منذ الإعلان عن بدء عرض مسلسل الفخراني "عباس الأبيض في اليوم الأسود" عام 2004، أثار لغطًا حول قضايا المصريين في العراق إلى جانب تعرض المسلسل لبعض الزعماء وبعض الشخصيات الشهيرة، كان هذا ما وجدته حين بدأت البحث عن تفاصيل أكثر حول المسلسل، كالعادة اِهتمت الصحافة بالحديث عن مخاوفها، سواء من المساسِ بالشخصياتِ الشهيرة، أو إثارة البلبلة حول قضايا سياسية، وزعزعة العلاقات مع دول الجوار، أما حديثًا عن تفاصيل الشخصية التي اِشترك في رسمها المؤلف يوسف معاطي والكاتب سمير خفاجة كأول تجاربه التليفزيونية لم أجد الكثير الشافي.
ربما هذا ما دفعني للكتابة عن شخصية "عباس الدميري" التي اِستفزتني أيَّما اِستفزاز، فقد وضعتني أمام مرآة، وأجبرتني على رؤية حقيقتي التي تهربت منها دائمًا، وهي ليست حقيقة فردية تخص ذاتي، بل تشملني لكوني فردًا من الشعب المصري، وخاصة لكونها حقيقة اِكتشفتها متأخرة بعد عشرات المرات من مشاهدةِ المسلسل، والضحك على طيبة عباس، أو عشمه الزائد عن الحد - سذاجته - و المشكلات التي تطارده كظله فيخرج من واحدة ليسقط داخل أخرى، والسنوات العشرون التي ضاعت من عمره بسبب خطأ مثَّل اللازمة التي يرويها طوال المسلسل ضاحكًا، فنُشاركه ضحكاته بسذاجةٍ لا تختلف كثيرًا عن سذاجته، ونترقب حكاياته عن التاريخ التي يرويها عن ظهر قلب، وحِكّمِهِ التي يخلقها في كل موقف، واِعتزازه بفقره لأنه شريف، وغوصه في مشكلات الآخرين متناسيًا مشكلاته.
حتى أتى يوم لا أظنني خططت لمجيئه، دفعني الملل إلى التقليب في قنوات التلفاز بحثًا عن تسرية، وهروبًا من واقع بات سخيفًا، لأجد "عباس" أمامي، ومرّة أخرى تدفعني سذاجتي للمشاهدة، ربما يسقط "عباس" الآن في إحدى مشكلاته، فتواتيني الفرصة للإشارة نحوه، والضحك عليه، وإذا بي أتلقى صفعة أشد إيلامًا من الواقع، وتدفعني رأسي العاجزة عن إيقاف تدفق الأفكار والتحليلات داخلها إلى طرح السؤال للمرة الأولى: "من هو عباس؟".
سؤال يبدو غريبًا للوهلة الأولى، وتتدفق الإجابة من حنجرتك سابقة تعقيدات أفكارك – إذا لم تكن مصابًا بداء التحليل مثلي- فتجيب: "إنه شخصية أدّاها الفنان يحيي الفخراني عن أستاذ في التاريخ المصري يسافر للعمل بالعراق فتقوم الحرب ويظن الجميع أنه مات حتى تتزوج زوجته بآخر بينما هو مسجون بإحدى السجون للتكفير عن ذنبِ رجُلٍ آخر تعرف عليه جثة وانتزع بطاقة هويته؛ ظنًا منه أنها ملاذه للهرب؛ لكن حظه السيء أوقعه في بطاقة رجل مُدان أمام القانون، وتمر عشرون عامًا ثم يعود لوطنه، معتقدًا أنَّ كل شيء باق كما هو في انتظار عودته، لكنه يتفاجأ بتغير كل شيء، ببساطة لقد تحرك الزمن ونسيه تمامًا حتى لم يعد له وجود، وهنا يبدأ "عباس" في محاولة اِسترجاع أبسط حقوقه، وهي هويته.
أخبرني إذًا: من هو "عباس" برأيك؟
نعم إنه أنت، وأنا، وجميعنا. لقد أضحكك الكاتب على خيبتك، كما يقول "عباس"، بل يمكن تبادل الأدوار و القول بصراحة إن "عباس" هو من ضحك علينا ببساطة، لأنه نابع من كاتب اِستطاع رؤية الواقع كما يجب أن يكون، وبهذا يمُكن البرهان على أن شيئًا في الأحداث لم يأت وليدًا للصدفة، ومن ضِمنها اِسم الكتاب ثمرة مجهود "عباس"، وغايته: "التاريخ كما يجب أن يكون"، وهو التبرير الوحيد لقدرة شخص على تحمل ضياع عشرين عامًا من عمره بلا ذنب، دون أن يفقد عقله، لأنه ببساطة كان يكتب تلك الأحداث التي جمعها بنفسه - إما عايشها أو اِسترق السمع من خلف جدران زنزانته لمعرفتها -على مدار سنوات، عن صبر لا مثيل له، مستغِلاً كل ما وقع تحت يده من قصاصات ورقية مهترئة، وأوراق جرائد قديمة، ليترُك بصمة يقول بها إنني كنت هنا، أسُجِل التاريخ كما فعل أجدادي يومًا لأني اِمتداد حقيقي لهم.
لكن جاءت رحلةً النشرِ صعبةٌ على غير العادة، ولم تكن المشكلة مادية فقط، أو في الذوق العام، لقد كان "عباس" بحاجة للمواجهة، مواجهة الحقيقة التي تهرب منها منذ كان أستاذًا شابًا ببلده، وبعد سفره للعمل بالعراق، فعباس لم يكن ماهرًا بسرد التاريخ فقط، بل كان ماهرًا بالهروب أيضًا. الهروب من واقع عجز عن مواكبته فآثر التمسك بالماضي، وغاص فيه لا لشيء إلا لكونه قادر على معرفة حدوده، وإدراك أبعاده، التاريخ ملئ بالنكبات والأوجاع؛ لكنها بعيدة عنك لن يمسك منها إلا مُتعة القراءة والمعرفة. وكلما رفع "عباس" رأسه ليرى العالم من حوله أدرك مدى عجزه عن المواكبة فغاص من جديد داخله.
هنا تأتي الحبكة الرئيسية بالقصة، كيف يمكن لقارئ نهم يعمل في مجال الكتب أن يعجز عن الوصول لدور النشر المعنية بكتب التاريخ ومراجعه، كيف يبلغ به الحال للجوء لناشري الروايات الرخيصة - وهم كُثر- هل كان الأمر بحاجة لرغبة ليلى اِبنته بمفاجأته، ففي فن الحكي لا تُقبل الحبكات القائمة على الصدفة، و هو خطأ لن يقع فيه كاتبان عملا معًا على العمل ذاته.
لذا دعني أضع بين يديك رؤيتي المتواضعة للهدف الكامن خلف "عباس الدميري"، الذي تلاعب بنا جميعاً، ولكن أولاً دعني أطرح عليك السؤال التالي: "ما الذي يحتاج المرء إليه لتحقيق نجاح يترك أثرًا من بعده؟ هل هو العمل، التعلم، الثقة بالذات، تحديد الأهداف الخ الخ؟؟". إجابتك صحيحة لكنها ناقصة، والكمال غاية لا تُبلغ؛ لكن يُمكن التعميم بقول النجاح باختلافه من شخص لآخر يحتاج لرفع وعيك بالكون، أن تُدرِك تفاصيله، لتُحدد موقعك منه، لتستطيع الوقوف عند نقطة البداية للاِنطلاق، وهذا ما أدركه عباس رُغمًا عنه، حين أدرك أن عباس الذي قَبِلَ يومًا بالتنازل عن هويته، عليه سلوك أحد طريقين إما طريق الهروب، ووقتها عليه قبول التنازلات الواحدة تلو الأخرى، من فُقدان هويته، و أمواله، وأبنائه، وزوجته، والأهم من هذا كِتابه، الذي خطه بقلبه قبل قلمه، سيُنسب إلى غيره ببساطة، أو خوض غِمار الطريق الأخر، طريق المواجهة، فيُعلِن تمسكه بهويته، وشخصيته التي كانت وستكون، مُتحدِيًا بِذلك جميع الصِعاب التي نتجت عن تخاذله سابقًا، فلن يفيده البكاء على اللبن المسكوب، ولكن التمادي في سكبه سيمحيه تمامًا، لذا أراد الكاتب جعله يسير طريقه ويختار تفاصيله بنفسه، ليستحق الوقوف على إنجازه.
لكن تبقى عقبة أخيرة، بالرجوع لتفاصيل شخصية عباس تجدها ماهرة في التكيف، شديدة التقبل، رافضة لقبولِ التغيير، راضية بالظلم بل و بصدر رحب وثغر باسم، لا يستجيب لكل من يحاول الصراخ بوجهه، ليفيقه إما مُحِبًا أو مُستغِلاً، فعباس ماهر بالتعامل مع مشكلات الآخرين لينشغِل بها عن مشكلاتهِ، تمامًا كما يفعل مع التاريخ الذي يُعين به نفسه. على حد قول المثل المصري "اللي يشوف بلاوي الناس تهون عليه بلوته"، إذًا كيف يُمكن إيقاظ المارد داخل هذا الغافل؟
الإجابة بكلمة بسيطة هي: "الدافع"، عباس يجب أن يُدفع إلى التمرد لكن كيف؟ هنا نصل إلى السؤال الثالث والأخير بالمقال -متمنية أن تتحلي بالصبر فلا تُلقي المقال جانبًا قبل إكماله - هل تساءلت يومًا عن دافعك في الحياة، ذاك الكافي لجعلك تقشعر فور ذِكره، تنتفض لأجله، تفوق من سُباتِك العميق وتشحنك الشجاعة الكافية للسير عكس طريقك المعتاد، ربما يخطر في بالك المال، أو الشهرة، أو غيرها، وهنا أوضِح لك أنني لا أتساءل عن هدفك بل دافعك، ربما يجبرك الهدف للتحرك قليلاً خارج دائرة راحتِك عن طريق اِتباع عادات، ومقاطعة أخرى. أما الدافع فهو الذي يجبرك علي المواجهة، مواجهة كل ما تغاضيت عنه قبلاً، برغبة منك أو دون، و لا طريق آخر غيره.
إذا لم تكن قد فعلتها من قبل فلا بأس لا تلُم نفسِك، لنسير الطريق معًا برفقة عباس، فالشخصيات الدرامية لم تُخلق إلا لغرض مساعدتك على طريقك، و إلا لا تُشغِل بالك بمشاهدتها. مُعضِلة عباس الأساسية كانت دافعه، الذي بحث عنه حوله، فكان ينتظر من أولاده وزوجته اِستقباله على حرارة شوق السنوات الماضية، بل كان واثقًا أن زوجته حققت أمنيته بتسمية اِبنته "نفرتيتي" كما سمى اِبنه الأكبر "بيبرس" ليربطهم بالماضي الذي يحيا فيه بدلاً من خوض المستقبل معهم، فكانوا هم دافعه على تحمل سنوات السجن -على حد اِعتقاده- العجيب أن عباس حين جمعته الأقدار بأُسرة أخرى، هي أسرة الرجل الذي يحمل هويته، كان أول ما فعله هو دفعهم لنسيان الماضي، والنظر باِتجاه المستقبل، والكف عن انتظار الغائب الذي لن يعود أبدًا فالكاتب أراد تهذيب عباس بالعقبات التي وُضِعت رُغمًا عنه، فكان الدواء من الداءِ وهكذا هي الحياة ببساطة، فيُعيد عباس التفكير مع كل مشكلة في دوافعه، ومبادئه، و أهدافه، و تأخذ كل منها نصيبُها من التشكك، حتى يصل إلى لحظة تنقلب فيها الأحداث فقط حين تتغير رؤيته وقراراته فتثبُت أقدامه في الطريق الجديد الذي سلكه بإرادته، ويُدرِك أن دافعه نابع من داخله، غير مُستمد من الآخرين، وهو ذلك الحب الذي دفعه إلى قراراته السابقة، حتى السلبية منها، فعباس ليس بحاجة لخلق عباس جديد ليستطيع مواجهة الحياة بكل مساوئِها، يكفيه أن يُزيل الغِبار عن عباس الحقيقي الكامن بداخله، عباس المُحِب ولكن لمن يستحق، المِعطاء دون ظًلم لنفسه، العاشق للتاريخ دون تجاهل مستقبله، عباس الذي كف عن الهروب، فاستحق أن يُسجل اِسمه مع أجداده كشاهد أمين على التاريخ، التاريخ كما يجب أن يكون.