الجمعة 27 سبتمبر 2024

ثنى عاصمة التأسيس


أبيدوس

مقالات12-1-2023 | 16:29

أ.د. أيمن وهبى طاهر مصطفى

سمى الإقليم الثامن من أقاليم الوجه القبلي تا-ور بمعنى الأرض العظيمة وكانت عاصمته ثنى وجبانتها أبيدوس التى كانت تعرف فى النصوص المصرية القديمة باسم آبجو ومنها وردت التسمية اليونانية أبيدوس‘ كان المعبود الرئيسى للإقليم خنتي إمنتى , أوزير والموقع الحالى للإقليم يشمل العرابة المدفونة مركز البلينا ,جرجا, أو البربا أخميم.

اختلف العلماء حول موقع ثنى بسبب زوال آثارها, يرى العلماء أن مكانها قرية برديس الحالية بالقرب من الضفة الغربية للنيل أو قرية البربا الحالية على بعد حوالى 5كم جنوب غرب مدينة جرجا وبالتحديد قرية الطينة, القريبة من برديس كما حددها آخرون بقرية نجع المشايخ الحالية, جنوب شرقى جرجا أو أنها قرب قرية نجع الدير41 كم جنوب سوهاج, على الشاطئ الشرقى للنيل جنوب مدينة جرجا‘ وربما كانت أقاض موقع المدينة القديمة الأصلى تحت القرية الحديثة بنى منصور وربما كانت المدينة كلها محاطة بسور ضخم من الطوب اللبن مازالت بعض بقاياه موجودة حتى الآن‘ ويرى آخرون أنها قرية  أبيدوس نفسها.

قد امتازت مدينة " ثني " بموقع يتوسط أراضى الصعيد مما أعان حكامه على سهولة الإشراف عليها كلها مما دعى حكام الصعيد إلى الانتقال إليها من مدينة " نخن ", قبل قيامهم بتوحيد البلاد مباشرة .

ظلت ذكرى ثني عالقة في أذهان المصريين حتي عصورهم المتأخرة وحينما كتب المؤرخ المصري مانيتون السمنودى تاريخ بلاده حتي القرن الثالث قبل الميلاد الذى عاش فيه, وجد من الوثائق والرويات ما جعله ينسب ملوك الأسرتين الأولى والثانية إليها فسماهم باسم الملوك الثينيين .

مثلت أبيدوس  جبانة مدينة " ثني ", واحتفظت بشهرتها أكثر من مدينة ثنى نفسها, حيث إن ملوك الأسرتين الأولى والثانية قد شيدو مقابرهم فيها.

تعد أبيدوس اقدم المدن المصرية حيث نالت شهرة ربما لم تنلها اى  مدينة مصرية غيرها. نالت أبيدوس شهرتها كأقدم عاصمة لعصر التأسيس الذى سبق توحيد القطرين على يد مينا الذى ذُكر اسمه كأول الملوك الحكام ضمن قائمة الملوك بمعبد ستى الأول بها.

عُرفت تلك الفترة بالعصر الثنى أو العصر الطينى نسبة إلى اسم المدينة القديم ثنى الذى يعتقد أنها قرية الطينة بالعرابة الدفونة.

واكتسبت شهرتها أيضاً بسبب وجود معبد خنتي إمنتى إمام الغرب, او (خنتي إمنتيو إمام الغربيين ) بها, ثم زادت شهرتها منذ اعتقاد المصرى القديم أنها تحوى ضريح رب العالم الآخر أوزير فزادت قدسيتها وأصبحت أحد أماكن الحج المقدسة في مصر القديمة.

كان المعبود المحلى لهذا الإقليم هو خنتي إمنتى, ثم جاء بعده المعبود أوزير الذى اخذ صفاته, واندمج معه, فأصبح " أوزير خنتي إمنتى " أو "أوزير إمام الغربيين " .

وبسبب قدسية أبيدوس فقد ندم الملك الإهناسى خيتي- على تدميره لأبيدوس ووصى ابنه الملك مريكارع – إن الحرب علي أرضها وجبانتها المقدسة خطأ لا يغتفر.

كانت أبيدوس العاصمة الدينية للإقليم الثامن, والمركز الرئيسى لعبادة أوزير ومعه بقية الثالوث (إيزيس وحور), ظلت قدسيتها طوال التاريخ المصرى القديم لاعتقاد المصريين بأن رأس أوزير قد استقرت بها, وكان لهذا المعبود ضريح هناك حيث نسبت مقبرة الملك "جر" أحد ملوك الأسرة الأولى إلي المعبود أوزير.

بسبب القداسة الدينية بالإضافة إلى التاريخ السياسى للإقليم, كان لابد أن تنال اهتمام ملوك مصر وأفراد شعبها, ومن ثم فقد عُمرت المدينة عبر التاريخ المصرى القديم بالكثير من المنشآت من معابد ومقاصير ومقابر, بالإضافة إلي اللوحات التذكارية, وكل ما يمكن أن يخلد ذكرى زيارة الشخص لمدينة أوزير المقدسة حيث أصبح تشييد العمائر فى المنطقة من الحسنات التى تنفع من أجل نيل رضى أوزير والعبور بسلام للعالم الآخر.

وفى بلد يمجد الماضى والرجال العظام نما شعور عام من التمجيد لهذه البقعة المقدسة التى تضم مقابر اوائل الفراعنة لذا تزخر أبيدوس العديد من الآثار الخالدة التى من خلالها نستطيع أن نتتبع تاريخ هذة المدينة, حيث شيد ملوك العصر العتيق بالقرب من مسقط رأسهم مقابرهم بها ‘ دُفن رجال البلاط فى أبيدوس فى مقابر تحيط بمقابر ملوكهم، بينما دُفن عامة الشعب فى جبانات منفصلة تحيط بها جدران مُستطيلة وكانت المقبرة عبارة عن غرفة مستطيلة الشكل يكسو جدرانها اللبن، وتُغطيها قوائم وألواح خشبية وُضعت بزوايا قائمة عليها. وكان هذا الطراز هو الشائع فى عصر بداية الأسرات فى مُعظم جبانات مصر القديمة وبوجه عام تقع فى الشمال الشرقى من أم الجعاب جبانة كبار الشخصيات‘ كما حرص كبار الموظفين أن يدفنوا فى أبيدوس ومنهم حكام أقاليم بمصر العليا بل ودفنت بها السيدة "نبت" أول وزير امرأة فى مصر القديمة.

وأخذت المعابد تنشأ بالتدريج معبرة عن الأهمية الدينية لهذة المدينة ومعبودها أوزير ومع انتشار عقيدة أوزير فى أواخر عصر الدولة القديمة, زاد الاهتمام بأبيدوس, وأصبح كل مصرى يسعى لزيارة ضريح أوزير رب العالم الآخر ورب الأبدية. وشهدت أبيدوس طفرة معمارية وفنية قل أن نجد مثلها عبر تاريخ الفن المصرى, والتى تبدو فى أكثر من منشأه لكنها بلغت ذروتها فى المعبد الفخم للملك سيتى الأول , الذى يمثل فترة من أهم وأزهى فترات الفن المصرى.

وفى كل عام كانت تُقام الاحتفالات بذكرى موت وبعث أوزير وكان يُحتفل فى معبد أبيدوس كل عام بعيد أوزير ليلة 28 من شهر توت ، واحتفال آخر فى شهر كيهك واستمر المصريون طوال عصر الانتقال الأول وعصر الدولة الوسطى يتسارعون فى التعبير عن حبهم وولائهم لمعبودهم , ووصل الاهتمام إلي ذروته فى عصر الدولة الحديثة, وكان أوزير فى إحدى الروايات أول ملك لمصر ومعلم لشعبها، وربما كان من الطبيعى أن يقترن اسم أول ملك لمصر بالمكان الذى دُفن فيه ملوك الأسرتين الأولى والثانية، وبهذا أصبح لأوزير مكان مُقدس فى أبيدوس.

فى بعض الأساطير الدينية المصرية القديمة كان أوزير إبناً للمعبود جب إله الأرض والمعبودة نوت ربة السماء ، وقد تزوج أوزير أخته إيسة (إيزيس) وتنازع مع أخيه ست، الذى قام بتقطيع جسد أوزير إلي أربع عشرة قطعة وفرقها فى جبانات الوادى وبحثت إيزيس عن أشلاء زوجها، وكلما عثرت على عضو أو جزء تقيم عليه قبراً ، ثم استقر الجسد فى أبيدوس ..... ، واعتبره المصريون القدماء إلهاً يحكم الموتى والعالم الآخر.

كان تمثيل قصة أوزير يستغرق ثمانية أيام فى معبد أوزير فى أبيدوس .

- فى اليوم الأول: يخرج المعبود وبواوات فى موكب ليطرد أعداء أوزير ويفتح له الطريق .

- اليوم الثانى: يظهر أوزير فى قاربه ومعه الزوار الذين يساعدونه فى صد الأعداء.

- اليوم الثالث: تنظيم مراسيم الموكب لأوزير الذى لاقى حتفه.

- اليوم الرابع: يُشارك تحوت فى الاحتفالات ويُسجل وقائع ما حدث لأوزير .

- اليوم الخامس: تُقام الاحتفالات المُقدسة ويُجهز جسد أوزير للتحنيط .

- اليوم السادس : يسير الموكب إلي الضريح المُقدس خلف العربة المدفونة حيث يضعون الجُثمان المُحنط لهذا المعبود .

- اليوم السابع: مشهد رائع على شاطىء أبيدوس حيث تتم هزيمة أعداء أوزير بمن فيهم ست، فى موقعة كُبرى مع حور.

- اليوم الثامن: أوزير عاد للحياة مرة أخرى ويدخل معبد أبيدوس فى موكب كبير.

وظلت أبيدوس تحتفظ بمكانتها خلال العصور المتأخرة, وكذلك فى العصرين اليونانى والرومانى حتى عهد الإمبراطور الرومانى جستنيان, الذى أمر بتدمير معابدها وقتل كهنتها.

وأهم المواقع الأثرية المتبقية فى أبيدوس :

- مقابر أم الجعاب التى سميت بهذا الاسم نظرا لأن القرابين كانت توضع فى قدور فخارية وتترك فى الصحراء عند المقبرة التى كانت تعتبر مدفنا للإله وهو ما أدى إلى نشأة مستودعات ضخمة من الفخار فوق المنطقة الخاصة بمقابر الأسرة الأولى بصفة عامة ومنطقة قبر الملك جر بصفة خاصة أنقاض هذه الأكوام هى السبب فى التسمية العربية الحالية للجبانة الملكة المبكرة وهى أم الجعاب والتى تعنى أم أو ذات القدور. تضم منطقة أم الجعاب مقابر ملوك الأسرة الأولى وهم: نعرمر، حورعحا، جر، جت ، دن، مريت نيت ، عج إيب ، سمر خت ، قاى – عا ‘ ومقابر ملكين من الأسرة الثانية هما: بر إيب سن ، خع سخموى .

شونة الزبيب تقع إلي الشمال الغربى من معبد رمسيس الثانى وإلي الغرب من كوم السلطان‘ ويرى البعض أن تسمية " شونة الزبيب" ترجع إلي الاسم المصرى القديم " شنت جحوتى هب " أى "مخزن أوانى أبو منجل" وإلي شمال شونة الزبيب يوجد مبنى مهدم، ويُسمى " الحصن الأوسط".

- كوم السلطان تقع إلي الشمال من معبد رمسيس الثانى، ورغم أن أطلال المدينة القديمة والتى بُنيت من اللبن من أيام الدولة الوسطى إلا أن المنطقة عُرفت منذ فجر التاريخ . كان بها معبد أوزير الذى بُنى أيام الأسرة الأولى كما عثر بها على تماثيل صغيرة رائعة من العاج لرجال ونساء وأطفال أشهرهم التمثال الوحيد المعروف للملك خوفو.

- الجبانة الجنوبية تقع بالقرب من جبانة المسلمين الحالية، إلي الجنوب من معبد سيتى الأول ببضع كيلو مترات.عثر فيها على آثار مثل القبر الرمزي لسنوسرت الثالث ومعبد ذات شرفات لأحمس الأول وضريح رمزى للملكة تتى شرى.

الأوزيريون هو ضريح رمزي تُجرى فيه دفنة رمزية تجمع بين الملك المُتوفى وبين أوزير‘ يوجد خلف معبد سيتى الأول من الغرب ، وقد شُيد فى مستوى 18 م أسفل أرضية المعبد‘ يعد هذا المبنى خريطة للعالم السفلى ويحتوى على نصوص تساعد المتوفى على اجتياز مخاطر العالم السفلى.

- معبد رمسيس الأول شمال شرق معبد سيتى الأول ، ولم يبق منه سوى بقايا مما شيده سيتى الأول لوالده رمسيس الأول من أجل أوزير

- معبد سيتى الأول يُعتبر أهم الآثار الموجودة فى أبيدوس، وأكمل المعابد المصرية القديمة وأحد مفاخر العمارة ، شيده الملك سيتى الأول وأكمله ابنه رمسيس الثانى، وترجع شهرته لأنه فريد فى تخطيطه المعمارى وبه سبع مقاصير خصصت لأوزير، وإيزيس، وحور، وآمون رع  ورع حور آختى، وبتاح والسابعة للملك سيتى الأول نفسه ومناظره ونصوصه من أزهى مراحل الفن المثالي، ومازال يحتفظ بألوانه زاهية حتى الآن وبه أكمل قوائم الملوك (قائمة أبيدوس) وبه قائمة بأهم الآلهة ‘ وأوقف سيتى على هذا المعبد إيراد مناجم الذهب فى البرامية فى الصحراء الشرقية، وكانت أعظم مناجم الذهب فى وقته. كما أوقف أيضاً إيراد الأقاليم التى استولى عليها ، ونقش عند نورى شمال الجندل الثالث نصاً لحماية المعبد والعاملين به وممتلكاته.

- معبد رمسيس الثانى يقع إلي الشمال من معبد سيتى الأول، كرسه الملك رمسيس الثانى لأوزير ، وتحمل حوائط المعبد مناظر مهمة مثل معركة قادش التى صُورت على الجزء الشرقى من الحائط الشمالي من الخارج .

ظلت لمدينة أبيدوس قدسيتها طوال معظم فترات التاريخ المصرى، واستمرت تلعب دورها فى العصرين اليونانى والرومانى، فقد عُثر على مقابر من هذه الفترة فى المنطقة المواجهة لشونة الزبيب، وهى مقابر مشيدة من الطوب اللبن وتتخذ شكل المصطبة ، وقد عُثر فيها على عدد كبير من اللوحات الجنائزية التى أظهرت مرحلة التزاوج بين الفن المصرى القديم والفن اليونانى الرومانى.

استمرت أبيدوس مقصدا لكل ملوك مصر فى العصور التاريخية يشيدون فيها أضرحة تذكارية مثل الملك زوسر بانى الهرم المدرج الذى بنى ضريحا رمزيا فى بيت خلاف جنوب أبيدوس وكذلك فعل خلفه الملك سانخت‘ أولى الملك ببى الأول والملك ببى الثانى من الأسرة السادسة عناية فائقة لأبيدوس على وجه الخصوص والإقليم الثامن على وجه العموم وقامت علاقات مصاهرة مع حكام أخميم كما حذا ملوك الدولة الوسطى حذوا ملوك الدولة القديمة وشيد سنوسرت الثالث معبدا وضريحا له فى أبيدوس وزاد نشاط ملوك الدولة الحديثة المعمارى فى أبيدوس أمثال أحمس الأول وتحتمس الثالث وحتشبسوت وآى وحورمحب ثم رمسيس الأول وستى الأول ورمسيس الثانى ورمسيس الثالث واستمر اهتمام ملوك العصر المتأخر بأبيدوس فى عصر الأسرة الثانية والعشرين والسادسة والعشرين والأسرة الثلاثين وقل الاهتمام شيئا فشيئا فى العصر البطلمى والرومانى حيث خرص الملوك على تركيز نشاطهم المعمارى على معبد رننوتت فى الشيخ حمد فى أخميم.