السبت 27 يوليو 2024

أمل الذكريات في صنع المستقبل

مقالات1-1-2023 | 19:35

ترتبط في ذهني ليلة رأس السنة بذكريات سنوات قضيناها بالاتحاد السوفييتي السابق بالتحديد عن غيره، فقد كانت مناسبة معتاد لنا قضاؤها سنوياً بأكبر فنادق العاصمة موسكو "كوزموس"، حيث كانت عروض الفرق الروسية زاهية الألوان سريعة الحركة هي قاسم مشترك في عروض كل عام، كان أبي صاحب الابتسامة الجميلة الهادئة التي تدفىء المكان، وأمي بأناقتها المعتادة تستحوذ على إعجابي، وأخي الفصيح المتأنق بكامل التفاصيل، ومجموعة من عِليَة القوم من الشعب الروسي الذي كان لم يزل تحت تأثير الحكم الشيوعي المنغلق آنذاك، وبالتالي كان السواد الأعظم من الشعب يحيا حياة شديدة التعقيد والعزلة والالتزام.

على كل حال، كانت عادة والدي أن يصطحب معه كاميرا الفيديو على حامل ثابت، بحيث يقوم بالتسجيل لنا فرداً تلو الآخر فيلقي علينا سؤال البداية "ما هي رسالتك للأهل في مصر من تهنئة بمناسبة رأس السنة؟" كانت أجمل الكلمات تخرج من أفواه أبي وأمي وحتى شقيقي الفصيح الذي يحاكي نفس طريقة أبي في الإلقاء المتزن وكأنه رجل بالغ راشد عاقل، في حين كنت أنا الطفلة الشقية كثيرة الحركة لكن خجلي يغلبني عن الخروج بكلمتين مفهومتين، وفي المنزل حين العودة كنت أتبارى مع شقيقي في تزيين شجرة الكريسماس التي كنا نبتاع زينتها من "الديسكيمير" أشهر محلات لعب الأطفال والزينة في موسكو.

هي ذكرياتي المحفورة بجدران وجداني، فرأس السنة بالنسبة لي ستظل قابعة في ذاكرتي بتلك التفاصيل التي نحفظها عن ظهر قلب كأسرة صغيرة ارتحلت بين بلدان العالم كوحدة واحدة لم يفرقها غير بعض الإجازات، وبرغم تواتر السنوات وتبدل الأحوال وتغير الأماكن، ستظل شرائط الفيديو التي صنعها لنا والدي –رحمه الله- وتركها لنا هي سنيني الراحلة والباقية في شريط ذكريات كلما تذكرته، حضرت ابتسامة قلبي لإرادياً.

وعلى بساطة الذكريات، كان الثراء والغلو في القيمة، فقد صنعها أبي بقوة الحب، وصاغتها أمي بعظمة الحنو، وكنت وشقيقي الأبناء الملتزمين بوازع التربية المصرية الصميمة المنصاعة، رغماً عن اختلاف شكل الحياة التي عايشناها مقارنة بآخرين، فكنا سعداء بأبسط التفاصيل، نلتف حول كل ما يصنعه والداي ويقطتعانه من جوارحهما لإسعادنا ومنحنا أجواء الدفء والاحتواء في الغربة الباردة، دون إفراط في التعويض والحنو أو تفريط في الثقافة والدين.

أفتقد بساطة الصنع، ودفء الماضي، وبهجة التفاصيل، ولكم أتمنى استرجاعها بجهاز الريموت كونترول إن أمكن إيقاف عقرب الزمن والعودة به إلى الخلف، لكن، ولأنني على يقين باستحالة العودة إلا من خلال استدعاء الذاكرة على سبيل الاستشفاء النفسي من الحاضر، والتأهيل الذهني للمستقبل، فقد هيأت عقلي على خاصية التعايش السلمي والتحصن بالذكريات بديلاً عن التحسر بها، فلا تقهقر من ميدان الحاضر إلا بالتحضر للمستقبل بالقدر الجميل الذي اختزنته من ذكرياتي الثرية.

وبناء عليه، فها أنا أطلق أمنياتي للسماء بطرف خيط بالون الأمل والرضا والقناعة وحسن والظن.