الخميس 18 ابريل 2024

عزة بدر.. «جنية بحر» أغوتنا بشاعرية قصصها

مقالات9-11-2022 | 10:24

"أنا يا بحر بأهوائى غريق.. أشرب الأهواء ريقًا بعد ريق
بالهوى قل لى متى يومًا أفيق.. من غرام هو كأسٌ من رحيق
جنية البحر ماذا أنت صانعةٌ.. يا دميةً صنعتُها من وحى أحلامي
لا تنكرى كيف كنا والهوى شرفٌ.. أصوغه من غواياتى وآثامي
قصائدٌ هى أمواجٌ مؤججةُ.. وأبحر من صبابات وأشجان"

من تلك الأبيات التى ألفها الشاعر والأديب الكبير زكى مبارك، إلى الكاتبة والروائية "عزة بدر" التى أخذتنا نسبح فى بحر شعرها وكلماتها، صنعته بأنامل مرهفة الحس، دقيقة الاختيار، بديعة التصور، رشيقة الكلمة، عميقة المعنى، لنجد أنفسنا فى عوالم قصصية تفيض من شاعريتها، فنغوص فى الأعماق دون أن نتحكم فى ذواتنا.

فى مجموعتها القصصية التى تتضمن ثلاثة وعشرين نصًا، والصادرة عن دار المعارف بعنوان "قميص البحر" تتناول "عزة بدر" العديد من المشاعر والعواطف الإنسانية بطريقة انسيابية أشبه بالبحر، وهى مجموعة قصصية لكاتبة عشقت البحر، وتغنت به فى قصصها وأشعارها، والبحر فى هذه المجموعة أغنية للحياة، والحب، ومغامرة للدخول فى عالم من السحر والجمال والدهشة، بل وقبول بحُكم البحر الذى هو هنا دخول فى حكمة اللآلئ، والبحث عن كل ما هو رائع من قيم ومعانٍ.

فمن أغنيات البحر قصة بديعة بعنوان "السباحة على الشاطئ"، جعلت من البحر إنسانًا من لحم ودم، تفرح لفرحه وتحزن لحزنه، تقول فى تلك القصة: "كنت والبحر عاشقين.. أكتفى منه فى ليالى الصيف بالنظر، وأتأمله فى ليالى الشتاء على مهل.. كنت والبحر عاشقين، ما ألقيت نفسى بين ذراعيه إلا فى سنى الطفولة، كنت أقبله فى فمه فيقبلنى على جبيني، أناديه: يا حبيبي، فيجاوبني: يا طفلي".

وهناك ثلاثة أغانٍ للصبا بعنوان "مو" و"قطة مغمضة" و"باقة ورد أحمر"، والتى تقول فيها: "أعود إلى البيت، أحصى ثروتى من الدمع، تلك التى كنستها أمي، وجمعتها فى جاروف صغير يشبه المركب، تلمع كما اللآلئ، وأهمس: متى تصبحين يومًا عقدًا طويلًا لا ينفرط، فتقول الحبات: حافظى على خط الدموع فى مسار واحد من العين إلى القلب".

فى دفق البحر وخصبه وخيره وثورة أمواجه أكثر من حياة تتدفق بين السطور بحيوية، وبلغة مرهفة آثرت صاحبتها أن تصبح أغنياتٍ للصبا، وللمحبة بل وللحزن والسرور، أغنيات للحياة فيها ما فيها من السعادة، ولها ما لها من لحظات الألم.

من أغنيات المحبة، نصوص "بياع المحبة" و"طلعة قمر" و"يجنن" ومن فقراتها: "خفقت قلوبنا لفكر الحب، والجنون فى الحب، تمددنا فى مقاعدنا، واستشعرنا الراحة، أرهفنا السمع للحكاية بشوق، تذكر كل منا حبًا رفرفت أجنحة ملائكة ذات يوم، وكاد سهمه أن يتقافز بين جوانحنا لكنه عبثًا لم يصب قلوبنا، وكان أكثرنا يود لو أصابه فى مقتل.

ومن أكثر القصص التى أحببتها فى تلك المجموعة قصة "أسباب الفرح"، وهى ضمن مجموعة أغنيات للحزن والفرح، والتى استخدمت فيها الكاتبة الرمزية لتحمل تلك القصة معانى متعددة، حيث نجحت بالفعل فى سرد آمالنا وآلامنا من خلال الكرسى المنجد ظهره بالقطيفة الحمراء، وتتمنى لو جلست عليه بضعة دقائق لتجرى عددًا من المحاكمات بعد سماع مرافعاتهم، تقول فى القصة: "بالأمس وجدت الكرسى نفسه فى دكان المزين الرجالى ثم وجدته بعد ذلك عند الكوافير النسائي.. تم تداول الكرسى فى أكثر الطبقات الشعبية، فى أكثرها فقرًا، وكان عم أحمد الفكهانى سعيدًا بأنه كان السبب فى كل ذلك الفرح الذى يعم المدينة، كان يبتسم راضيًا وهو يقول: "لو دامت لغيرك ما راحت لك، ولو دامت لك ما راحت لغيرك، الملك لله... كل محاكمتى ذهبت هباء، لم يعد بوسعى الآن أن أحاكم أحدًا، ولا أن أضع يدى على الصولجان، ولا على مساند الكرسي، ولن أسند رأسى بالطبع على تاجه الملكي".

هذه القصص لحظات مفعمة بالمشاعر، والتأملات، ولقطات إنسانية معبرة لشخصيات صاغتها الكاتبة بطرائق فنية جسدت نماذج إنسانية تخوض غمار الحياة بحلوها ومُرها، وتقبلها كمغامرة للسعادة والبهجة، بل وتصنع من الدمع والألم جسرًا للأمل بأن يكون العالم أكثر جمالًا وإنسانية.

وختمت الكاتبة تلك الأغنيات بمجموعة من القصص التى ربط بينها بعزف منفرد، ففى هذا الجزء قصة بعنوان "صورتها"، كتبت فيه: "أخرجت صورتها القديمة، صورة من ثلاث سنوات، لم تكن بعد قد عرفته، كانت نضرة تبتسم من قلب خالٍ، عيناها تلمعان ببريق غامض، جسدها عامر بالرغبة، وشفتاها تكتنزان بموهبتهما بالقُبل، كان صدرها ممتلئًا وفى نهر نهديها كان يتدلى فرع من الفل، وآخر من الياسمين، وفى المنتصف كانت هناك وردة جُورية".

هذه المجموعة امتدادًا لشجرة زرعتها الكاتبة والناقدة عزة بدر، لعوالم شاعرية تنسجها بخيوط من حرير، فتنتج لنا فى النهاية قماشة قصصية بديعة الكلمة ودقيقة المعنى وعميقة الرسالة، وإبداعها هذا ليس فى القصص والروايات فقط، بل شمل النقد والمقال وأدب الطفل، هى كاتبة شامل وثرية، تعمل صحفية بمؤسسة روز اليوسف، وحصلت على الدكتوراه فى الإعلام من جامعة القاهرة، كما حصلت على جائزة الدولة فى الآداب عام 2002، ومن مؤلفاتها رواية "فى ثوب غزالة"، وكتاب "حق اللجوء العاطفي"، وفى أدب الرحلة كتاب "رحلات بنت قطقوطة"، بالإضافة إلى العديد من دواوين الشعر والمجموعات القصصية.