الأربعاء 24 ابريل 2024

أوروبا الكاذبة

مقالات11-10-2022 | 16:26

"مع كل الاحترام، أوكرانيا ليست مكاناً مثل العراق أو أفغانستان، اللذين يحتدم فيهما النزاع منذ عقود، هذه مدينة مُتحضرة نسبياً وأوروبية نسبياً ؛ حيث لا نتوقع أو نتمنى حدوث هذا"؛ تصريح (لداجاتا) مراسل شبكة CNN الأمريكية في أوكرانيا! تبعه تصريح ديفيد ساكفاريليدزي (نائب المدعي العام الأوكراني السابق) فقال: "الأمر مؤثر للغاية بالنسبة لي لأنني أرى أوروبيين بعيون زرقاء وشعر أشقر يُقتَلون!".

تصريحات كاشفة لفداحة التمييز والعنصرية الأوروبية - التي عاشت قروناً تبرر سياساتها وتُلقنْ مُستعمراتها دروساً وشعارات عن الإنسانية - ؛ لم يتوقف الأمر عند التصريحات بل تمادى؛ بتعرض طلاب من جنسيات مختلفة إلى التمييز فى رحلات الهروب من الحرب، فانتشرت مقاطع مصورة لعرب وأفارقة وهنود وغيرهم واجهوا مشكلات فى التنقل بين الحافلات أو القطارات إلى حدود أوكرانيا، وتعرضوا للتضييق والإهانة، وقيل لهم إن الأولوية للأوكرانيين. وبالنظر لموقف الصحافة؛ لم نجدها سلبية أو على الحياد ولا استنكاريه لإدانة التمييز؛ وجدناها تتعجب وتُطلق تساؤل عنصري في غير محله :ماذا يفعل كل هؤلاء العرب والأفارقة فى أوكرانيا؟.

 وهو ما نستخلص منه أن الحرب فى أوكرانيا كانت كاشفة لازدواجية المعايير وكذب أوروبا؛ من خلال العنصرية الفجة التى تم التعامل بها مع من يرونهم شعوباً دونية، وبين المقارنات بين الهاربين من الحرب وفق لون بشرتهم وجنسياتهم وخلفياتهم الثقافية والقومية؛ لكون الأمر يحدث ولأول مرة على أراضيها بعيداً عن العراق وفلسطين وأفغانستان ،ولكون الحرب لا تدور فى بلاد الربيع العربي، بل يرتد أثرها  السياسي والاقتصادي في صدر القارة العجوز؛ لذلك ربما، سقط قناع الزيف الغربي ولم يستر عنصريته.

والسؤال: لماذا يكرهوننا؟ أو لماذا ينحازون لغيرنا؟ وللإجابة على هذا السؤال؛ لابد من التدقيق في تاريخ إرساء قواعد نظرية تفوق "العرق الأبيض الآري" في أكمل صورها على يد (أرتور دي جوبينو)، الذي نشر كتابه الشهير عام 1853م، بعنوان (مقال في عدم تساوي الأجناس)؛ وكان لآرائه وأفكاره أثرٌ كبير على الأفكار والمعتقدات السياسية والفلسفية الأوروبية ؛فقد انطوى مفهوم (جوبينو) عن العرق على نظام أحادي الرؤية ؛ حيث يظهر العرق الأبيض فيه بوضوح مستأثرًا بالجمال والذكاء والقوة، ومزايا أخرى مُتمثلة في اجتماعيته المُتحضرة ونقاوته وتوسعه عن طريق الغزو، إلا أن هذه المزايا تضعف بسبب الاختلاط أو التصاهر مع دم أدنى؛ وهذا قد يؤدي إلى خراب الحضارة.

وتسابق الأوروبيون للاستئثار بالنظرية كلٌّ وفق عرقه ليؤكد تفوقه على الأعراق الأخرى؛ فجاء (هوستن تشامبرلين) ليؤكد تفوق العنصر "التيوتوني" للألمان، وادعى أن الحضارة الإغريقية وحضارة روما وإنشاء البابوية في روما وعصر النهضة في أوروبا والثورة الفرنسية وإمبراطورية نابليون كلها من إنتاج التيوتون، وكانت تلك النظرية الأداة الباطشة لألمانيا النازية، وأساس إيطاليا الفاشية.

لعبت مذاهب التفوق العرقي دورًا هامًّا في السياسات العليا للدول، فطالما بررت هذه المذاهب مشاهد القسوة لخدمة التوسع الأوروبي الاستعماري، ولازالت تخدم كذلك التوسع الإمبريالي الحديث. وبالرغم من أن معظم هذه النظريات تعرضت للنقض والتكذيب، إلا أننا لازلنا نرى لها آثارًا وذيوعًا في العالم الغربي ؛ولا زلنا نشاهد حتى الآن التفرقة العنصرية بين أصحاب البشرة البيضاء والسوداء في الولايات المتحدة، والتمييز بين الأوروبيين ومن سواهم من أصحاب الأعراق والألوان المختلفة.

ولم تكتفِ أوروبا بتسميم ثقافتها فحسب ؛ بل نشرت ڤيروسها في جميع أنحاء العالم ؛ فازدهرت المستوطنات الاستعمارية في العالم الجديد (في أمريكا الشمالية والجنوبية على السواء)؛ بفضل إبادة السكان الأصليين وبفضل العبودية التي قامت على الجنس الإفريقي.

وهكذا سعى الغرب في إطار المركزية الغربية إلى تقسيم الثقافات إلى ثقافة عليا (ذاته الخاصة) وثقافة محلية (العالم غيره)، تقوم العلاقة بينهما على أساس نفي الاختلاف وتهميش الآخر، ورفض التفاعل للثقافة المسيطَر عليها، سواء بتدميرها أو تبخيس ذاتها أو نكرانها، واعتبارها موضوعا سالبًا يحق للأنا الغربي الاعتداء عليه.

الخلاصة؛ يمكن القول إن الرؤية الكلية الغربية قامت على ثنائية الأنا الغربي المتحضر/ الآخر المتوحش، وازدواجية المعايير وسياسة الكيل بمكيالين ؛ وبناءً على هذا نقول إن الحضارة الغربية تسوق لنا كذباً على أنها حضارة إنسانية عالمية، غير أنها في الواقع حضارة إقصائية عنصرية لا تستوعب الجميع، بل تلفظ كل مختلف ولا تقبل التعدد ولا المساواة؛ وليس أدل على ذلك من ما يحدث على أرض أوروبا الآن  ؛ فلنصمت وننتظر ونشاهد.

 

Dr.Randa
Dr.Radwa