فقدانه لبصره لم يمنعه من تعليمه وإنماء بصيرته، كما لم يكن حائلا بينه وبين أن يكون أبرز شخصيات الحركة الثقافية والأدبية الحديثة، فقد تغلب على "عميد الأدب" الذي تحل اليوم الثلاثاء 15 نوفمبر ذكرى ميلاده، والذي ولد في مثل هذا اليوم من عام 1889 في المغاغة بمحافظة المنيا، وتوفي يوم 28 أكتوبر 1973، بعد 22 يومًا من مشاهدته انتصار أكتوبر 1973.
حيث تغلب على الظلام الذي طغى على بصره منذ إصابته بمرض في عينه وهو في الرابعة من عمره وأصبح أحد أهم التنويريين في العصر الحديث، وخاض العديد من المعارك الأدبية والفكرية التي استفاد منها الأدب الحديث.
حياته
تلقى طه حسين تعليمه الأولي في كتاب قريته والذي حفظ فيه القرآن الكريم وبعض العلوم البيسطة الأخرى، لكن ذلك لم يشبع حماس عميد الأدب العربي في التعلم،؛ فطلب من والده ان يرسله ليدرس في الأزهر رفقة أخيه الأكبر، ومضى الوقت وذهب طه إلى الأزهر وهو محملا بالحماس والشغف لما كان يسمع من أخيه حول دراسته في الأزهر، لكن سرعان ما انطفئ ذلك الحماس بعدما رأي أن العلوم التي يدرسها لم تشبع رغته وأيضا بسبب ما كان يلقاه من سوء معاملة.
وحين افتتحت الجامعة المصرية في عام 1908 التحق بها وترك دراسته بالأزهر، ونال شهادة الدكتوراة في عام 1914 والتي كانت عن "ذكرى أبي العلاء"، وكانت أول كتاب قدم الى الجامعة وأول رسالة دكتوراه منحتها الجامعة المصرية، وأدى نشر هذا الكتاب الى أثارة ضجة في الأوساط الدينية المتزمتة، وفي ندوة البرلمان المصري إذ اتهمه أحد أعضاء البرلمان بالمروق والزندقة والخروج على مبادئ الدين.
وبعدها سافر إلى فرنسا لدراسة عدد من التخصصات وفي عام 1942 اتندب مراقبا للثقافة في وزارة المعارف، وعمل كمستشار فني في نفس الوزارة، كما عين مديرا لجامعة الإسكندرية ختى عام 1944، وعين وزيرا للمعارف في حكومة الوفد، وأيضا كان استاذ التاريخ اليوناني والروماني واستاذا للتاريخ العربي، كما تولى عمادة كلية الآداب بجامعة القاهرة.
معارك وأزمات
لعل القارئ لتاريخ عميد الأدب العربي سوف يلاحظ انه قد مر بالكثير من الأزمات والمعارك الفكرية والأدبية، وكان أول تلك الأزمات هي التي حدثت بعد أن أصدر كتابه "في الشعر الجاهلي" والذي أحدث هبات من ردود فعل معارضة، وتم اتهامه نقل أفكار المستشرق الإنجليزي مرجليوث، والتي صدرت في كتاب قبيل إصدار كتابه بنفس الأفكار، حيث أسهم في الانتقال بمناهج البحث الأدبي والتاريخي نقلة كبيرة فيما يتصل بتأكيد حرية العقل الجامعي في الاجتهاد؛ بينما أحيل بسببه للمحاكمة متهمًا بالتعدي على الدين الإسلامي.
وفي العشرينات من القرن الفائت واجه رائد التنوير اتهاما أخر تمثل في الإدعاء بإزدراء الدين الإسلامي، والتي اشعلت الغضب من ناحية مجموعة من مشايخ الأزهر حتى صارت قضية رأي عام، وأجمل مسئول التحقيق الاتهامات الموجهة له في أربعة هي: إهانة الدين الإسلامي وتكذيب القرآن في إخباره عن إبراهيم وإسماعيل، وأنه طعن في نسب النبي محمد، وانه انكر ان للإسلام أولوية في بلاد العرب وأنه دين إبراهيم، وأيضا ما تعرض له طه حسين في شأن القراءات السبع المجمع عليها، وقد تم حفظ القضية بعدها.
وفي الأربعينات من القرن نفسه والتي كانت أكثر فترات طه حسين توهجا وضياءا واجه اتهاما خطيرا، تمثل محاباته للحركة الصهيونية والتي بدأت مع الجماعات الإستيطانية تثبيت أقدامها في فلسطين، وذلك عندما أصدر مجلة "الكاتب المصري" في أكتوبر من عام 1945 بتمويل من شركة تملكها أسرة هراري اليهودية المصرية، والتي كانت متخصصة في الطباعة وبيع الآلات الكاتبة، فأخذ الحاقدون يشنون عليه هجمات وحملات تتهمه بأنه يصدر مجلته بأموال الصهيونية، إلى ان توقفت المجلة عام 1948
كذلك دافع الدكتور طه حسين عن قصيدة النثر أمام الشعر المرسل، ووصفه بأنه "لا بأس به إذا ارتقى إلى درجة الشعر إذا كان فيه الموسيقى والصور الشعرية الكافية لنسميه شعرًا، وقال إنه من حق الأدباء أن يكتبوا شعرًا مرسلًا متى شاءوا، بشرط أن يصلوا إلى درجة الشعر، ولم أنكر حق الشعراء في أن يغيروا أوزان الشعر، وأن يتركوا الأوزان القديمة إلى الشعر المرسل أو المنثور كما يقولون عنه".
كما خاض عميد الأدب العربي معارك عدة مع الكتاب والمثقفين ومنها معركته بعد إصداره لكتاب "في الشعر الجاهلي" وتصدى الرافعي له بمقالات حادة نشرت في صحفية "كوكب الشرق" ثم جمعها في مقالات أخرى تتناول قضية القديم والجديد، ولهذه المعركة بداية عند صدرو كتاب "تاريخ آداب عربية" للرافعي وانتقاد طه حسين له.
كما خاض الدكتور طه حسين معركة أخرى مع الدكتور محمود شاكر أيضا بسبب كتاب "في الشعر الجاهلي" والذي بدأ طه في نشر فصول منه في الصحف والمجلات، مما جعل شاكر يدخل ضده معركة تسلح فيها بقلمه وكتب 12 مقالة في صحيفة البلاغ بعنوان "بيني وبين طه حسين" واجه فيها طه حسين بثلاث أمور هي: أن طه في أكثر أعماله "يسطو" على أعمال الناس سطوًا عريانًا أحيانًا او سطوًا متلفِّعًا بالتَّذاكي والاستعلاء، وأنه لا بصر له بالشعر، ولا يحسن تذوقه على الوجه الذي يتيح للكاتب، وأن منطقه في كلامه كله مختل، وأنه يستره بالتكرار والترداد والثرثرة.
وكان طه حسين في رأي محمود شاكر يسن سنة متلفة مفسدة للحياة الأدبية والحياة العقلية والحياة النفسية في الجيل البائس الذي كان محمود محمد شاكر منه.
كما قامت معركة أخرى بسبب نفس الكتاب -في الشعر الجاهلي- بين الدكتور طه حسين والدكتور زكي مبارك ثم ظهر كتاب زكى مبارك "النثر الفني" وتجاهله طه حسين، مما أثار حفيظة مبارك، وكتب مقالًا فى مجلة البلاغ يوم ٣٠ مارس عام ١٩٣٤، اتهم طه حسين بأنه يريد أن يمسخ كتبه ويمحيها من الوجود ويرجع اسمه مرادفًا لاسم عيسى بن هشام، وتصور زكى مبارك أن طه حسين يحاربه وقال عبارته المشهورة: "لو أن أطفالى جاعوا لشويت لهم طه حسين وأطعمتهم من لحمه".
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أعلن زكى مبارك عن خطأ فى محاضرة ألقاها طه حسين فى الجامعة الأمريكية عن الشاعر البحترى، وكتب مقالًا فى جريدة "كوكب الشرق" بعنوان "مثال من جهل طه حسين"، يقول فيه إن "طه حسين جاهل نعم جاهل"، ومقالات كثيرة ضمتها المعركة، وقال مبارك: "عدوى طه حسين والله ما عديت إنسانًا وأحببته سوى طه حسين".
وتعد هذه أضخم معركة أدبية ذكرها التاريخ قامت بين زكى مبارك وطه حسين، واستمرت منذ ١٩٣١ إلى ١٩٤٠ على مراحل متعددة منها الخصومة الفكرية، ثم خصومة «لقمة العيش» حين أقصى طه حسين، زكى مبارك من الجامعة، التى استُخدم فيها كل الألفاظ .
ويذكر أن الدكتور زكى مبارك كان أكثر إصرارًا على المعركة أكثر من الدكتور طه، فكان لا يترك فرصة تمر دون أن ينال منه، على الرغم من العلاقات التى كانت بينهما، حيث كان زكى تلميذًا لطه حسين، كما كانا ينتميان إلى ثقافة واحدة الثقافة الفرنسية.
كما شن الشاعر والكاتب إبراهيم عبدالقادر المازنى هجومًا على طه حسين حيث قال عن "حديث الأربعاء" والذي كان في البداية عبارة عن مقالات تحولت فيما بعد إلى كتاب: "لقد لفتنى من الدكتور في كتابه حديث الأربعاء، وهو مما وضع (قصص تمثيلية) وهى ملخصة، أن له ولعًا بتعقيب الزناة والفساق والفجور، وقد ينكر القارئ أن أدخل القصص التمثيلية في هذا الحساب، ويقول إنها ليست له وإن كان ما له فيها أنه ساق خلاصة وجيزة لها، وإنه ما من عصر يمكن أن يكون له جانب واحد كما يريد أن صور لنا العصر العباسي وإنه لم يخل زمن قديم أو حديث من مثل ما يصف الدكتور".
وعلى الرغم من أن إبراهيم عبدالقادر المازني عمل جنبًا إلى جنب مع الدكتور طه حسين، بل من محاسن الصدف، كما يقول المازنى، أنهما عملا معًا فى حجرة واحدة وعلى مكتبين متجاورين فى جريدة "الاتحاد"، وبينهما صداقة قوية، إلا أن هذا لم يمنعهما من أن ينتقد كل منهما الآخر، لذلك لم يكن بينهما مفر من الخصومة فهناك أسباب كثيرة للخلاف منها الخلاف السياسى، فكان المازنى من حزب "الوفد"، وطه حسين من "الأحرار الدستوريين"، وكل حزب له طابعه وأفكاره.
والخلاف الثانى كان ثقافيًا بحتًا، فكان محمد حسين هيكل وطه حسين يمثلان الدراسة اللاتينية فى مصر، بينما المازنى والعقاد يمثلان المدرسة السكسونية، حيث بدأت المعركة بمقال كتبه المازنى فى جريدة "البلاغ"، حيث قال: "استأذن صديقى طه فى أن أقول من غير غمط لأحد أو إنكار لفضل أحد أن أدب العقاد وإخوانهما هو عندى مظهر النشوء الطبيعى للأدب العصري".
كما كان لتوفيق الحكيم نصيبا من تلك المعارك على الرغم من وجود ود كبير بين الحكيم وعميد الأدب فكان إذا أصدر أحدهما كتابا سارع بإهدائه للآخر، وإذا غاب أحدهما عن أرسل له خطابا يطمئن به عليه، ولكن كل ذلك لم ينع طه حسين من أن يهاجم مسرحية "الملك أوديب" للحكيم ويقول إن توفيق أفسد القصة إفسادًا شنيعًا، وقال أيضًا فى صدد حديثه عن هذه المسرحية: "إن الذى ينقص توفيق أن يقرأ كثيرًا على أنه يتباهى بدراسة الأدب اليونانى والتمثيلية اليونانية فيبدو أنه درسهما درسًا متواضعًا وفهمهما فهما أشد تواضعًا".
وفاته
جاءت الساعات الأخيرة لعميد الأدب العربي يرصدها كتاب "الأيام الأخيرة في حياة هؤلاء" للكاتب حنفي المحلاوي، والصادر عن سلسلة اقرأ التابعة لدار المعارف، قالت سوزان طه حسين: "لم يكن يبدو عليه المرض إطلاقًا ذلك السبت 27 أكتوبر، ففى نحو الساعة الثالثة من بعد الظهر شعر بالضيق، كان يريد أن يتكلم لكنه كان يتلفز الكلمات بعسر شديد وهو يلهث، وناديت طبيبه، والقلق يسيطر على، لكني لم عثر عليه فركبني الغم، وعندما وصل، كانت النوبة قد زالت، وكان طه قد عاد على حالته الطبيعة، وفي تلك اللحظة وصلت برقية الأمم المتحدة التي تعلن فوزه بجائزة حقوق الإنسان، وانتظاره في نيويرك في العاشر من ديسمبر لتسلم الجائزة، وكان الطبيب هو الذي قرأها له مهنئًا إياه بحراره، غير أنه لم يجب سوى بإشارة من يده كنت أعرفها جيدًا كأنها تقول "وإيه أهمية ذلك؟ وكانت تعبر عن احتقاره الدائم، لا للثناء والتكريم ولا للأنوطة والأوسمة والنياشين".
مؤلفاته
الأيام، دعاء الكروان، حديث الأربعاء، المعذبون في الأرض، مستقبل الثقافة في مصر، وغيرها.