"دوائر من حرير" هو العنوان الذي اختاره الكاتب الكبير السيد نجم لمجموعته القصصية الجديدة.. أنا لا أعرف ما الذي كان يقصده الكاتب بالضبط من عنوانه هذا، لكن في يقيني أن تلك الدوائر كانت تمثل بالنسبة له الحياة، بداية من دائرة صغيرة تشبه طفولته إلى أن يزداد اتساع قطر تلك الدائرة مع تقدم العمر وزيادة الهموم والأعباء، فتصبح دوائر كبيرة للغاية ربما إلى ما لا نهاية حتى ينفرط عقد العمر منا فنجد أنفسنا لا شيء، أو شيئا قابعا في أطراف تلك الحياة.
هذا عن الدوائر أما عن الحرير فحدث ولا حرج، فهو القوي الناعم، بل أغلى الأقمشة المصنوعة في العالم، وتعود صناعته وإنتاجه إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، وهذا يعني أن تلك الدوائر مصنوعة من أجود الخيوط، إشارة إلى تجارب الكاتب الحقيقية التي رصدها بحنكة، كأنه يغزل قماشته وراء دودة القز.
في الجزء الأول والذي يحمل عنوان الدائرة الأولى- أحوال، يعرفنا فيها الكاتب طريقة كتابته، وأنه عادةً يبدأ القصة وهو على مشارف عنوانها، إن لم يكن مكتوبًا بالحرف والكلمة على الترتيب لكن الغريب أن تلك القصة التي قرر أن يتخابث بها إلى الجميع بدأت بلا عنوان، وهو ما يجعله يشعر بشيء من الضجر والقلق.
كما عرفت أيضا من تلك القصص أن من طقوسه الإبداعية أن القصة عنده تبدأ بفكرة واضحة أو حتى ملتبسة، لا يهم، ثم يقرأ بعضًا من الشعر، ثم يحتسي القهوة التي تبدو وكأنها السحر الساحر، ويدخن مع كل فكرة جديدة ينتهي منها، وأي جملة لم تكن على الخاطر، يكافئ نفسه بسيجارة. ثم قبل ذلك كله يفتح النافذة على مصراعيها، إن صيفا أو شتاء.
وعن قصصه الأولى في تلك المجموعة فهى تحمل عنوان "في رحاب الولد" والتي تتكون من ستة نصوص تدور فيها حياة الطفولة التي عاشها وهى الدائرة النواة التي تشكلت بعدها دوائر أكبر حجما، ليتبعها نص بعنوان "في رحاب الجد"، وقسمه لبضعة نصوص فرعية هى سر طقوس الماء، ودار الجد والصبي، والجد ما عاد زعيما، وصورة الجد.
من هذه النصوص المترابطة في الفترة الأولى من حياته يأخذنا المبدع الكبير "السيد نجم" لنغوص في عوالمه ونخرج نتلمس ذواتنا، ففي نصه "سر طقوس الماء" يقول: أكثر ما تألمت منه وله أن تحملت وحدي كل أعباء طقوس جدي مع الماء.. فلا تمر ثلاث دقائق كاملة إلا وأسمع صوت النداء باسمي، أعجبتني اللعبة في البداية بمضي الوقت بدأت أشعر بالضيق والزهق حتى هددتني أمي بشيخوختي ولن أجد من أحفادي من يقدم لي جرعة ماء!
وبعد أن انقضت الطفولة والصبى اتسعت الدائرة ليخوض مرحلة جديدة بعنوان "في رحاب رائحة البارود".. والتي احتوت بين طياتها على نص بعنوان "الله الذي في السماوات" والذي وصف لنا فيه قصة تبدو حقيقية تماما وهى مشهد دفن شهداء الحرب، وعند إتمام مراسم الدفن تلوا عليهم سورة الفاتحة، والبعض الآخر تلا "أبانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك ليأت ملكوتك" ليرتاح الشهيد مسلم كان أو مسيحي على حد قول قائدهم.
ثم يسرد علينا نصا بعنوان "العائد من الحرب سعيدا"، ثم نص "فوق رصيف المرفأ"، ثم "جثمان مجهول لهوية"، وهى كلها نصوص توثق مرحلة مهمة من تاريخ مصرنا الحديث، لذا يعتبره النقاد والمثقفون أبرز من أبدع في أدب الحرب والمقاومة، ومنذ انتهاء حرب أكتوبر وحتى يومنا هذا وهو حريص على تسجيل تلك اللحظات الحلوة والمرة التي مر بها أو مرت على مصر كلها، لذلك يمكن اعتباره الأديب المقاتل أو المقاوم بروح أديب.
وبعد مرحلة الحرب تأتي قصة بعنوان "في رحاب الفضاء الرقمي"، والتي يطالعنا فيها بنصوص سردية بديعة تحت عنوان" مكان جميل للتلصص"، ثم "أحلام غرفة الدردشة- شات".
ثم يتبعها قصة بعنوان "في رحاب المسرح" والتي يندرج أسفلها نص بعنوان "جريمة مشروعة"، يبدأها بتلك الكلمات الجاذبة: لأنها جريمة بين جنبات المسرح الشهير في قلب المدينة الكبيرة احتفى بها الناس وطالبوا بعرضها مرات ومرات، ونال الممثلون من التقدير في نهايات العرض من هتاف وتصفيق، ما لم يحدث من قبل".
ثم تكتمل قصة "فى رحاب المسرح" بنص المشهد الأخير والكاتب في هذا النص يجسده لنا كمسرحية صغيرة من فصل واحد عن حياة "عم عبده البطل"، الذي صرخ وقال: سوف أحطم لكم نظرية النجم الشاب الوسيم، سوف أكون أول نجم من الشيوخ على خشبة المسرح، أحتاج فرصة واحدة"..ثم تأتي بعده قصة بعنوان "في رحاب الحيوان"، تتكون من نصين أحدهما يحمل عنوان "زنزانة النمل المتمرد"، والآخر هو "سوط النمر الوديع".
أما عن الجزء الثاني من المجموعة القصصية فعنونه الكاتب بعنوان" الدائرة الثانية- في رحاب الغربة والانزواء"، لتنقسم تلك الدائرة إلى سبعة نصوص متتابعة كأنها متتالية قصصية قائمة بذاتها، وهى: نصوص" لا تخرج إلى الحارة- طقس شديد البرودة- غدا مظاهرة- النافذة- باب الروح- مواجهة- الجنرال يشرب القهوة".
وفي ختام مجموعته القصصية قصة سماها "نص أخير"، يقول فيها:" لست ممن يحتفلون بانقضاء السنة تلو الأخرى، برغم أنه عيد الميلاد.. كنت أفرح به صغيرا، لأنه يوم الحلوى والشموع والهدايا.. لا أدرى أين ذهبت بهجة تلك الأشياء، هانت بهجة الحلوى وقد نال مني داء السكري، مثلما هانت متعة مشاهدة مباريات كرة القدم في الملعب، تعلقت بجهاز الكمبيوتر أكثر".
لقد تنوعت كتابات المبدع "السيد نجم" في كل فنون الكتابة، وهو ما يجعلنا نطلق عليه لقب "الكاتب الموسوعي"، يكتب القصة القصيرة والراوية والنقد وقصص الأطفال، ليس هذا فحسب بل هو متفاعل بدرجة كبيرة مع المشهد الثقافي، فنجده مسئولا في نادي القصة مع نخبة من كبار المبدعين في محاولة لاستعادة دور نادي القصة بعد سنوات من تجميد نشاطه، بل أيضا يشارك في كل المؤتمرات التي تنظمها الكيانات الثقافية في مصر مقدما أوراقا بحثية مهمة، مثلما نجده دائما في الصفوف الأولى من غالبية الندوات الثقافية.