الخميس 25 ابريل 2024

رواية آلام يهوذا بين الفكر والسرد


أحمد الفيتوري

مقالات30-11-2022 | 20:35

أحمد الفيتوري

الرواية ديوان الكون ونشر العالم، فاشتملت على كل شيء فهي مدونة الزمان والمكان، فلم تعد جلسا أدبيا محضا ولا تخضع لتصنيف منذ أول القرن الماضي وحيزها يتسع ومكانتها ترتفع حتى غدت مع هذه الألفية مركز الإنشاء الأدبي، فهي تحتوي الملحمة الشعرية والإنشاء النثري، والدراما المسرحية، والمشهدية السينمائية، والتشكيل الفني، فتضم ما ترى من المعارف البشرية الفكرية والفلسفية الميتافزيقية والدينية والعلمية والاجتماعية والتاريخي والإيديولوجيا وغير ذلك ، ومن هذا هي سفر الأسفار، وهذا ما جعل الرواية تقريبا خارج التصنيف، وعليه دخلت سرديات قديمة عدة مجال الرواية كالجحش الذهبي والف ليلة وليلة، وبدأت تتناسل مصطلحات كالرواية السيروية والسيرة الروائية، ثم اتخذ مفكرون من الرواية سياقا سرديا لأطروحاتهم الفكرية، ولعل من أشهرهم سارتر وقبل الشاعر غوته.

إذا سلمنا أن السياق السردي الروائي لم تعد له حدود فإن هذا لم ولن يمنع أن ثمة سيقا سرديا يجعل من كتابة ما رواية، فيكون هذا السياق بنية داخلية يفرضها النص، خاصة عند البنيويين على تعدد نظراتهم، ومن هذا فالنص مرجعه النص، وهذا لا يجب قطعا غيره من النظرات، لكن يوكد خلال عليها السياق النصي وليس من خارجه.

النص الذي أثار مسألة نظرية الرواية، الذي نحن بصدد النظر فيه، رواية "آلام يهوذا" لماجد وهيب ما يحيل عنوانه ثم متنه إلى أننا بصدد، رواية تصنف نفسها من خلال سياقها السردي. كرواية تاريخية دينية حيث "آلام يهوذا" رواية سيرية غيرية، لشخصية دينية تاريخية شهيرة "يهوذا" المعروف في التراث الديني المسيحي، ومن هذا ثمة التباس تثيره الرواية، ما يطرح أسئلة تتوالد من متن رواية كهذه، فالرواية السيروية الغيرية، موضوعها آخر معروف كما هو "يهوذا"، فهل نعد يهوذا كشخصية تاريخية دينية، موضوعة مرجعية للرواية، وبالتالي نقرأ الرواية ضمن نسق التاريخ، أم علينا مصادرة هذه المرجعية الحادة الزاوية؟، وإن ولجنا الرواية خارج السياق السيروي الذي تثيره، فكيف نتعامل مع الجانب التاريخي الذي تحرص الرواية عليه، مضافا إلى حرفية في التوكيد على الأطروحات الدينية المتداولة ، ولغتها المسبوكة من نفس السياق، ما يحيل إلى ميتا سردية الرواية ما هو في تقديرنا صفر الكتابة. وفي الأخير فإن "آلآم يهوذا" رواية شخصية، الشخصية المشكلة لمجمل النص ما اصطلح عليه بـ "البطل".

وفي هذه الرواية السياق السردي مبتدأه إشكال ولادة "يهوذا"، وذروته انتحار "يهوذا" بعيد خيانة المسيح فصلبه، وما بينهما التوسط أي معالجة حياة "يهوذا" ومعاناته الحياتية والفكرية الدينية. البنية السردية الكلاسيكية واضحة وصارمة، وممسك بزمامها من خلال النسق السردي من الصفحة إلى الأخرى ومن الحدث إلى الآخر، ومن هذا تنجح الرواية في خلق تماهي بين الشخصية الروائية وسياقها السردي، ومعاناة الشخصية والأحداث والأطروحات الفكرية الدينية، ولأنها رواية سيروية غيرية، فهي رواية الشخصية بامتياز كما أشرنا، لكن كثيرا ما تتمظهر تناقضات "يهوذا" كتناقضات خارجية تستدعيها الأحداث، فليس ثمة في مجمل الرواية تركيز على وهن داخلي للشخصية، مما ساهم في جعلها شخصية ذات بعد أحادي، تفكر فيما يحدث ولا تعيشه، فـ"يهوذا" لا يكذب أبدا حتى على نفسه، فالشخصية فاعلة متماسكة وليس في داخلها أي عطب فإنها صلبة صلدة، ومن هذا وبه تواجه العالم المعطوب، هكذا هي شخصية فكرية مثلما شخصيات طه حسين، وتوفيق الحكيم، وسارتر ومن في حكمهم.

وإن رواية في مثل حالها، تستدعي القاريء المتفكر في مسائل فكرية وفكرية دينية، وهذا يرسل للمتلقي والقاريء المؤول رسالة معينة، قد تبعث إلى مناقشة المرجعية التاريخية والدينية، مما يزيح النص عن سياقه السردي إلى النسق الفكري، كما حصل مثلا مع رواية يوسف زيدان "عزازيل" الحائزة على البوكر العربية 2009م، ما فجرت مسائل فكرية دينية، مختلفا عليها، فراجت في مجال غير مجالها، وكان قرائها إن لم يكن مانحوها الجائزة أيضا، قد طالعوها ضمن النسق الذي عالجته وأثارته، وليس ضمن السياق السردي المفترض باعتبارها رواية. وتعتقد أن كاتبا ما قد يتغرض الأطروحات الفكرية التي يتضمنها النص كسارتر من همه الجلي الرسالة المحمول الوجودي ونظرته فيه، وقد فلح حتى أن بعض من نقاده يحسبه كاتيا روائيا أيضا.

تنحي "آلام يهوذا"، إلى أن تكون سياقا سرديا ينتج من سياق فكري ديني، فتكون الشخصية الرئيسة كما فكرة تمشي على قدمين... " أراح يهوذا ظهره إلى جذع الشجرة، التي كانا جالسين تحت ظلها:

-الخلاص هو أن يكون العالم بلا أحزان أو متاعب، ألا ينام إنسان باكيا، أو مهموما وخائفا الا يكون هناك فقر وجوع وأمراض وحروب أن ينتهي الشر تماما. وأن يكون لكل شيء شيء هنا على الأرض معنى أن يكون العالم جنة، الناس فيها جميعهم سعداء. جميعهم بلا استثناء، ومتساوون حتى هؤلاء الرومان الذين يحتلون بلادنا. أنا لا أحبهم لكني أريد أن أحبهم وهذا لن يحدث إلا إذا امتلكت قلبا جديدا لا يعرف الكره، وأنا أريد لكل الناس أن يمتلكوا قلوبا كهذا القلب".

هذا مقتطع من النص، مما كتب على الغلاف الأخير للرواية، ما يختزل خطاب الرواية محمول نظرة "يهوذا" للخلاص في مواجهة خطاب المخلص المسيح، وهذا الخطاب يشكل متن الرواية في شكل حوارات ومناقشات تجربها الشخصية الرئيسية مع شخصيات أخر منهم اصدقائه والمسيح نفسه. والرواية تعنى بالخطاب، فتجعل من الأحداث كما خلفية لطرحه، وتنسج نسقا سرديا كقماشة لمشغول "يهوذا" الفكري، فإن مارس يهوذا الزنا فذلك الحدث ذا بعد فكري ديني وليس نائج زلل أو خلل في الشخصية، وهكذا حتى إن خان المسيح المعلم، فالبنية السردية نسقها الخطاب الروائي ما قناعه "يهوذا" كما أشرنا.

فهل بهذا ننزع عن "آلام يهوذا" تصنيف الرواية التاريخية؟، وهل لو ذلك كذلك يمكن القول أيضا أنها ليست رواية سيروية غيرية؟، وهل بهذا المنزع نصنفها رواية فكرية؟، وهنا اتذكر مما قرأت من الروايات العربية "حي بن يقظان" لإبن طفيل "السد" للتونسي محمود المسعدي، ما كتب طه حسين مقدمتها، "عودة الروح" لتوفيق الحكيم، كفاح طيبة" لنجيب محفوظ، "في المنفي" الرواية الوجودية لليبي رجب بودبوس، وطبعا هناك أيضا روايات عالمية وتعلل الروائية أيريس مردوخ هذا التوجه الروائي، بأن الأدب يمكن أن يقرا من قبل كثيرين، وليس كالفكر ما يقرأ من النخبة فيكون هذا خلفية أن يلبسوا لبوس السرد وطبعا ليس من داع أن يخطر ببال أحد، أن الرواية الفكرية ليست رواية، خاصة وأن الرواية غدت نثر العالم، الذي تناثر وتكشفت ملامحه، حتى أن المرء يمكن أن يضمه بين كفيه برغم تراميه ومن هذا فإن المقاربة الشعرية، التي تعنى بالغموض والمبهم، ضمت أيضا إلى النسق السردي، فصارت القصيدة نثرية تعني بالسرد أيضاء، كما يلاحظ في الكثير من المنتج الشعري، فيما نعرف من شعر عربي ومترجم.

ان "آلام يهوذا" رواية فكرية، وما يهوذا إلا الشخصية القناع لأطروحة فكرية دينية، هذا ما يفصح عنه ويوكده السياق السردي، ولأجل ذلك يطفو النسق الفكري على بحر الأحداث المتلاطمة. ومن هذا فإن يهوذا الشخصية الأولى والأخيرة، وصلته بالمسيح صلة الفكرة بنقيضها، فتكون الأحداث في هذا النص كما الشخصيات الأخرى ظلالا لفكرة يهوذا عن الخلاص وعن المعيش، وعن ما يجب وما لا يجب أي عن الصيرورة البشرية المفقودة، في زحم حياة ناقصة إن لم تكن عبثية! أي هكذا حدث فقال نص الروائي ماجد وهيب "آلآم يهوذا".

Dr.Randa
Dr.Radwa