الأحد 24 نوفمبر 2024

مقالات

هي والمستحيل

  • 24-1-2023 | 14:03
طباعة

كنت أجلس إلى جوار أمي، وهي تتابع حلقات هذا المسلسل الرائع الذي استطاع أن يغير بعض العادات والتقاليد غير الصحيحة في مجتمعنا، هذا المسلسل الذي كتبت قصته الأديبة الكبيرة " فتحية العسال " كان بمثابة طاقة نور اتجهت نحوها أنظار وقلوب من بخلت عليهم ظروف حياتهم القاسية فحرمتهم من حقهم الكامل في الحصول على التعليم، اغتالت تلك العادات القديمة أحلام أمي بعد وفاة والدها مباشرة، وكأن جدتي لأمي قد غرقت بعد رحيله في بحر بلا شطآن، تملكها الخوف على ابنتها مما جعلها تستجيب لدعوات بعض الأقارب والجيران الذين أشاروا عليها بأن تخرجها من مدرستها خشية القيل، والقال .

كنت أرصد حينها تعبيرات وجهها، فأستشف من خلالها مدى حزنها على ما فاتها وهي مرغمة، ثم ألمح ابتسامتها المترددة التي توحي بأنها مازالت تحلم باستعادة حلمها، كانت أمي التي تنحدر من أصول صعيدية تحمل اسم " زينب " وهو الاسم الذي كانت تحمله أيضًا الفنانة " صفاء أبو السعود" في هذا المسلسل، ولكن ظروف حياتها الصعبة حالت بينها، وبين تحقيق أمنيتها فمن عساه كان سيقوم بمنحها الفرصة لتحقيق ذلك الحلم وهي تقوم بخدمة أسرتها، وأسرة زوجها، فالسكن في بيت العائلة كان سائدًا في الماضي كما تعلمون .

قررت أن أساعدها قدر استطاعتي، ملأ الحماس قلب أمي وكانت تنتظر ذلك الوقت الذي سأجلس فيه معها للأخذ بيديها لطريق طالما أحبته من قبل كثيرًا، ولكنه تحول إلى سراب دونما اختيار تحضر أمي دفترها الخاص بها، فبعد الانتهاء من القراءة كانت تقوم بكتابة بعض الجمل البسيطة التي أقوم بشرحها لها ثم أمليها عليها، كانت عيناها تدمعان حين أصفق لها، مزيج من الفرح والرغبة في الاستمرار، تسيطر عليها نظرة امتنان تترجمها ابتسامة ترتسم على استحياء، وكأنها تحدثني سرًا من دون كلام قائلةً: "ما زال الطريق طويلًا يا ابنتي فمهما تعلمت سأشعر دومًا بأني أسير بخطوات ثقال كطفل لا يقوى على السير بمفرده "، كنت أستقبل مشاعرها التي اضطرت لحبسها سنوات طوال بين جدران قلبها، كنت أيضًا أتعمد دعمها عندما تتقدم ولو بخطوات بسيطة، فأحدثها دائمًا بأنني فخورة بها.

وعلى الرغم من رحيلها عن عالمنا منذ سنوات عديدة، إلا أنني أستعيد في كل مرة أشاهد فيها هذا المسلسل العبقري ذكراها من جديد، لقد تفوقت الفنانة الرقيقة " صفاء أبو السعود" على نفسها فيه حين جسدت شخصية زينب الفتاة الطيبة التلقائية التي تشعر منذ البداية بعجزها وقلة حيلتها وهي تقوم بفتح أحد دفاتر محاضرات زوجها " صلاح " الذي أتقن في تجسيد دوره الفنان القدير " محمود الحديني " لقد بلغ من روعة أدائه لهذا الدور بأنه جعلنا نشعر نحوه بالكراهية خاصةً وهو يتنمر على تلك المسكينة المغلوبة على أمرها التي تزوجها لتقوم على خدمته، وتمريض أمه.

أذكر أنني كنت في صغري أتمنى أن تعود زينب لصلاح، وعندما كبرت تغيرت وجهة نظري وحساباتي للمواقف والأمور، فأصبحت أستمتع بنظرة التحدي والعناد التي جاءت في رد زينب على صلاح ذلك الزوج النرجسي الذي لا يرى سوى نفسه، وهو يرجوها أن تعود إليه مرةً أخرى ليتمكنا من تربية ابنهما معًا، فترد قائلةً: "مش ممكن أعيش معاك تاني علشان سبب، زمان أنت اللي اخترتني يا صلاح، لكن دلوقتي أنا اللي بختار".

لقد حصلت أخيرًا على حريتها حطمت قيودها، واستردت حقها الذي سلبه منها جهل البعض في الماضي، لم تقنط زينب ولم تستسلم لهوى قائلي هذا المثل الذي مازال البعض يردده حتى الآن: " بعد ما شاب ودوه الكتاب " مثل صارخ يحث على الاستسلام، وعدم المحاولة بزعم أن التقدم في السن سيحول بين صاحبه وبين تحقيق الأحلام، والسؤال الآن متى سيتحرر مجتمعنا من فكرة أن الفتاة لا دور لها إلا في بيت زوجها ؟ من سيوقف هؤلاء الطغاة الذين يطلقون في كل يوم رصاص جهلهم على الفتيات القاصرات بحرمانهم من حقوقهم المشروعة، وفي كثير من الأحوال يحدث هذا من أجل الحصول على المال.

 

أخبار الساعة

الاكثر قراءة