الثلاثاء 18 يونيو 2024

مدينة الفسطاط

مدينة الفسطاط

ثقافة13-1-2023 | 14:26

أ. د. محمود أحمد درويش

عناوين:
● أسَّس عمرو بن العاص الفسطاط، وبنى فيها أوَّل جامعٍ في مصر، وسرعان ما اتخذت مظهر المدينة بجامعها الكبير وبأسواقها التجارية التي أحاطت به، وببيوتها التي نمت نموا سريعًا كثر ساكنوها

● تحولت الفسطاط تدريجياً إلى مدينة تجارية وصناعية وإدارية، وتزايد السكان في شمالي الفسطاط مما يشير إلى تحولها من نمط المدينة المعسكر إلى نمط المدينة الحقيقية ثم إلى المدينة المختلطة سكانياً

● خضع تخطيط بيوت الفسطاط لعوامل سياسية ودينية واجتماعية، فكان المسجد في مركز المدينة بحيث تتوزع منه الشوارع، وكانت البيوت غاية في البساطة في التصميم

تعتبر الفسطاط التي تأسست عام (21هـ/641م) من أهم المدن الإسلامية، وقد أقيمت لتكون قاعدة عسكرية لإيواء الجند المسلمين، واتبع ولاة مصر هذا التقليد؛ عمرو بن العاص، ومن بعده أسس صالح بن العباس العسكر، ثم أسس أحمد بن طولون القطائع، ثم بعد ذلك القاهرة التي أسسها جوهر الصقلي. 
بعد سقوط حصن بابليون تراجع الروم إلى الإسكندرية؛ وبسقوطها تم فتح العرب لمصر، ووُفِّقَ عمرو في اختيار الموقع الاستراتيجي لبناء الفسطاط سياسيًا وجغرافيًا، فلم يجد أنسب من اختيار الموقع الملاصق لحصن بابليون، وكان موضعًا لمدينة قديمة اندثرت، وأمر جنوده أن يختطّوا دورهم فيها، ثم انضمت إليه القبائل وتنافست في المواضع. 
أما الأسباب التي دعت لتسمية هذا المكان بالفسطاط، فقد جاءت نسبة إلى خيمة عمرو بن العاص، أما الباحثون الغربيون فإن أغلبهم يقول بأنها أخذت من الكلمة الإغريقية (Fossatum) أو (Phossatom) والتي تعني المدينة أو المعسكر أو المخيم الذي يحيط به خندق، وخلاصة القول إن العرب اختاروا هذا المكان اختياراً للأسباب السابق ذكرها وأنهم سموه (الفسطاط) أي (المدينة) أو (مجتمع أهل المدينة).
تقع الفسطاط على ساحل النيل، واستفادت من موقعها بنتيجتين: فقد يسر النيل للأهالي سبل الحصول على الماء من جهة، وخدم توسعها العمراني من جهة ثانية، فتحكمت بطرق المواصلات التجارية الداخلية والخارجية بين مصر والشام، وبين مصر والحجاز، كما أن الموقع يوفر الحماية الطبيعة، لوجود جبل المقطم إلى الشرق، ووجود نهر النيل إلى الغرب.
أسَّس عمرو بن العاص مدينته، وبنى فيها أوَّل جامعٍ في مصر، وسرعان ما اتخذت مظهر المدينة بجامعها الكبير وبأسواقها التجارية التي أحاطت به، وببيوت السكن التي عظم أمرها وكثر ساكنوها، ونمت نُموًّا سريعًا بعد عام من تأسيسها، وسُرعان ما نزلت بها عدَّة قبائل عربيَّة، ونزل فيها المصريّون أيضًا واختلطوا مع العرب المُسلمين، حتَّى أصبحت حاضرةُ مصر.
تخطيط الفسطاط
مع نشأة المدينة وضحت المحاور الرئيسية التي تميز خططها، وهي المسجد وبيت الإمارة والخطط، وهى المحاور الثلاثة التي قام عليها تطور العمران، فقد شغل المسجد مركز المدينة، وكان مع بيت الإمارة أساس التنظيم العمراني، وترك عمرو أمام داره ميداناً واسعاً، تؤدى إليه الشوارع التي تفصل بين خطط المدينة، والتفت حوله بقية مراكزها العمرانية، كما كان المسجد يسيطر على حياة المدينة اجتماعياً واقتصادياً لوقوعه على النيل وإحاطته بالأسواق، وكثرت الحارات والأزقة والدروب، التي تعتبر مظهرًا من مظاهر التوسع العمراني والازدهار الاقتصادي.
آثار وحضارة الفسطاط
بدأت الفسطاط تتحول تدريجياً إلى مدينة تجارية وصناعية وإدارية، وهو تطور طبيعي ومنطقي يتأتى بمرور الزمن، وهذا ما حدث خلال العصر الأموي حيث استكملت خطط الفسطاط عمرانها، وحدث تزايد سكاني في شمالي الفسطاط مما يشير إلى تحولها من نمط المدينة المعسكر إلى نمط المدينة الحقيقية ثم إلى المدينة المختلطة سكانياً. وعندما سيطر صالح بن علي على الفسطاط شرع في بناء عاصمة جديدة أطلق عليها العسكر، وظلت عاصمة لمصر حتى عندما أسس أحمد بن طولون مدينة القطائع عاصمة له ومقرا للجيش والإدارة. 
بعد استيلاء الفاطميين على مصر (358هـ/969م) أسسوا القاهرة شمال شرق الفسطاط وحصنوها بالأسوار وحرموا سكناها على سائر الشعب، ولذلك لم يؤثر تأسيس القاهرة على عمران الفسطاط بل ساهم في ازدهارها حيث ظلت مدينة الشعب ومقر الصناعات والمهن والتجارة. وفي عهد المستنصر اهتم بدر الجمالي بالقاهرة على حساب الفسطاط، بل إنه أباح استخدام مباني الفسطاط الخالية في بناء المباني في القاهرة، وفي نهاية العصر الفاطمي (565هــ/1269م) أمر شاور بإحراق الفسطاط حتى لا تقع في يد عموري ملك بيت المقدس الصليبي وظلت النيران مشتعلة بها لمدة 54 يوما تحولت بعدها إلى أطلال، وعندما تولى صلاح الدين حكم مصر بدأ في بناء سور يضم القاهرة والفسطاط وصار يطلق عليهما معا اسم القاهرة.
جامع عمرو بن العاص
أقامه عمر بن العاص (21هـ/642م) على شاطئ النيل، جنوب حصن بابليون، ويعرف بتاج الجوامع أو المسجد العتيق، وكان التخطيط المعماري بسيطا، وظل كذلك حتى (53هـ/672م) حيث توالت التوسعات. 
بنيت جدران المسجد الخارجية من الطوب اللبن، وكان السقف منخفضاً ارتفاعه حوالي ثلاثة أمتار ومكونا من الجريد والطين محمولاً على ساريات من جزوع النخل، وكانت أرضه مفروشة بالحصباء، غير أنه لم يجعل له صحنا ولا مئذنة ولا منبرا ولا محرابا مجوفا، والمسجد في البداية كان له ستة أبواب.
مر بالمسجد العديد من عمليات التجديد والتوسعة في العصر الأموي والعباسي والفاطمي والمملوكي والعثماني، وفي عهد محمد علي والملك فؤاد الأول حتى قامت لجنة حفظ الآثار العربية عام (1940) بإصلاح شامل.
أما التخطيط الحالي فيتكون من مدخل رئيسي بارز يقع في الجهة الشمالية الغربية يؤدي إلى صحن مكشوف تحيط به أربعة أروقة ذات سقوف خشبية بسيطة، وأكبر هذه الأروقة هو رواق القبلة، وبصدر رواق القبلة محرابين مجوفين يجاور كل منهما منبر خشبي، أما عقود المسجد فإنها ترتكز على أعمدة رخامية ذات تيجان مختلفة استجلبت من عمائر قديمة.
أقيمت المئذنة عام (52هـ/673م) من الطوب اللبن، وتم إضافة المحراب أثناء الزيادة التي قام بها قرة بن شريك، أما المنبران فهما من الخشب، ودكة المبلغ مربعة يُصعد إليها بواسطة سلم خشبي وتقوم على أربعة أعمدة رخامية ذات تيجان كورنثية. 
البيوت العلمية لجامع عمرو بن العاص 
كان مسجد عمرو بن العاص هو الجامعة الإسلامية الكبرى، حيث ازدهرت الفسطاط، وصارت العاصمة الحضارية والعلمية والأدبية والاقتصادية لمصر كلِّها خلال أجيالٍ عديدة، وقام المسجد ببيوت الجامعة الإسلاميَّة الأولى في مصر، وعاشت في ظلِّ ازدهار الفسطاط وعمرانها ورخائها، وكان قيام الحلقات العلميَّة والأدبيَّة في المسجد رمزًا لحركة البناء والتجديد وطموح العقل الإسلامي المصري.
كان عبدالله بن عمرو بن العاص المؤسِّس الأوَّل لهذا الصرح الشامخ، وهو بمثابة الباني للحلقات العلميَّة الجامعية في جامعة الفسطاط، حيث ازدهرت حركتها العلميَّة، وازدهرت مدرسة علماء الحديث والفقه، وزادت فيها مجالس العلم وحلقات العلماء زيادةً كبيرة، وأمَّ هذا المسجد الكثير من العلماء الأعلام، والأئمة المجتهدين في مجال الثقافة والتعليم، وفي مختلف علوم الشريعة والدين واللغة والأدب والعلوم الأخرى، وكانت صناعة النسخ واسعة النطاق يعيش منها مئات من المشتغلين بالعلم، إلى جانب رواج سوق الكتب.
كما قامت مدرسة علماء السيرة والتاريخ، ومدرسة اللغويين والنحويين والأدباء، وتعدَّدت الحلقات وتنوَّعت، وتصدَّرها كبار العلماء والأدباء والمفكرين والنقاد، وخرَّجت هذه الحلقات أجيالًا عظيمةً من الباحثين والمتخصِّصين، ممَّا جعل مصر تتصدَّر أمم العالم الإسلامي في حمل رسالة الدين والثقافة والحضارة، واحتفظت جامعة الفسطاط بأهميَّتها وبطابعها الديني والأدبي معًا. 
بيوت الفسطاط
كانت دار الإمارة أول بناية إسلامية كبيرة بمصر، وبُني أغلب البيوت بالآجر وبمونة من خليط من الجير والرمل والقصرمل، واستخدم الحجر في الواجهات، وتنوعت المواد المستخدمة لزخرفة المباني أو لزيادة قوتها وصلابتها، وكانت المداخل منكسرة توفر نوعا من الخصوصية لمن بالداخل وتحجب الرؤية على من بالخارج بالإضافة إلى البعد عن الضوضاء. 
خضع تخطيط بيوت الفسطاط لعوامل سياسية ودينية واجتماعية، فكان المسجد في مركز المدينة بحيث تتوزع منه الشوارع، وكانت البيوت غاية في البساطة في التصميم، ولم تستمر هذه البساطة لفترة طويلة حيث أن عبدالله بن عمرو بن العاص قد ابتنى لنفسه داراً امتازت بالتأنق، وفي العصر الأموي اتسعت مدينة الفسطاط، وبلغت بيوت الفسطاط من الضخامة حتى أنها تكونت من ستة أو سبعة طوابق.
وكشفت الحفائر الحديثة في الفسطاط عن أحد البيوت التي تعود إلى العصر الأموي حيث بنى هذا المنزل من الطوب اللبن وغطيت جدرانه بالطين ويفتح مباشرة إلى الشارع وليس به فناء خلفي، والحجرات الداخلية تفتح على الشارع أو ربما عبر ممرات صغيرتها ويتكون البيت من ثماني عشرة غرفة وثلاثة ممرات. وقد كشفت أعمال الحفائر عن بيوت ترجع إلى العصر الطولوني والفاطمي، يتكون كل منها من فناء مكشوف، وفي كل من جانبيه المتقابلين مجموعة من ثلاث وحدات: الوسطي منها مثل الإيوان الرئيسي وعلى كل من جانبي الإيوان حجرتان تطلان ببابين معقودين، والإيوان المفتوح بعقد بكامل اتساعه على الفناء مباشرة أو على سقيفة مستعرضة تتقدمه مفتوحة على الفناء بثلاثة عقود أوسعها العقد الأوسط والذي يبلغ اتساعه اتساع الإيوان، فيما يبلغ اتساع العقدين الجانبيين اتساع الحجرتين الجانبيتين، وتشتمل بعض البيوت على أفنية بوسطها فسقيات تصل إليها الماء، وتحيط بتلك الأفنية أروقة وقاعات وغرف.