الخميس 18 ابريل 2024

الفلسفة والسياسة.. رؤية فلسفية لسياسات الحضارات القديمة (2 – 3)

مقالات8-11-2022 | 11:50

أنهينا مقالنا السابق، وكان الجزء الأول من موضوعنا، بالتساؤل التالي: هل يمكننا القول بـ"ضرورة السلطة" داخل المجتمع؟ ووصلنا إلى أن الإجابة عن هذا السؤال ستجعلنا نقوم بعمل مناقشات بين حضارات أو مجتمعات مختلفة، حتى نستطيع أن نقف على فهم صحيح، أو على أقل تقدير إجابة مرضية عن تساؤلنا. لذلك ستكون مناقشتنا خلال هذا المقال حول الحضارة المصرية القديمة، وأحد رواد الفكر اليوناني القديم "أفلاطون".

إن الحضارة المصرية والملكية، هما واحد، في المجال السياسي. فمصر تفقد معناها وتخرج عن ذاتها عندما لا يتولى الحكم فيها فرعون قوي الشكيمة. فوظائف الملك اثنان، هما الدين والحرب. أما الدين، فبين المراسم الدينية التي يؤتي بها موعظة وعبرة ويحرص الملك علي القيام بها بوصفه ملكًا للبلاد، وظيفته الدينية التي كان يؤديها بكل امانة باعتباره ابن رع او ابن الاله آمون. أي أن الواجب الديني هو أول الأعباء العائلية التي يضطلع بها الملك.

أما الحرب، الدفاع عن مصر والذود (حماية) عن حياضها (قيامها وشريعتها) وصيانة استقلالها، مهمة وطنية عليا يضطلع الملك نفسه بمسؤولياتها، استتباب النظام واشاعة العدل فكان علي فرعون أن يُؤْمِن لبلاده إدارة رشيدة ولشعبه العدل بالسوية. فسلطته لا حد لها وليس لإرادته مبدئيًا من وارع أو حسيب. والسؤال الآن، وماذا عن علاقة الحاكم أو الملك بالقانون؟

أما عن علاقة الحاكم أو الملك بالقانون، فمشيئته الملك هي القانون ولها ما للعقيدة الدينية من قوة وشكيمة. فمعني ذلك أن فرعون في مصر هو المشرع والمنفذ، وهو الذي يحكم القضاء باسمه، وهو الذي يعرف رغبات الآلهة ويحققها، وكثيرًا ما كان يقول في أوامره لابنه أو لوزيره: "إن الآلهة ترغب في إحقاق الحق، وهي تكره أشد الكراهية الأخذ بالوجوه والتحيز". ولنا هنا أن تساءل، هل الملك ينصب نفسه إلهًا، أم ماذا؟

أما الملك الإله كان الملك في مصر، منذ بدء الملكية فيها، إلهًا، ولكن ليس بصورة رمزية أو مجازية للتدليل على سلطته المطلقة وتساميه فوق العامة، بل على عكس ذلك تمامًا. فلملك هو قبل كل شيء الإله حورس Horus أو الإله الصقر وهو أحيانا إله الشمس "رع" ويصبح حورس تابعًا له، ويصبح الملك في هذه الحالة هو "حورس – رع" أو يصبح فيما بعد "ابن الإله رع" وهو في جميع الحالات إله بين الآلهة، ويمثل البلاد بين الآلهة وتتجسد فيه مصر.

فمصر كانت تتمتع في ذلك الوقت بنوع متميز من التوافق والانسجام القومي للإله المتجسد في شكل ملك يحكم، وقد نبت هذا المفهوم لنظام الحكم من جذور الحضارة المصرية التي تضرب في أرض القارة الإفريقية حيث مازال مثل هذا المفهوم قائمًا في بعض مناطق إفريقيا، وهذا المفهوم هو الذي منح اللأمة المصرية الثقة بنفسها والقدرة على التغلب على الكثير من الصعاب والعوائق المثبطة للهمم.

نصل هنا عزيزي القارئ إلى أن القصر الملكي كان مقر الحكومة، ولهذا أعتاد المصريون أن يطلقوا عليه اسم "البيت الكبير"، وعلى الرغم من أن الملك كان يتملك في يده السلطة، والثورة، والقوة فإنه كان يحتاج إلى جهاز يعاونه في أداء واجباته نحو هذا المجتمع، وفي أول الامر أسند الوظائف الهامة إلى أبناء الملك ثم أفراد الأسرة المالكة، ثم بدأ في تخصيص وظائف معينة ومن أهملها وظيفة الوزير.

          هذا عن النموذج الأول في مقالنا، وننتقل إلى النموذج الثاني والسؤال الآن، هل النمط السياسي الذي عاشته وسارت على خطاه الحضارة المصرية القديمة، هو نفسه ما عاشت في ظله الدولة اليونانية القديمة؟ وإجابتنا عن هذه التساؤل ستجعلنا نطوف في فلك واحد من عمالقة الفكر السياسي اليوناني، وأحد اقطابها العظام وهو "أفلاطون".

سلك أفلاطون اتجاهيين في كتاباته: الأول هو الاتجاه المثالي الذي قام على اساس المدينة الفاضلة، أما الاتجاه الثاني فهو أتجاه المدرسة القانونية التي صاغت علم السياسة باعتبار أنه علم القانون الدستوري الذي ينظم علاقات المواطنين بالحكام والمؤسسات الحاكمة، فرأي أفلاطون أن الأنظمة السياسية لا تثبت على حال واحد، وأنها تتغير بتغير أخلاق البشر. واما السبب المباشر لتلك التغيرات فيرجعه أفلاطون إلى نشوب الخلافات بين أفراد السلطة الحاكمة نفسها. يقول أفلاطون نفسه، "لكي يصبح من الممكن أن نحيا حياة إنسانية جديرة بالحياة، يجب أن يصبح الفلاسفة ملوكًا، أو ما يؤدي إلى نفس الشيء تقريبًا أن يصبح الملوك فلاسفة".

عزيزي القارئ إن الغرض من حياة الأفراد هو الحكمة والفضيلة والمعرفة، والأفراد لا يستطيعون الوصول إلى هذه الغاية من غير أن يعانوا عليها، فالغاية من الدولة إسعاد أفراد الامة وإعانتهم على الوصول إلى هذه الأغراض، وخير وسيلة للوصول لذلك فكانت "تربية الشعب" أول عمل وأهم عمل تقوم به الدولة، أي أنه الدولة يجب أن تؤسس على الفكر والتعقل، وبهذا فإن القوانين التي تصدرها ناشئة عن الفكر وتعقل، وهذه القوانين لا يمكن إلا أن تصدر عن عقلاء مفكرين أي "فلاسفة".

فالدولة المثالية لدي أفلاطون – كما سبق وأن ذكرنا في مقال سابق "فلسفة التربية.. البرنامج التربوي بين أفلاطون وابن رشد"، يجب أولا أن تكون عادلة، ثانيًا أن تتم كل طبقة بدقة، بأكمل شكل ممكن، أي ما هي مصنوعة له، يجب أخيرًا تنظيم الانسجام الداخلي كما كانت الحال في ملاحقة الفضيلة، اما طبقات هذه المدينة فتضم ثلاث طبقات، طبقة الحرفيين، وطبقة التجار، وطبقة المساعدين للحاكم، وأخيرًا طبقة الحراس.

لذلك تتصف دولة أفلاطون بأنها دولة كلية (شمولية Totalitarian) أي أن الدولة ليست مجرد مجموع أفرداها، فأول ما يتميز به هذا النظام أن يشبه الدولة بالجسم العضوي، الرأس فيه ترمز لطبقة الحكام، لها القيادة والسيطرة على باقي الأعضاء. والفرد فيه كالأصبع أو أي عضو آخر ينفذ ما يمليه الرأس من تعليمات.

ولكن السؤال الآن، كيف نهيئ للدولة هذه الطبقة من الحكام الفلاسفة؟ وضع أفلاطون منهجًا تربويًا وتعليميًا طويل المدي لإعداد الملك / الفيلسوف الذي يحوز رجاحة العقل وسلامة الطبع، ويسلك في رعايته مسلك الفضيلة والخير.

اما برنامج التربية هذا، يحتوي على، أولا: التمرن على الموسيقي، أي على كل أشكال الفن، المرحلة الثانية من التربية سوف تشغل من سن العشرين إلى الثلاثين، بالدرس المعمق، ثم من سن الثلاثين إلى سن الخامسة والثلاثين يتم التدريب على الجدلية، كمنهج لعلم الكيان، وبالتالي الصلاح، ثم بعد ذلك يعودوا ليمارسوا وظائف الحكم في الدولة. ونعود لنتساءل مُجددًا، وماذا عن علاقة الحاكم أو الملك بالقانون؟

فالحاكم / الفيلسوف قد أستبطن في داخله ما هو أفضل من القانون، فإن دراسته للفلسفة قد منحته الحكمة الكافية لأعضاء القول الفصل في كل أمر يعرض له، او يعرض لأجهزة الدولة المختلة، وهكذا أفضل من إنشاء القوانين الجامدة التي يمر عليها الزمن ويتجاوزها بأحداثه وملابساته وضروراته العديدة، كما أن أفلاطون يستخرج من عقل الملك / الفيلسوف الحكمة السياسية دفعة واحدة ليحلها محله، وهكذا أصبح القانون هو الحاكم لا الملك / الفيلسوف.

كما يذكر أفلاطون في كتاب "القوانين" تفصيلات وافية أيضًا للعلاقات السياسية، فأقترح نظامًا انتخابيًا علي مرحلتين لاختيار الحكام والنواب البرلمانيين، وأعطي حق التصويت لكل المواطنين، ولم يقصره علي طبقة بعينها من طبقات الأمة، ولكنه لم يجعل من الديموقراطية نظامًا لازمًا للحكم، ودعا إلي نظام سياسي مكون من العناصر الصالحة في النظام الاستبدادي الفارسي، والنظام الديموقراطي الأثيني، وذلك حق تتحقق للمجتمع غايات الحرية والوحدة والحكمة، وجعل أفلاطون الدستور لا الملك هو أساس الحكومة، وقسم السلطات الحكومية بين الجهازين التنفيذي والتشريعي، وأجتهد في محاولة حفظ درجة عالية من التوازن بين كل من القضاء، والسلطة، والجيش، والكهنة وغير ذلك من فعاليات الدولة الأساسية.

كما أضاف لنا أفلاطون أن حكم الطغاة أسوأ أمثلة الحكم فيقول: "إن زيادة الحرية تؤدي إلى نقيضها أو إلى العبودية وذلك حين يتولى الحكم طاغية يطلق العنان لشهواته فيكون على طرف نقيض من الفيلسوف الذي يسعي إلى الحكمة". وكما ذكرنا تلك هي دولة أفلاطون المثالية، فهي أول "مدينة فاضلة" تصورها العقل في تاريخ الفلسفة وعلى ضوء ما سبق حدد أفلاطون نظام الحكم الكفيل بتحقيق العدالة للإنسان.

ومع ذلك يؤخذ على هذا النظام الذي قصد به أفلاطون تحقيق العدالة أنه لم ينصف طبقة الرقيق التي يقع على كاهلها أشق الأعمال، ولم يفكر أفلاطون على الأطلاق في إمكانية إلغاء هذا النظام من مدينته الفاضلة، وكل الذي أمكن أن ينتهي إليه هو الدعوة إلي حسن معاملة الرقيق ومنع استرقاق اليونان لبعضهم.

وختامًا، بعد كل هذه القراءات نستطيع أن نُحدد الدوافع أو المبررات التي تجعل من الحاكم طاغي مستبد، قاهر ظالم، وتلك المبررات هي كما لاحظنا من خلال عرضنا، لا يعترف بقانون أو دستور في البلاد، بل تصبح إرادته هي القانون الذي يحكم، يسخر كل موارد البلاد لإشباع رغباته أو ملذاته أو متعه، ينفرد مثل هذا الحاكم بخاصية أساسية في جميع العصور وهي أنه لا يخضع للمساءلة ولا للمحاسبة. ولكن السؤال الذي يطرأ علينا الآن، هل عرف التاريخ الإنساني القديم نوعًا آخر عكس هذا النوع من الحكام والملوك؟ إجابتنا عن هذا التساؤل ستكون هي موضوع مقالنا القادم.