الخميس 9 مايو 2024

منديس (تل الربع).. العاصمة المنسية فى محافظة الدقهلية

د. محمود المحمدى عبدالهادى

محافظات13-1-2023 | 14:25

د. محمود المحمدى عبدالهادى

تقع منديس على بعد سبعة عشر كم من  شرق مدينة المنصورة عاصمة محافظة الدقهلية وأيضا عشرة كم شمال شرق مدينة السنبلاوين، وتبعد عن القاهرة بمسافة مائة وخمسون كم وعن ساحل البحر الأبيض المتوسط بحوالى خمسة وثمانون كيلو متر حيث كانت هذه المدينة منارة للحضارة فى العصور المصرية القديمة وربما ترجع إلى عصور ما قبل الأسرات وذلك لما أشار إليه عالم المصريات روفورد الذى أقام حفريات بهذه المدينة عام ألف وتسعمائة وثمانون حيث ذكر أن هذه المدينة ترجع على عصر نقادة الثالثة مما يؤكد أن هذه المدينة هى من أقدم مدن الدلتا.

وتبلغ مساحة التل الحالى حوالي 207 أفدنة، وكان يمتد حتى تل آثار تمي الأمديد، الذي كان يعتبر جزءا منه، ولكن الأرض الزراعية ومساكن قرية كفر الأمير عبدالله بن سلام قد فصلت التلين عن بعضهما البعض، وأصبحت المسافة بينهما لا تتعدى عدة مئات من الأمتار ويعتبر من أهم التلال الأثرية في الوجه البحري، حيث كان مقرا لحكم الأسرة التاسعة والعشرون، التي حكمت مصر قرابة العشرون عاما، وكان أول ملوكها "نفريتس" أو "نايف- عاو- رود" الذي لعب دورا كبيرا في مقاومة الفرس.

تجدر الإشارة أن مندیس كانت تمثل عاصمة للإقلیم السادس عشر من أقالیم الوجه البحري وقد تمیزت المدینة بموقعها المهم حیث كانت أغلب أجزاء المدینة قدیما تقع على أحد الفروع الرئیسیة للنیل (الفرع المندیسي) مما جعلها لا سیما خلال الفترة من القرن السابع ق.م حتى الرابع ق.م میناء نهري ومركز تجاري دولي حیث اتصلت المدینة من خلال الفرع المندیسي بالبحر المتوسط والوجه القبلي، ودعم ذلك العثور من تلك الفترة على كمیات كبیرة من فخار شرق الیونان في إشارة لوجود تجارة مع جزر ساموس، ثاسوس كما عثر على كمیات من أوانى فخارية ذات سمات فنية فینیقیة حيث يشیر ذلك لروابط منديس مع ساحل بلاد الشام مما جعل موقعها أهم أحد أسباب اختیارها عاصمة لمصر عن طریق ملوك الأسرة التاسعة والعشرین.

وفي العصور المبكرة كانت المنطقة تسمى "عانبت" ثم أصبحت "جدت"، وكانت مقرا لعبادة الإله "آمون رع" في صورة الكبش المقدس "خنوم" الذي يصور برأس كبش وجسم آدمي، والمعروف باسم "الكبش سيد منديس" "با – نب – جدت". وقد ذكرت هذه المقاطعة لأول مرة في النصوص المصرية في الأسرة الرابعة وقد ظهرت "جدت" في القائمة الجغرافية المسجلة على المقصورة البيضاء في الكرنك الخاصة بالملك "سنوسرت الأول" كعاصمة للإقليم السادس عشر، وهو نفس الإقليم الذي عبدت فيه الإلهة "حات – محيت"، والتي اتخذت رمزا لهذا الإقليم، لذا يعتقد أنها كانت المعبودة المبكرة لهذه المنطقة.

وتشیر الأدلة الأثریة بتل الربع (منديس) أن الموقع كان مأهولا بالسكان منذ عصر بوتو- المعادي (منذ. ٣٨٠٠ ق.م) وعثر بالموقع على أدلة أثریة تثبت وجود سكان بالمدینة خلال العصر العتیق حیث عثر قرب معبد الكبش من هذه الفترة على صوامع نصف دائریة لحفظ الغلال، قواریر ماء، قدور خبز من الفخار، وكسرات تمثل بقایا ختم طیني كبیر لحورعحا من الأسرة الأولى.

ورد اسم مندیس للمرة الأولى في النصوص المصریة القدیمة خلال الأسرة الرابعة من خلال نص لشخص یسمى ميثن وبرز اهتمام الملك تتي مؤسس الأسرة السادسة بالموقع حیث حمل لقب محبوب با نب جدت (معبود منديس)، كما ورد اسمه كجزء من أسماء بعض أهالي مندیس مثل اشتف تتي الذي كان یشغل مدیر القصر.

وقد شهدت نهایة الأسرة السادسة أو بدایة عصر الانتقال الأول انحدار ملحوظ للمدینة ربما بسبب انخفاض مستوى النیل، وعثر على بقایا سكان متواضعة وتركت وحدة إنتاج الطعام الموجودة غرب المعبد مهجورة ولم تعد تستخدم خلال عهد ببي الثاني ووقعت بعد ذلك مذبحة كبرى بالموقع ونهبت الجبانة وحرق المعبد.

ومما سبق يدل بأن هذه المدينة وصلت إلى درجة عالية من الرخاء فى نهاية عصر الدولة القديمة حيث كانت تقع على الفرع المندسيى لنهر النيل وكان هذا الفرع يصب فى البحر الأبيض المتوسط، ثم أخذت شهرتها تتراجع فترة الدولة الوسطى وفترة احتلال الهكسوس.

وفى الدولة الحديثة اهتم ملوك الدولة الحدیثة بالموقع وهو ما برز من خلال أنشطة ملوك هذه الفترة بالمدینة وأبرزهم الملك تحتمس الثالث الذي رمم معبد مندیس والملك رمسیس الثاني الذي شید بهو أمامي وصرح للمعبد كما عثر على اسمه وكذا اسم ابنه الملك مرنبتاح على بعض الأدوات المكتشفة بالمنطقة وازدهرت مرة أخرى فترة حكم الأسرة السادسة والعشرين والدليل على ذلك الناووس الضخم الذى أقامه الملك أحمس الثانى.

وتعود مرة أخرى هذه المدينة لكى تكون عاصمة للبلاد فترة حكم الأسرة التاسعة والعشرين حيث أسس نایف عاورود الأول الأسرة التاسعة والعشرین واتخذ من مندیس عاصمة للبلاد حیث كانت موطنه الأصلي فحكم ودفن بها، وحكم بعده الملك هقر الذي اهتم أیضا بالمدینة فواصل أعمال البناء والترمیم بها، وقد ذكرت "منديس" في نصوص التوابيت أنها المكان الذي تعيش فيه "البا". وقيل أن "رع" و"أوزير" التقيا في "منديس" وهناك أصبحا "البا المتحدة". وجاء أيضا أن الإله "أوزير" كان يتقمص هذا الكبش ومن ثم أصبح يطلق عليه "با– نب – جد" أو الكبش سيد "جد" أو أوزير

وقد استمرت عبادة هذا الإله حتى العصر اليوناني. وقد أقام كهنته نصبا تذكاريا في منديس تكريما لبطليموس الثاني، حيث قام بزيارة معبدهم عقب توليه العرش مباشرة. وفي العام الخامس عشر من حكم هذا الملك أقيم حفل جنائزي للملكة "أرسنوي" في منديس، وظهر تمثالها مع الكباش المقدسة وسميت "أرسنوي فيلادلفوس حبيبة الكباش". وفي عهد هذا الملك أيضا اهتدى أهل منديس إلى كبش مقدس جديد ولقب "سيد أوزيريس الحي" وأقيم لذلك احتفال عظيم وأعفيت المقاطعة من إحدى الضرائب التي كانت تحصل من كل مكان في البلاد، ولقد عثر بمنديس على مجموعه من اللفائف البردية اليونانيه أمدت بمعلومات مفيدة عن أحوال المنطقة فى القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد.

ولكن لم تدم هذه المدينة بعد الأسرة التاسعة والعشرين والأسرة الثلاثين حيث دمرت عام 338 قبل الميلاد على يد (ارتا اكسركيس) ملك الفرس فى ذلك الوقت تتمثل أكبر صور العنف التي قام بها الفرس بالمدینة ما قاموا به بمقبرة نایف عاورود الذي سبق له أن قام بطردهم منذ ستین عاما من البلاد، فأزالوا كتل السقف وألقوه شرقا أعلى سور نختنبو الأول، حيث نزعوا جدران المقبرة وهشموا المناظر، وقاموا باقتحام غرفة الدفن ونزع غطاء التابوت وكسره لقطعتین، وهشموا المومیاء، كما قاموا بتدمير سور نختنبو الأول الموجود حول المقبرة.

ثم يأتى الملك بطليموس الثانى ليعيد بناء معابد هذه المدينة ويقوم بالاحتفال بتنصيب الكبش معبود مدينة منديس وخلد ذلك بإقامة لوحة مندس ويسجل هذه الاحتفالية على اللوحة.

وفى العصر الرومانى حيث عثر بها على مجموعات من الموزاييك وجدت بأرضية أحد المنازل وهى معروضة حاليا بمتحف الإسكندرية، وتؤكد ما رواه "أماتيوس مارسيلينوس" عن عظمة "منديس" مبينا أنها كانت إحدى المدن الأربعة المهمة فى مصر فى حين روى "أنطونيوس" عن ميزه موقع "منديس" والتى تبعد كما ذكر آنفا عن "تانيس" بمقدار 22 ميلا وعن القنطرة "هيراكليوبوليس بارفا" بمسافة 44 ميلا وأشار إلى ازدهارها إبان الفترة المسيحية عنما اتخذت مقرا للكرسى البابوى، واهتمام رجال الكنيسة بها مثل "سرابيون" الذى كتب حياة القديس "مكاريوس".

وذكرها العرب باسم "طمى" وأنها تقع فى مقاطعة المرتاحية وقد وصف "القلقشندى" أطلال المدينة خلال القرن الخامس عشر الميلادى فقال أن معبد طمى فى مقاطعة المرتاحية يقع شمالا فى اتجاه مدينة طمى ويطلق عليه الأهالى اسم معبد (عاد) وأنه بنى بالأحجار.

ولقد ذكر بطليموس الجغرافى أن منديس كانت عاصمة المقاطعة المنديسية وهى المقاطعة رقم 16 من مقاطعات الوجه البحرى أو مقاطعات مصر السفلى.

وقد أوضح "يوسيفوس" أن منديس هذه هى إحدى الأماكن التي عسكر فيها القائد الروماني "تيتوس" أثناء الحملة التي قام بها على فلسطين مستغلا الفرع المنديسى للنيل فى نقل قواته الحربيه بالسفن إلى البحر المتوسط ومنه إلى سواحل فلسطين.

وكان ميناء مدينة منديس يعرف باسم (بحرية التماسيح) وكانت السفن تدخل الميناء لتفريغ البضائع، حيث وجدت الكثير من أوانى  تخزين الزيت والنبيذ الواردة من الجزر الإغريقية  ومن فينيقيا مما يعني أن الشاطئ الجنوبى لميناء منديس كان نقطة إنزال حمولة السفن، مما يدل بأن المدينة كانت مركزاً لصناعة الخمور والعطور التى كانت تصدر مباشرة إلى أثينا وظلت هذه المدينة فى هذا الازدهار إلى أن حدث جفاف لفرع النيل المسمى بالفرع المنديسى وهجرها سكانها عام 200 قبل الميلاد.

وعرفت هذه المدينة بعدة أسماء عبر العصور المختلفة ففى اللغة المصرية القديمة عرفت باسم جدف اى (بيت الروح)، وعرفت عند الأشوريين باسم (نيتيتى)، وعند اليونانيين باسم (منديس) التى تعنى معبود المدينة، وأطلق عليها العرب (تل ابن سلام) نظرا للصحابى الجليل عبدالله بن سلام والذى دفن فى هذه المنطقة.

واكتسبت «منديس» أهمية خاصة ضارعت أهمية «أبيدوس أو العرابة المدفونة» في سوهاج كمقر أبدي للآلهة أوزير، لدرجة أن مدينة منديس صارت قبلة تحج إليها «مومياوات الموتى» قبل مواراتها مثواها الأخير إلى العالم الآخر.

Dr.Radwa
Egypt Air