السبت 27 يوليو 2024

«أنتَ السيِّد... !!»

مقالات20-12-2022 | 21:38

إذا لم يكن لك سابقُ اهتمامٍ ب (كرة القدم)، ولم تُصَبْ بجنونها، وراودتْكَ نفسُك على أن تكون مثل المحيطين بك ؛ صغاراً وكباراً، وألحَّتْ عليك نفسُك أن تشاهد _ ولو مرة واحدة _ نهائي كأس العالم المقام في قطر بين فرنسا والأرجنتين، لن تملك أن تحبس صيحات الدهشة من هذا الإبهار في كل ما اتصل بهذا العرس الكروي العالمي؛ لكنني ألمح بوادر تكذيبٍ أو _ لنجعل الأمر بسيطاً _ ألمح استغراباً شديداً يحتلُّ سطح عينيك ، كلما ذكر المعلِّق اسم لاعبٍ فرنسيٍّ فوجدته أسود البشرة ... !! هل انتقلت فرنسا جغرافياً إلى قارة أفريقيا ؟ !!.

أو أنه تم العبث بجينات الإنسان الأبيض ؟ !! فمعظم أفراد الفريق الفرنسي من ذوي البشرة السوداء ، وينتمون إلى أصولٍ أفريقيةٍ ، لكنهم يلعبون باسم الجمهورية الفرنسية ، ويدافعون عن ألوان العَلَم الفرنسي ، ويحرزون المجد ويصعدون منصَّات التتويج حاملين راية فرنسا ... ، فهل تناسى الفرنسيون وسائر الأوربيين لهؤلاء اللاعبين بشرتهم السوداء وأصولهم الأفريقية ...؟!!

إن ملاعب أوروبا مملوءةٌ بشتَّى  الممارسات العنصرية تجاه هؤلاء اللاعبين ؛ من إصدار أصوات القردة كلما استلم أحدهم الكرة أو احتفل برقصته الأفريقية الرشيقة عند إحرازه هدفاً، مروراً بقذْفه بثمار الموز كلما كان قريباً من مدرجاتهم ، انتهاءً بمطاردة حساباتهم الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي بتعليقاتٍ عنصرية تُجبر هؤلاء اللاعبين إلى إغلاق الحسابات ولو بصورةٍ مؤقتةٍ ...!! ليطفو على الأذهان تساؤلٌ لا يكاد يفارق كل متأملٍ .. ألم يستطع الأوروبي أن يتخلَّص من نظرة الاستعلاء ونظرية تفوُّق الإنسان الأبيض على مَن عداه من سائر الأجناس الشرية ، والتي تجعله يرى في نفسه "سيِّد الأرض" المباح له أن يستعبد كل من عداه من بني الإنسان .... ؟!!.

إنها القضية التي عبَّر عنها فارس العرب " عنترة بن شداد" بكل بساطةٍ ، متعجباً من هذي المفارقة في معاملة بني عبسٍ له وتبدُّلِها حسب حال احتياجهم ؛ فهو في السِلْم " ابن زبيبة " هكذا يرونه حال استغنائهم ، لكنهم حال اشتداد المعارك ينادونه ب " ابن الأطايب " هكذا يقول عنترة دونما تزويق:

يُنادونَني في السِلمِ يا اِبنَ زَبيبَةٍ   ##   وَعِندَ صِدامِ الخَيلِ يا اِبنَ الأَطايِبِ

وَلَولا الهَوى ما ذَلَّ مِثلي لِمِثلِهِم   ##   وَلا خَضَعَتْ أُسدُ الفَلا .... لِلثَعالِبِ

ليشير عنترة في البيت الثاني إلى السرِّ في إغضائه، أو بلفظٍ أكثر صراحة تخاذله عن أخْذ موقفٍ تجاههم ، إنه حبُّ عبلة الذي يسكن جوانحه ، ويأبى عليه أن يطيع عقله ، إنه الهوى الذي أذلَّ مثله ، وأخضع " أسْد الفلا ... للثعالب"، فلْيقبلْ عنترة هذي السلوكيات البغيضة مادام قد ملَّك قلبه أمرَه ، ولْيُغمضْ هؤلاء اللاعبون أعينهم عن عنصرية الأوروبيين طالما اختاروا جوارهم، وتجاهلوا أصولهم الأفريقية ، إنه الهوى الذي أذل قبلهم عنترة ذا الأصل الأفريقي قديماً ، فطن إلى ذلك ( برنارد دادييه ) الشاعر الإيفواري العظيم فجعل محور شعره ومسرحه العبودية وتجارة الرقيق، إنها قضيته الكبرى التي عالجها ، وهو السياسي الذي شارك في صنْع استقلال بلاده ، واختلف سياسياً مع نظام الحكم في وطنه ؛ لكنه لم يفرط أو يهادن في بث العزة والإباء في نفوس شعبه وسائر أبناء أفريقيا ، من هذا النبع الإنساني جاءت قصيدة " أنت السيد " في ثلاث دفقات بديعة مبدوءة بخطابٍ موجَّهٍ للمفرَد وكأنه لكل أفريقي وبذلك الخطاب جاء الختام مسبوقاً ب " أنت الشعب " ؛ ولا يخفي جمال الإفراد في الخطاب ليستشعر كلُّ أفريقي بعزة الوصف ب "السيد".

وتعقد الدفقة الأولى مقارنةً مدهشةً بين ما يؤديه الأفريقي وما يأخذ لقاء عطائه ؛ فهو المانحُ الخيرَ المحرومُ من أبسط حقوقه الإنسانية، وهكذ حال الشعوب التي ابتليت بالاستعمار ، لكنه في الدفقة الثانية تأخذ القصيدة منحى مغايراً فيتحدث بلسان حاله لتصبح (أنت) و(أنا) شخصاً واحداً عاجزاً عن حلم الالتحاق بمدارسهم أو تتجه مناهجهم للاهتمام بطموحاته لأنه للأسف هو الشعب ؛ لتأتي الدفقة الثالثة معللةً سرَّ اتجاه الشاعر بنداءاته إلي كل أفريقيٍّ نال حريته أو مازال في سجون المستعمر، لا يكفُّ عن مناداته ب (أنت ملك الحقول ، أنت ملك المصانع، أنت الشعب .... أنت السيد !!) فإلى صرخة (برنارد دادييه):

«أنت السيد»

أنت الذي تزرع الأرز

أنت الذي تغزل الصوف

أنت الذي تبني القلاع

وأنت الذي يتضور جوعًا

وأنت الذي يلبس الخرق

وأنت الذي ينام تحت النجوم.

ليس لديَّ حق الوصول إلى فصلهم

ليس لديَّ حق الوجود في كتبهم.

أنا من عالم آخر، عالم الشعب.

لهذا على كورا إفريقيا القديمة.

اليوم في تحوّلٍ ... عبْر المدن والسجون

تحت بوابات مفترقات الطرق

أُنشد لكل فردٍ :

أنت ملك المصانع ... أنت ملك الحقول

أنت الشعب ... أنت السيد ...!!