الثلاثاء 18 يونيو 2024

محمد عبلة .. حكايات بهجة مصرية على طريق الحرير

12-2-2017 | 18:39

د. سماء يحيى - فنانة تشكيلية وناقدة مصرية

  طريق الحرير هو اسم لممر تجاري يربط الشرق بالغرب، سار عليه الإنسان منذ ما قبل التاريخ ونقش على جدرانه ورماله حكاياته وأحلامه ونمى معارفه ومهاراته، وتحت سمائه المقمرة المليئة بالنجوم نسج أساطيره وأشعاره واكتسب خبراته وتبادلها مع أناس آخرين وهو يتبادل البخور والحرير والطعام والخزف والأخشاب والورق والجمال، على دروبه انتشرت الديانات ونمت الفلسفات من مصر إلى الجاندارا ومن فينيسيا لما بعد سور الصين. ومع العلوم والمعارف انتقلت أيضا العلوم والثقافات والأساليب الفنية والتعبيرية عبر الزمان لتضيف لفنون المناطق التي حلت فيها وتأخذ منها، وتخرج في كل مرة بصيغ وتراكيب وحلول فنية جديدة تثري الإبداع الفني المستلهم منها. وبمرور الزمن أصبح هذا التبادل أحد تقاليد الطريق.

    وهو التقليد الذي أحياه محمد عبلة في معرضه الذي أقيم في قاعة أفق (28 نوفمبر ـ 28 ديسمبر 2016). في هذا المعرض يعيد محمد عبلة كفنان مصري استلهام هذا التقليد لكن برؤية فنية جديدة تتفق مع الفلسفة التي طبعت أعماله منذ بداياته الأولى حتى الآن، وتتلخص في جملة واحدة "لغة الفن عالمية لكن الفن نفسه محلي"، ففي لوحاته يخاطب المتلقي بلغة مصري سار على طريق الحرير، وليس بلغة وسط آسيا بشكلها المتعارف عليه وبمفرداتها المألوفة، بل ظل وفيا لأسلوبه المحمل بتجارب وخبرات ثقافات أخرى، ووفيا في الوقت نفسه لجذوره وانتمائه وخبرات ثقافته الأم مع تحيزه الدائم للبهجة وفرحة اللعب والبساطة والنقاء.

   فلم يكن محمد أول فنان مصري استلهم طريق الحرير في أعماله، فالمنمنمات التي تأثرت بالفنون البوذية والهندوسية وأثرت فيها، تبدو واضحة في رسوم المدارس الطولونية والفاطمية والمملوكية ومدارس بغداد ودمشق وإيران، كما يبدو أثر الفن المصري واضحا على الأخص في مدارس بغداد ودمشق ولكن ما غامر به محمد عبلة وما جعل تجربته مميزة هو أنه استلهم تصاوير وحكايات طريق الحرير بطريقة معاصرة، فلم يستحضر موتيفات من مدارس التصوير في وسط آسيا كما لم يستحضر صورا شكلية تقدم حكايات بحذافيرها، بل استحضر روحا وأساليب للمعالجة وأعاد إنتاجها برؤيته أخذ منها وأضاف إليها، أقام حوارا معها وأعطاها كما منحته، فأبدع بهذه الطريقة مجموعة من اللوحات تحمل روحه المصرية المعاصرة التي دائما ما آمنت ببساطة التركيب ورسوخه دون مباشرة خطابية تململ العين أو الذهن، وبكل روح البهجة التي تحملها لوحاته دوما، مضيفا روح الفن الشرقي التي اهتمت بالجوهر وطوعت المظهر له على عكس الفنون الغربية التي دائما ما أعطت الأولوية لفكرة المحاكاة. لذلك كان تركيز محمد عبلة على دمج الموسيقى اللونية والخطية والإيقاع النغمي الذي يميز المدارس الآسيوية واستيعابها ليفعل بها مثلما فعل مع المدارس الغربية التي درسها في فترات سابقة من حياته، أي جعلها جزءا من تجربته التي صنعها من رؤيته وتجربته بدون طغيان عليها ولا إضافتها قسرا إليها من خارجها.

    وقد نجح في هذا لأنه يملك أدواته، وأكسبته خبرته الطويلة وقدرته الأدائية العالية المقدرة على خلق هذا التوازن الدقيق الذي يحول دون الوقوع في فخ التقليد والمحاكاة، فهو فنان صقل ملكاته وموهبته الفطرية الأولى بدراسات مكثفة مطورا بهذا حرفية ومهارة عالية أضاف إليها دراسات أكاديمية وتراثية وقراءة للمدارس الغربية والمصرية، ثم دعم هذا كله بانفتاحه على كل التجارب العالمية والجرأة على التجريب والمغامرة لإيجاد حلوله البصرية الخاصة المبتكرة والتي بمجرد رؤيتها يدرك المتلقي أنها تخص هذا الفنان وحده دون غيره، ثم يخلق من هذه الحلول لغة بصرية متميزة شاملة التعبير لا تعتمد على السطح الملون والتجسيمات التي يشتملها ولا على الحكايات المروية على هذا السطح بمعناها الأدبي المباشر ولا على الرموز المجردة وحدها، لكنه يمزج بين كل هذا في آن واحد ويصهره في بوتقة بصرية واحدة تخاطب من خلال العين، العقل والوجدان معا.

    هو حريص كل الحرص على أن يحشد على اللوحة من أول مرة كل أدواته من نغم لوني وإيقاع وحركة خطية وحروف تحمل في حناياها موسيقى كونية خالقا رؤيته الخاصة وحالته الشخصانية، حتى لو كانت على دروب طريق الحرير ومستوحاة من أساليب تصويره، وهو بهذا يحاول أن يملأ الدنيا بوجود له دوام نابض بالحياة يتنفس شهيقا وزفيرا ناقلا للرؤى والقيمة عبر الزمن، محاولا أن يعبر بتجربته هذه عن الجوهر الحقيقي الذي جمع كل مدارس ومراحل فنون وسط آسيا عبر طريق الحرير منذ العصور البدائية الأمومية الأولى وديانة التنجري حتى العصر الحديث، لاجئا للتعبير اللحظي المباشر على سطح اللوحة لضمان حالة الانسجام. ورغم لحظية ما يفعله إلا أنه لا يرتجل بالمعنى المتعارف عليه، بل يخلق حوارا خالصا بين شحنته الانفعالية والهيئة التي يشكل بها هذه الشحنة على سطح اللوحة دون أن يشغل نفسه ويلقي بالا لأصل الحكاية أو للتعبير الأدبي الحكائي، لأن الوسيط التشكيلي في رؤيته ليس مجرد وعاء يحمل بتعبيرات خارجية والشكل والتعبير لا حدود بينهما. يفعل هذا كله وهو واع تماما بحقيقة خالدة تتمثل في أن القيم أبدية وإن اختلفت الحلول التي تظهر جوانب هذه القيم وتكشف عنها، لذلك يدرك تماما أنه يستوحي من مدارس طريق الحرير أساليبها في إبراز القيمة، ولكنه لا يستعملها كما هي بل يضع منها أساسا لحلول مبتكرة خاصة به للتعبير، محاولا بهذا التعبير عن حالة الخلق الفني والتي هي انعكاس لحالة الخلق الكوني في الفلسفات الأسيوية بكل ما يصاحب هذه اللحظة من صراعات وحروب وشد وجذب ودوامات وتمزقات وتهتكات وتفتتات.

    ففي لوحته السفينة التي تتقاذفها الأمواج وسط أمواج وعواصف شاهد على ذلك كل هذا الصراع الذي يتقاذف السفينة، بينما تبدو في الخلفية نقطة الأصل والمنتهى تتأمل المشهد كشاهدة على الصراع من قديم الأزل، وتطل أطياف النور السماوي المحملة بألوان الشروق والإشراق تطل من بين تشققات السحاب معطية الشعور بالبعد الثالث ومضيفة إحساسا بالبهجة والنشوة، بهجة قرب انتهاء الصراع ونشوة خوض المغامرة. هذه البهجة وتلك المغامرة هي الروح الحقيقية لمحمد عبلة هي لمسته التي يضفيها على كل أعماله الفنية، في هذا المعرض يمرر أنامله الواعية الماهرة والمدربة بالمقص على الأشكال المتكونة فوق الورق كنتاج لحركات اللون الذائب في الماء تبعا لذبذبات الموسيقى فيحول تلك الأشكال العشوائية لشرائح كولاجية يضعها بطريقة محسوبة في أماكن معينة على سطح اللوحة لخلق حركة ديناميكية تعمد في أغلبها أن تكون دائرية، كما في لوحته الجنة وفي لوحتيه الفتيات الراقصات، وهو بهذا أعطى دور البطولة لحاسة اللمس البصري حيث أسند إليها مهمة خلق الديناميكية في حالة السكون اللحظي، دون أن يتخلى عن مبدأ تجميد اللحظة الذي تميزت به الفنون الأسيوية واختلفت بها عن المدارس العربية التي تعتمد على الديناميكية النابضة بالحياة، وقد تجلت مهارة عبلة في قدرته على المزج بين الحالتين فالسطوع اللوني والإضاءة مع المساحات اللونية البراقه تمنح الإحساس بالحالة السكونية الموحية باقتطاع لحظة من الزمن يمنحها بملمسه البصري وخطوطه وحروفه لتعطيها طابعا ديناميكيا صانعا نوعا من الحركة الداخلية في قلب اللحظة المجمدة.

   ولأنه فنان مصري عربي يرى المشهد الأسيوي بعينه هو ويعيد إنتاجه بطريقته فأعماله تعكس حسا تعبيريا عاليا محملا بصخب من التداخل والتزاحم بين التفاصيل والعناصر والرموز وهذه التراكيب شديدة الصخب ساخنة الألوان تقوي حركتها الإيقاعية شرائح الكولاج المقصوصة على خطوط لينة مليئة بالانثناءات والانكسارات لتخلق حالة فسيفسائية تميز الأشكال على السطح وتقوي حالة التعبير الحيوي المبهج المفعم بالحياة، وتعكس هذه الحالة ميله دائما للألوان التلقائية وتمرده الدائم على صرامة الإيقاع البنائي الهندسي وعشقه للضوء واللعب به كعنصر يحدد التكوين والفراغ كما تعكس غرام الفنان الدائم بإيجاد العلاقات الجمالية البصرية المبتكرة بين الأشياء، وهو بكل هذا يهدف إلى تحقيق التواصل والتخاطب والتفاعل بين المتلقي للوحة التي لا تهدف لإيصال المتلقي لحالة روحانية ووجدانية معينة ولا لإيضاح قصة أو حكاية بعينها بل هي لوحة مشاغبة ومشاكسة يلعب صاحبها على وتر إدهاش المتلقي وإبهاره وأيضا على دفعه لأن يخلق حكايته الخاصة من خلال خوضه لمغامرة الرؤية حتى أبعد حدودها، فهو لا يريد إيصال حالة وجدانية للمتلقي ولكنه كذلك مدرك لقانون حركة الكون التي لا تتوقف ولا تنتهي، ومؤمن بأن الحركة هي سر الحياة والمظهر الحسي المرئي لوجودها، لذلك لا يرغب في لوحة ساكنة ولكنه أيضا مدرك أن حالة السكون التي ميزت اللوحة الأسيوية تخلق حالة من السكينة تجذب المتلقي وتبهجه وتشعره بالراحة. وقد أوجد الآسيويون حلولا كثيرة لإعطاء الشعور بالحركة من خلال السكون، لكن الحل المبتكر الذي أوجده محمد عبلة جاء من خلال حصيلة خبرته وتجربته فكان أصيلا وصادقا ومضيفا لتجربة فنية وإنسانية فريدة مستمرة منذ آلاف السنين، ومن هنا تأتي أهمية تجربة معرض طريق الحرير وتضع عبلة كمعادل معاصر لمجربين عظام كان لهم أكبر الأثر أساليب فنية مازالت علامة تدرس حتى يومنا هذا مثل الواسطي وبهزاد اللذين تمردا على الأساليب التقليدية في عصريهما، وأدخلا معطيات جديدة على فن التصوير مازالت تدرس وتستلهم حتى اليوم.

    وكما يقول الفنان الكبير حسين بيكار: "إن هناك بعدا خفيا يتستر خلف الظواهر البصرية، وإن الفنان الصادق في سعيه الدءوب لبلوغ درجة الكمال أو الإمساك بالمطلق يتحتم عليه أن يبحر طويلا في آفاق المعرفة، لعله يستطيع أن يواجه الوجود اللامرئي بين ثنايا الوجود المرئي دائم التجدد، ويحظى أيضا بمشاهدة الجمال الأسمى من خلال الحركة الدائمة التي لا تتوقف أبدا".