حين يهل على الدنيا شهر ربيع الأول يصغى الزمان في تلك الليلة المباركة – الميمونة إلى أصوات الملايين من المسلمين في مختلف بقاع الدنيا يرتلون قصة المولد [مولد رسول الإنسانية ومنفذ البشرية (ص)] ويتغنون بما تمثله الوجدان المؤمن لما أحاط به من إرهاصات ومعجزات وبشارات.
تقول الدكتورة عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ" في كتابها "تراجم سيدات بيت النبوة " ص144 متحدثة عن بعض هذه المعجزات والخوارق:
"زيدت السماء حفظاً ورُدَّ عنها المردة وذوو النفوس النفوس الشيطانية، ورُجمت الجن وتدلت إليه (ص) الأنجم الزُهرية، واستنارت بنورها وهاد الحرم ورباه، وخرج معه (ص) نور أضاء قصور الشام القيصرية، فرآها من بطاح مكة داره ومغناه، وانصدع الإيوان بالمدائن الكسروية، الذي رفع أنوشروان سَمْكه وسواه، وسقطت أربع وعشر من شرفاته العلوية، وكسر سرير الملك كسرى لهول ما أصابه وعراه، وخمدت النيران المعبودة بالممالك الفارسية بطلوع بدره المنير ومُحيَّاه"
ويشدو المنشدون بقصائد الشعراء من وحي الذكرى الغراء لمولد ذلك اليتيم الخالد عبر الأيام والأزمان:
بك بشر الله السماء فزينت وتضوعت مسكاً بك الغرباء
يوم يتيه على الزمان صباحه ومساؤه بمحمد وضَّاء
ويقول العقاد رحمه الله في كتابه "عبقرية محمد ص16":
"قالت حوادث الكون : لقد كانت الدنيا في حاجة إلى رسالة. وقالت حقائق التاريخ : لقد كان محمد هو صاحب تلك الرسالة. ولا كلمة بعد علامة الكون وعلامة التاريخ".
ولقد كتب عن حياة النبي محمد (ص) كُتَّاب كثيرون من المسلمين وغير المسلمين، وتبارى كذلك في مدحه شعراّ شعراء مسلمون وغير مسلمين (مسيحيين) مما حدا بنا أن نتوقف أمام بعض من كتاباتهم وأشعارهم ونحن نستعد للاحتفال بالمولد النبوي الشريف، فوجدنا إنصافاً واحتراماً من قبلهم تجاه شخص رسول الله محمد (ص) صادر عن قلوب واعية وإدراك سليم لما تناولوه في كتاباتهم عن الشخصيات المؤثرة في حركة الكون والتاريخ وفي مقدمتهم النبي الأكرم والرسول الأعظم محمد (ص).
ولعلي أوفق في اختيار بعض مما كتبه هؤلاء المفكرون المنصفون من مسيحيي العالم على مختلف مراحل التاريخ، ولتكن البداية مع صاحب كتاب "العظماء مائة وأعظمهم محمد" الكاتب الأمريكي مايكل هارت المولود عام ١٩٣٢ الذي أرَّخ لمائة شخصية على مر التاريخ كان لهم تأثيرهم في مجالات شتى تركت بصماتها واضحة في التاريخ الإنساني، يقول مايكل هارت "إن اختياري محمداً ليكون الأول في أهم وأعظم رجال التاريخ قد يدهش القراء، ولكنه الرجل الوحيد في التاريخ كله الذي نجح أعلى نجاح على المستويين الديني والدنيوي، فهناك رسل وأنبياء وحكماء بدأوا رسالات عظيمة ولكنهم ماتوا دون إتمامها كالمسيح في المسيحية، أو شاركهم فيها غيرهم أو سبقهم إليها سواهم كموسى في اليهودية، ولكن محمداً هو الوحيد الذي أتم رسالته الدينية وتحددت أحكامها وآمنت بها شعوب بأسرها في حياته، ولأنه أقام بجانب الدين دولة جديدة فإنه في هذا المجال الدنيوي أيضاً وحدة القبائل في شعب والشعب في أمة، ووضع لها كل أسس حياتها، ورسم أمور دنياها، ووضعها في موضع الانطلاق إلى العالم، فهو الذي بدأ الرسالة الدينية والدنيوية وأتمها".
ولعل الدافع وراء اختيار مايكل هارت في مقدمة من كتب من الأجانب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصيته التي تتسم بالعنصرية تجاه ما عداها فهو أمريكي يهودي أصولي يضهد الأجناس الأخرى ذات الألوان البيضاء ويقاتل على هذه المسألة في ساحات المعارك السياسية، وكل هذه مؤهلات تجعله معادياً في المقام الأول لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ومخالفاً له أشد الخلاف، ولكنها مؤهلات في ذات الوقت تكسب تقييماته ثقلها من كونه عالماً ذا مكانة في قومه وتأثير، وحسبنا من كل هذا الحق ما شهد به الأعداء.
ويقول المؤرخ والكاتب الفرنسي لا مارتين (١٧٩٠-١٨٦٩م):
"إذا أردنا أن نبحث عن إنسان عظيم تتحقق فيه جميع صفات العظمة الإنسانية فلن نجد أمامنا سوى محمد الكامل"
ويقول الفيلسوف الإنجليزي توماس كاريل (١٧٩٥-١٨٨١م) في كتابه الأبطال :
"لقد أصبح من العار على أي فرد متمدين من أبناء هذا العصر أن يصغي إلى ما يدعيه بعض الجهال الحاقدين، من أن دين الإسلام كذب، وان محمداً ليس بنبي، إن علينا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة"
أما الدكتور جولد تسيهر الأستاذ بكلية العلوم بجامعة بودابست والذي عاش فيما بين عامي (١٨٥٠-١٩٢١م) فيقول عن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في كتابه "العقيدة والشريعة في الإسلام" : الحق أن محمداً كان بلا شك أول مصلح حقيقي في الشعب العربي من الوجهة التاريخية .
ويقول في موضع آخر من نفس الكتاب : كانت الهجرة إلى المدينة تحولاً كبيراً في سياسة الرسول (ص) فقد أصبح محمد بعد الهجرة مجاهداً وغازياً ورجل دولة ومنظم جماعة جديدة أصبحت تتسع وتنمو شيئاً فشيئاً، وعندئذ اتخذ الإسلام شكله النهائي، وعندئذ ظهرت البذور الأولى لنظامه الاجتماعي والفقهي والسياسي.
وينضم الأديب الروسي العالمي ليوتولستوي (١٨٢٨-١٩١٠م) إلى هذا الركب العالمي المنصف لرسول الله محمد (ص) فيقول : يكفي محمداً فخراً أنه خلَّص أمة ذليلة دموية من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريق الرقي والتقدم، وأن شريعة محمد ستسود العالم لانسجامها مع العقل والحكمة.
ويضيف الكاتب الإنجليزي الساخر برنارد شو (١٨٥٦-١٩٥٠م) في كتابه "محمد" قائلاً : إن العالم أحوج ما يكون إلى رجل في تفكير محمد، هذا النبي الذي وضع دينه دائما موضع الاحترام والإجلال، فإنه أقوى دين على هضم جميع الديانات، خالداً خلد الأبد، وفي رأيي أنه لو تولى أمر العالم اليوم لوفق في حل مشكلاتنا بما يؤمّن السلام والسعادة التي يرنو البشر إليها.
أما المستشرق السويسري والمؤلف الكبير ماكس ڤان برشم (١٨٦٣-١٩٢١م) فقد كتب في مقدمة كتابه "العرب في آسيا" : إن محمداً نبي العرب من أكبر مريدي الخير للإنسانية، إن ظهور محمد للعالم أجمع إنما هو أثر عقل عال وإن افتخرت آسيا بأبنائها فيحق لها أن تفتخر بهذا الرجل العظيم، إن من الظلم الفادح أن نغمط حق محمد الذي جاء من بلاد العرب وإليهم وهم على ما علمناه من الحقد البغيض قبل بعثته، ثم كيف تبدلت أحوالهم الأخلاقية والاجتماعية والدينية بعد إعلانه النبوة، وبالجملة مهما ازداد المرء اطلاعاً على سيرته ودعوته إلى كل ما يرفع من مستوى الإنسان، إنه لا يجوز أن ينسب إلى محمد ما ينقصه، ويدرك أسباب إعجاب الملايين بهذا الرجل، ويعلم سبب محبتهم إياه وتعظيمهم له.
هذا غيض من فيض وإن المجال لا يتسع لكل من كتب عن سيدنا محمد (ص) محترماً لذاته منصفاً له ولرسالته وأخلاقه ومناقبه من مفكري ومؤرخي ومستشرقي عالم الغرب .
والآن نقلب في صفحات المدائح النبوية الشعرية التي جادت بها قرائح الشعراء العرب المسيحيين سواء في الموطن أو المهجر، ولعلنا نتساءل في بداية الأمر عن الدافع وراء هذا المديح من جانبهم ؟
وللإجابة عن هذا السؤال نقول : إن هؤلاء الشعراء العرب من غير المسلمين أبناء قبائل عربية تمتد بجذورها في أعماق الزمن ولم يكن أبناؤها في يوم من الايام إلا وارثين للقيم والتقاليد العربية الموروثة والمتأصلة في چيناتهم كالمروءة والكرم والإنصاف وشهادة الحق للمتفق والمخالف في الدين أو المذهب أو الطائفة على حد سواء، فهم نظموا قصائدهم نتيجة هذا البعد الحضاري الموروث.
وفي هذا الشأن رصدت دراسة أدبية نُشرت بمجلة الأزهر في ربيع الأول عام ٢٠١٢ قام بها الدكتور خالد فهمي أستاذ الأدب والنقد بجامعة المنوفية مجموعة قصائد عن المديح النبوي وقيمتها الحضارية صاغها شعراء عرب مسيحيون خلصت إلى أنه "خرجت قصيدة مدح النبي محمد (ص) من مديح إيماني مغلق يختص بالمسلمين إلى آفاق رمزية عالمية برع فيها شعراء مسيحيون اعتبروا سيدنا محمداً مسلحاً وقائداً ورمزاً عالمياً" ، يشاركه نفس النتيجة الباحث في تاريخ المدائح النبوية خالد جودة حيث قام ببحث عام ٢٠٠٤ عن المدائح والسمات النبوية في مجموعة من القصائد في القديم والحديث اتضح له من خلالها أن العصر الحديث خرج بالمديح النبوي من كونه ينصب في مدح النبي (ص) بتعداد صفاته الخِلْقِية والخُلُقية وإظهار الشوق له ولمبادئه والصلاة عليه تقديراً وتعظيماً وإلى البحث عنه كمنقذ لحل مشكلات العالم وطريق لعلاجها.
والحقيقة أن الأمر في رأينا أبعد من هذا واكبر إذ إنه انتصار للعروبة والقومية العربية التي يؤمن بها أولئك الشعراء العرب المسيحيون ..
فقد برز من الشعراء العرب المسيحيين في مجال مدح الرسول الاعظم والنبي الاكرم كل من :
1. إلياس فرحات (١٨٩٣-١٩٧٦م)
2. إلياس قنصل (١٩١٤-١٩٨١م)
3. چورچ سلستي (١٩٠٩-١٩٦٨)
4. چورچ صيدح (١٨٩٣-١٩٧٨م)
5. حليم دموس (١٨٨٨-١٩٥٧م )
6. چاك شماسي (١٩٤٧- م )
وهؤلاء شعراء مسيحيون عرب من أبناء سوريا ولبنان نذكر من أشعار هؤلاء الشعراء وفي الطليعة منهم چاك شماسي الذي يقول :
إني مسيحي أجل محمدا وأجل ضاداً مهده الإسلام
وأجل أصحاب الرسول وأهله حيث الصحابة صفوة ومقام
روحي في هيام محمد دانت له الأعراب والأعجام
وفي معرض حديثه عن قصيدته "خاتم الرسل" التي تقدم بها شماسي في عام ٢٠١٠ لمسابقة البردة النبوية التي نظمتها وزارة الثقافة الإماراتية يقول :
" أنا ثقافتي عربية إسلامية، وإذا مدحت رسول الإسلام محمداً فذلك لإني أحبه" متسائلاً "كيف لا أحب إنساناً بهذا المستوى النبيل من الإنسانية والخلق؟" مضيفاً "لقد نشر محمد عقيدة جميلة ونبيلة تدعو إلى الإنسانية ، وثقافتنا العربية الإسلامية تدفعنا إلى حب هذا النموذج الرائع، ولقد كتبت هذه القصيدة لأعبر بها عن حبي لهذا الرجل، ولم يكن هدفي أبداً نيْل جائزة المسابقة، والدليل على ذلك أني كتبت أبياتها قبل الاعلان عن موعد أو شروط هذه المسابقة بزمن بعيد".
وتظهر هذه الأبيات لهذه القصيدة صدق مشاعره حيث يقول :
يَممتُ طه المرسل الروحاني
ويُجل طه الشاعر النصراني
ماذا أسطر في نبوغ محمدٍ
أنا يا محمد من سلالة يعرب
أهواك دين محبة وتفانٍ
وأذود عنك مولهاً ومتيماً
حتى ولو أُجزى بقطع لساني
أكبرت شأوك في فصيح بلاغتي
وشغاف قلبي مهجتي وبياني
وأرتل الأشعار في شمم الندى
دين تجلَّى في شذى الغفران
ويختتم قصيدته تلك بقوله :
وإذا قرأتم للرسول تحية
فلتقرؤه تحية النصراني
مهما مدحتك يا رسول فإنكم
فوق المديح وفوق كل بياني
ويمدح الشاعر السوري إلياس قنصل (١٩١٤-١٩٨١م) النبي محمداً (ص) بأييات يذكر فيها صفاته ومناقبه قائلاً :
يقابل بالصبر الجميل ضغائناً
تمادى لها وعد بسبب ويثلبُ
ويعفو عن الأسرى وكان وعيدهم
بما في نواياهم من الثأر يلهبُ
إذا جاءه الملهوف فهو له أخٌ
وان جاءه المحروم فهو له أبٌ
صفات نبي أحسن الله خلقه
نفوس الورى من رفدها تتهذب
وعلى نفس الدرب يسير الشاعر السوري چورچ سلستي (١٩٠٩-١٩٦٨م) لينظم قصيدة عنونها بعنوان "نجوى الرسول الاعظم" فاضت بها مشاعره الجياشة التي تملكت عليه شغاف قلبه صوب النبي محمد (ص) فيقول :
أقبلت كالفجر وضاح الأسارير
يفيض وجهك بالنعماء والنور
على جبينك فجر الحق منبلجٌ
وفي يديك مقاليد المقادير
أطلعت أكرم خلق الله كلهم
وخاتم الرسل الصيد المغاوير
بوركت أيضاً تبث الطهر تربتها
كالطيب بثته أفواه القوارير
الدين ما زال يزكو في مرابعها
والنبل ما أنفك فيها جد موفور
يا سيدي يا رسول الله معذرة
إذا كيا فيك تبياني وتعبيري
ماذا أوفيك من حقٍ وتكرمةٍ
وأنت تعلو مدى ظني وتقديري
واكلاً – عليك صلاة الله – أمتنا
حياك ربك حتى نفخة الصور
ويطلق الشاعر وصفي قرنفلي (١٩١١-١٩٧٨م) صيحته التي لم يخش خلالها لومة لائم – وهو شاعر سوري أيضاً – في قصيدته "منقذ الشرق" إذ يقول :
أوليس الرسول منقذ هذا الشرق
من ظلمة الهوى والهوان
أفكنا لولا الرسول سوى
العبدان بئس معيشة العبدان
ويلج الشاعر السكندري السوري الأصل ميشال مغربي ميدان مديح النبي محمد (ص) إذ كتب أبياتاً رائعة في ذكرى الاحتفال بالمولد النبوي الشريف قائلاً:
لا عيد للعرب إلا وهو سيده
ما دارت الأرض حول الشمس دورتها
يا صاحب العيد يا من في موالده
إن كان للغرب عرفان وفلسفة
ومن الشعراء اللبنانيين الذين اقتحموا هذا الميدان الشاعر المهجري اللبناني إلياس فرحات (١٨٩٣-١٩٧٦م) إذ يخاطب النبي محمداً (ص) قائلاً :
يا رسول الله إنا أمة زجها التضليل في أعمق هوة
ذلك الجهل الذي حاربته لم يزل يظهر للشرق عنوة
أما شاعر القطرين خليل مطران (١٨٧٢-١٩٤٩م) فيُدلي دلوه مظهراً دور النبي محمد (ص) في محاربة الجهل والشرك ونشر العدل والإحسان بين أهل الكتاب إذ يقول :
بأي حلم مبيد الجهل عن ثقةٍ
وأي عزم مذل القادة العبيدِ
أعاد ذاك الفتى الأمي أمنه
شملاً جميعاً من العز الأماجيد
وزاد في الأرض تمهيداً لدعوته
بعهده للمسيحيين واليهودِ
وبقصيدة عنوانها "عيد البرية" يمدح الشاعر القروي اللبناني رشيد الخوري (١٨٨٧-١٩٨٤م) يمدح النبي محمداً قائلاً :
عيد البرية عيد المولد النبوي
في المشرفين له والمغربين دوى
عيد النبي ابن عبد الله مَنْ طلعت
شمس الهداية من قرآنه العلوي
يا قوم هذا مسيحي يذكركم
لا يُنهض الشرق إلا حبنا الأخوي
فإن ذكرتم رسول الله تكرمة
فبلغوه سلام الشاعر القروي
وإذا كان في تاريخ المدائح النبوية قد كتبت القصائد الطوال التي تسرد تاريخ المولد النبوي الشريف وتؤرخ للأحداث المهمة في تاريخه وتاريخ الإسلام والتي يأتي في طليعتها ما يسمى ببردة الإمام البوصيري (٦٠٨-٦٩٦هـ-١٢١٣-١٢٩٥م) وهو الإمام محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجي البوصيري المولود بالإسكندرية بمصر، والتي عارضها الكثيرون من الشعراء وأشهرهم الشاعر المصري الكبير أحمد شوقي (١٨٧٠-١٩٣٢م) والذي كتب على نهجه أيضاً شاعر سوري كبير هو الشاعر ميشيل خليل الله ويردى المشهور باسم ميخائيل خليل الله ويردي (١٩٠٤-١٩٧٨م) وهو شاعر وكاتب وموسيقي والذي تختتم به حديثنا عن أهم شعراء العرب المسيحيين الذين كتبوا قصائد في مدح خير البرية محمد (ص) ، وقبل ذكر بعض من قصيدته التي عارض بها الإمام البوصيري وشوقي نذكر ما جاء عنه في معجم البابطين – معجم الشعراء المهم – " دار جل ما أتيح من شعره حول مديح النبي (ص) وذلك من خلال معارضته لبردة البوصيري الشهيرة، يميل إلى الحكمة ويتجه إلى الاعتبار، وإسداء النصيحة، وله شعر في الفخر الذاتي والاعتزاز بكونه شاعراً، إلى جانب شعر له في تذكر أمجاد العرب وحضارتهم التي علمت الإنسانية كما كتب في المدح والإشادة ".
والحقيقة أنني أعجبت بهذه القصيدة الرائعة والتي اكتشفت مواطن الجمال فيها منذ أمد بعيد وأثناء عملي كمذيع بالإذاعة المصرية إذ إنني أخذت في مقدمة أحد برامجي على الهواء بيتاً منها وآخر من أبيات البوصيري وثالث من نهج بردة شوقي ..
أنوار هادي الورى في كعبة الحرم
فاضت على ذكر جيران بذي سلم
أبناء بابل أفنتهم مآثمهم
وآل فرعون ما شادوا سوى الهرم
وتدمر ومغانيها غدت خرباً
والذكر بالخير غير الذكر بالإرم
يا ليت من شيدوها للغناء رأوا
عقبى المباني فأعنتهم عن الندم
زالوا وزالت مع الآثار عزتهم
فإن تجادل سل التاريخ واحتكم
والمصطفى خالد في الناس ما بزغت
أم النجوم وممدوح بكل فم
يا ليت أحلام عمري لم تضع أبداً
بحب قصر من الأوهام منهدم
وليتني لم أهم إلا بمن عرفوا
برقة القلب لا بالظلم والعقم
فكم حبيب إذا خالقت فكرته
جازاك بالصد قبل البحث في التهم
فأربأ بنفسك أن تنهار من ألم
واربأ بحسنك أن يربدَّ من سام
واجعل هواك رسول الله تلق به
يوم الحساب شفيعاً فائق الكرم
هذا رسول الهدى فارشف على ظمأ
من ورده العذب عطفاً شاق كل ظمى
كأنما قلبه ينبوع مرحمة
مستبشر جذلان بالنسم
يا أيها المصطفى الميمون طالعه
قد أطلع الله منك النور للظلم
وحدت ربك لم تشرك به أحداً
ولست تسجد بالإغراء للصنم
وكيف تشرك بالرحمن آلهة
لا يستطيعون رد الروح للرحم
عاديت أهلك في تحطيم بدعتهم
من ينصر الله بالأصنام يصطدم
كأن ربك لم يخلق لدولته
سواك من مرسل بالحق معتصم
ويستطرد ويردي مخاطباً الرسول الأكرم مبيناً منجزاته السياسية في بردته قائلاً :
خاطبت كل ذكي حسب قدرته
ولم تكن ببغي القوم بالبرم
عززت كل فتاة حين صحت بنا
ما أولد العز غير السادة الحشم
ويختتم قصيدته البالغة مائة وأربعة وعشرين بيتاً بقوله :
كأنما الناس آلات مبعثرة
أخرجت منها جميل اللحن والنظم
صلى الإله على ذكراك ممتدحاً
حتى تؤم صلاة البعث بالأمم
وعن هذه المعارضة لويردي كتبت دراسات عدة نختار منها ما كتبه الأديب محمد عبد الشافي القوصي في كتابه " نهج البردة للشاعر المسيحي ميخائيل ويردي" والصادر عن دار الفضيلة في القاهرة .. " أن من بين المعارضات الشعرية لقصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي (نهج البردة) تلك التي جادت بها قريحة الشاعر المسيحي العربي السوري ميخائيل ويردي وعدد أبياتها مائة وأربعة وعشرون بيتاً من بحر البسيط ، ومن أسف فإن هذه القصيدة رغم جمالياتها الفائقة وغرضها الجليل إلا أنها لم تنل حظها اللائق بها من الشهرة والذيوع بين دارسي المدائح النبوية وشداة الأدب".
وبذلك يعد ويردي أول مسيحي ينظم قصيدة في نهج البردة على الإطلاق ، وقد فتح الباب على مصراعيه أمام شعراء مسيحيين آخرين ليحذوا حذوه ، ويسلكوا مسلكة ويسيروا على دربه وخطاه.
وبنظرة سريعة إلى قصيدته هذه نجد أن الشاعر قد التزم نهج المعارضات في المدائح النبوية الشهيرة ففعل مثلما فعل أسلافه من شعراء المدائح كالبوصيري والبارودي وشوقي فغنى على قيثارتهم ونسج على منوالهم فنراه يذكر موضع (جيران بذي سلم) وماله دلالة رمزية تاريخية، ثم ذم الدنيا وزخارفها وفتنتها ، وعرض لما لاقاه النبي محمد (ص) من معاداة قومه له عندما دعاهم إلى التوحيد ونبذ عبادة الأصنام ، فتحمل الصبر طويلاً في سبيل تبليغ رسالته كذلك نراه يُلحُ على الإشادة بإنسانيات الرسول وعاطفته نحو البشر وسائر الكائنات ، كما مدح خلق الرحمة الذي هو من أوضح أخلاق النبوة فقال :
كأنما قلبه ينبوع مرحمة
مستبشر جذلان بالنسم
إلى غير ذلك من الصفات التي اتصف بها رسولنا الكريم وقد سبق بها أهل الحضارات الأخرى .. فصلى الله عليك وسلم يا سيدي يا رسول الله في يوم مولدك وفي كل وقت وحين إلى يوم الدين .