتداء الزمان
ولكن أقول:
أنا عائد فى يدى
سر عمر المساء
فمرنى.. أقم ذى السماء
ومرنى.. أهد السماء
ومرنى.. أكن ما تشاء
ويقول فى قصيدة أخرى:
قلت لعينيك:
سأغدو ساعداً ينزع ناب الغول أنقل النخيل..
أبدل الفصول بالفصول
أنضج الثمار عندما أشاء
أصبح لا أخشى من النضج
انحناءة الذبول..
ما دمت لى:
مدى يضمه الصباح..
أغنية على الطريق
وليلة.. عيناك فيها قريتى وعرضى
ونظرة.. تميمة..
هكذا لم يفقد الشاعر إحساسه بوطنه الذى أحبه وصار يقاتل من أجل استعادته..
وأخيراً يقول الشاعر أحمد سويلم فى أوائل عام 1973:
تتثاقل خطوات جوادى المجهد
فرمال الدرب تغطى الباب السابع والستين
ها أنذا أوقف زحفى عند الباب
كان القمر يشيع أبراجه
فى ليل العتمة
حين أغار الطاعون
ليسقط أسوار الحذر المجهولة..
يدمى وجه الحارس عند الباب
- لكن جوادى - حيث تثاقل منه الخطو
أشرف