الجمعة 17 مايو 2024

فنان الحب والثورة

شريف صالح

الهلال لايت 10-2-2023 | 22:17

شريف صالح

رغم انتماء عز الدين إلى أسرة قريبة من الحاشية الملكية إلا أنه بدا منحازًا للتغيير وغاضبًا مما يجرى حوله خصوصًا بعد النكبة وقضية الأسلحة الفاسدة.

قدم عز الدين ذو الفقار تنويعات وتلوينات مختلفة جدًا على قصص الحب فيها الغناء والموسيقى وخفة الظل والفروق الطبقية والكبت والغيرة ولذا فقد كان.. فارس الرومانسية
في معظم أفلام عز الدين تبدو المرأة أكثر حضورًا وفاعلية، على عكس النمط السائد في السينما المصرية قد تكون شابة يتيمة أو فقيرة أو ضحية، أو مثالية تخوض علاقة غير متكافئة

يمتلك عز الدين ذو الفقار (1919 ـ 1963) ثلاثة أفلام في قائمة أهم مئة فيلم مصرى هى: "رد قلبي" 1957 (13)، و"امرأة في الطريق" 1958 (72)، و"بين الأطلال" 1959 (73) قد لا تكون للقائمة أهمية كبيرة لكنها تعطى فكرة استرشادية عن مكانته فى تاريخ السينما.

عز توفى شابًا عن أربعة وأربعين عامًا، مع ذلك قدم خلال خمسة عشر عامًا ما يزيد على خمسة وثلاثين فيلمًا، وساهمت أربعة عوامل في تميزه، أولها الوفاة المبكرة لأبيه ورغم تأثيرها السلبى، لكنها شجعته على الخروج من الاكتئاب واختيار الإخراج مهنة بدلًا من استمراره كضابط جيش.

ثانيها: انفصال آسيا المنتجة الكبيرة عن شريكها المخرج أحمد جلال، حيث وجدت ضالتها في عز الدين ذو الفقار وبركات، وكلاهما تميز فى تقديم النصوص الرومانسية، وتبنى موهبة فاتن حمامة التى قدمت معهما نصف أفلامها.

ثالثها: قيام ثورة يوليو، فبحكم أنه ضابط وشاب، ومعظم قادتها من جيله وأبناء دفعته، كان قريبًا من السلطة الناشئة ومعبرًا عن الثورة وأحلامها، ووجدث فيه الثورة من يمثلها وسط المخرجين، بل عرض عليه منصب وزير الثقافة لكنه اعتذر.

رابعها: عمله كمساعد للمخرج محمد عبد الجواد لمدة عامين، ومن غير المستبعد أن يكون هو من رشحه لآسيا، وسنحاول رصد ملامح تجربة عز الدين ذو الفقار السينمائية، بالتطبيق على اثنين من أهم أعماله هما "رد قلبي" و"امرأة في الطريق".

إيمان بالثورة

ينتمي عز الدين المولود في العباسية إلى أسرة ليست بعيدة عن الحاشية الملكية، فوالده كان عميد شرطة ويحمل لقب بك، ولم يجد صعوبة في إلحاق أولاده بكليات الجيش والشرطة، لكنه، بدا منحازًا للتغيير وغاضبًا مما يجري حوله خصوصًا بعد النكبة وقضية الأسلحة الفاسدة، ويتبدى إرهاص الثورة في تقديمه فيلم "أبو زيد الهلالى" الشخصية التراثية العربية عام 1947
في عام 1957 بلغ ذروته فى التعبير عن الثورة وأحلامها، فى فيلميه الدعائيين "بورسعيد" عن العدوان الثلاثى، و"رد قلبى". ثم عام 1960 أخرج أشهر أوبريت لتمجيد الثورة هو "وطنى الأكبر".

صور "رد قلبى" بتقنية السينما سكوب، وكان من أوائل الأفلام المصرية المصورة بهذا الأسلوب الذى يعطي اتساعًا أفقيًا للتكوين، ويتيح إظهار المجاميع، لإعطاء نفس ملحمى، رغم أنه الحقيقى جاءت معظم المشاهد في البيت والقصر والملهى والثكنة العسكرية. فمشهد تأييد الثورة (بغض النظر عن مصداقيته التاريخية في أيامها الأولى) ركز على الأسرة وهي تهتف في الشرفة، ولم نر جموع الشعب، وحرب 48 وتحرك قوات الثورة لإزاحة الملك، كلها صورت بشكل بائس إنتاجيًا، ولم يستثمر التقنية التى لجأ إليها.

ومع اقترابنا من مرور سبعين سنة على إنتاج الفيلم، تحولت عبارات كثيرة منه قيلت بمثالية مثل "أنت من الأحرار يا على" إلى "كوميس ساخر" لأن سؤال العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص واتساع الفوارق الطبقية، أي كل ما نادت به الثورة، مازال إشكاليًا ولم يحسم إلى اليوم.

ولو دققنا حتى في نقد الفيلم للعصر البائد، سنجد أن "على" التحق بالكلية الحربية بواسطة من أحد باشوات هذا العصر، ورغم أنه خسر مباراة الملاكمة زاره الضابط الكبير (المنتمى للعصر البائد) في المستشفى ومنحه الكأس والمكافأة المالية كأنه فاز، حتى زميله الضابط "سليمان" (كمال ياسين) التحق بالحربية من دون واسطة رغم تواضع مستواه الاجتماعى. فما الذي تغير بالضبط؟ مازالت المنظومة السابقة على الثورة مشابهة جدًا للمنظومة التي تلتها.

ومازال الشعور بذلك التناقض العربي الساخر بين مشهد الأسلحة الفاسدة الدال على النكبة مع رفرفة أعلام الدول العربية.

الاتكاء على نص أدبي

كان عز الدين قارئًا ومؤلفًا سينمائيًا شارك في معالجة معظم أفلامه واعتمد كثيرًا على نصوص لأدباء معروفين.

كان الروائي يوسف السباعى وهو أيضًا من أبناء جيله، الأكثر تعاونًا معه فى أفلام مثل: "إنى راحلة" 1955، "رد قلبي"، و"شارع الحب" 1958، و"بين الأطلال" 1959
واستلهم قصة للمنفلوطي فى "الكل يغنى" 1947 عن فتاة يتيمة موهوبة، وتعاون أكثر من مرة مع يوسف جاهر منها "صاحبة الملاليم" 1949، و"الغائبة" 1955، و"الرجل الثانى" 1959، ومع إحسان عبد القدوس في "البنات والصيف".

كما قدم نسخة مصرية من "عطيل" شكسبير في "الشك القاتل" 1954، و"شاطئ الذكريات" عن قصة "فاني" لمارسيل بانيول، "ونهر الحب" عن "آنا كارنينا" لتولستوى بتمصير يوسف عيسى. أما "امرأة في الطريق" فهو تمصير مقتبس من الفيلم الأمريكي "مبارزة في الشمس" 1946 المأخوذ عن رواية لأوليفر جاريت.

جرح رومانسي

كان من ألقاب عز الدين "فارس الرومانسية" وقد يبدو هذا اختزالًا لتجربته، لأنه قدم تنويعات وتلوينات مختلفة جدًا على قصص الحب فيها الغناء والموسيقى وخفة الظل والفروق الطبقية والكبت والغيرة وألعاب القدر.

فنسخته من الرومانسية بالغة الثراء والتعقيد، فمن يشاهد مثالية "رد قلبى" لن يصدق أن مخرجه هو من قدم "امرأة فى الطريق".

بطبيعة الحال لا تعتاش القصص الرومانسية على السعادة بل على الفقد والألم والصراع، فالمحفز هنا "الجرح" وليس "الفرح".

في "رد قلبى" أحس "على" بالجرح الطبقي وقسوة الفقر في مواجهة أهل حبيبته "إنجى" سليلة الأمراء، وفي "امرأة في الطريق" ارتبط أبطالها الثلاثة بالجرح العميق والمكبوت، "لواحظ" الغانية أجهض حبها للأخ القوى "صابر" فارتضت بالأخ الضعيف "حسنين" العاجز عن إرضائها، ورغم قوة صابر إلا أنه يعانى من نكران أبيه له.


الصراع الطبقي

لا ينفصل الجرح الرومانسى عن الصراع الطبقى، فهناك دائمًا مسافات بين الناس بسبب مواقعهم الاجتماعية، سعى "على" للارتقاء عبر التعليم كي يصبح ضابط جيش، ويقترب طبقيًا من حبيبته بنت الأثرياء. وحاولت "لواحظ" الغازية الارتقاء اجتماعيًا بالزواج من "حسنين" ابن المعلم فرج صاحب الورشة والبنزينة.

في بقية الأفلام ثمة ظلال للصراع الطبقي حاضرة حتى في آخر أفلامه كانت العلاقة بين الممرضة البريئة والفقيرة "إيمان" (نجاة) والشاب الثرى أحمد عاصم (صالح سليم) قائمة على التضفير المزدوج للرومانسية والطبقية.

الميلودرامية

ترتكز الميلودرامية على المبالغة في المشاعر، وعلى الحوار، والقضايا الأخلاقية، أكثر من اهتمامها بمساحات الصمت، والحركة، وتبدو فيها الشخصيات معبرة عن أنماط جاهزة في شرها وخيرها، أكثر من تعقيداتها كحالات فردية. كما تتجلى الميلودرامية فى حدة التحولات ومأساويتها.

في "رد قلبى" أصيب الجنايني الريس عبد الواحد (حسين رياض) بالشلل والخرس، وخسر عمله، ولم ينطق إلا في نهاية الفيلم مع الهتاف للثورة الجديدة، كما ماتت الراقصة كريمة (هند رستم) بعد احتراقها. والمعلم فرج (زكى رستم) فى "امرأة في الطريق" أصيب بالعمى، وتسبب في تقاتل ابنيه، ليموت ابنه الأصغر الأقرب إلى قلبه.

لا تنفصل عن الميلودرامية البنية الحوارية الممسرحة، بنبراتها العالية، والاستعانة بممثلين كبار هم فى الأساس أبناء مسرح مثل حسين رياض وأحمد علام وفردوس محمد في "رد قلبى"، وزكي رستم وعبد الغني قمر وشفيق نور الدين ومحمد توفيق فى "امرأة فى الطريق".

دفاعًا عن المرأة

في تتر "رد قلبى" جاء اسم مريم فخر الدين أولًا، رغم أن مشاهدها أقل من شكرى سرحان، لكنها موضوع الرغبة، والمحركة للأحداث بدءًا من إنقاذ "على" لها وهى طفلة، وزيارتها له في بيته كى تهدى بنطلون أخيها، وتوسطها له كى يلتحق بالكلية الحربية.

كذلك شخصية "لواحظ" هى المهيمنة على السرد الفيلمى في "امرأة فى الطريق" حضورًا وغيابًا، وهي موضوع الاشتهاء والمحفزة للأحداث والصراع.
هكذا في معظم أفلامه تبدو المرأة أكثر حضورًا وفاعلية، على عكس النمط السائد في السينما المصرية. قد تكون شابة يتيمة أو فقيرة أو ضحية، أو مثالية تخوض علاقة غير متكافئة.
فمريم فخر الدين مع شكرى سرحان قدمت صورة مثالية للحب العذرى والنقى، رغم سطحية الشخصيتين، وتكلل الحب بانتصار الثورة، وسقوط الحواجز بينهما.

على النقيض قدمت "لواحظ" نسخة شرسة للحب الحسي المكبوت والمحرم للأخ الأكبر بدلًا من زوجها، في مثلث رغبة معقد. وكان طبيعيًا أن ينتهي الحب نهاية مأساوية مثل مسرحية إغريقية قديمة.

ولم يكن استثمار عز في قصص الحب فحسب، وإنما أيضًا في احترامه للمرأة وتمكينها، ضمن شروط النهضة التي وعاها المصريون عقب ثورتى 1919 ويوليو.
الإيروسية

في كتابه "اللهب المزدوج" يفرق الشاعر العظيم أوكتافيو باث بين الجنس والإيروسية والحب، فالأول بدائى (لهب أحمر)، ترفعه الإيروسية إلى الحب (لهب أزرق). كأن الإيروسية هي فضاء ترتقي فيه الغريزة إلى عاطفة، هي "اللهب المزدوج" بحسيته وروحانيته.

إنها تفكُّر إبداعي في الجنس موضوعه وأدواته وتخيلاته، وكثيرًا ما تتجلى الإيروسية في سطور من رواية أو قصيدة، أو مشهد فيلم، ولو لأسباب ترويجية لأن بعض الأفلام تباع بفضل "الملصق"، ويكفي النظر إلى "بوستر" فيلم "امرأة في الطريق" وكيف تصدرته هدى سلطان.

كان عز واعيًا بالإيروسية ومفتتنًا بها، وليس فقط للتسويق، وقد تبدت في مشهد راقص لفتيات شبه عاريات في الملهى، وفي مشهد "إنجى" بالمايوه على البحر مع حبيبها، وكذلك شخصية الراقصة "كريمة"، هند رستم بكل جمالها ودلالها، خصوصًا في مشهد تغيير ملابسها بينما "الضابط على" متحرجًا.

لكن المشاهد العابرة في "رد قلبى" تحولت إلى فيلم كامل مؤسس على إيروسية "لواحظ" وهي تتكلم وتغني وتنام وتمشي وتتغندر وتنظر للرجال، وطيلة الشريط يتكرر فعلها إلى ما لا نهاية: إغواء الرجل الذى أحبه قلبها. حتى رجل الدين الثرى والمنافق "الحاج أمين" (عبد الغنى قمر) كان ضحية الإيروسية ومستلبًا تحت تأثيرها.

لا أظن أن فيلمًا مصريًا إيروسيًا بالكامل يسبق "امرأة في الطريق"، وإلى اليوم مازال من أكثر الأفلام العربية إيروسية ونجاحًا. 
مع ذلك كان عز ـ مثل معظم ضباط يوليو ـ ابنًا لمجتمع محافظ، يضاف إليه انضباطه العسكرى، لذلك قال على لسان الضابط على: "أحلت لي أوضاع الحياة الخطيئة وحرمت علي الحب الطاهر"، رغم أن "كريمة" لم تعامله كزبون بل أحبته وأخلصت له، ربما أكثر مما فعلت "إنجي".

ومهما مرر عز من مشاهد إيروسية، لابد أن يحاصرها بمفهوم الرذيلة، لذلك دفعت "كريمة" ثمن إيروسيتها (مع أنها أجمل شخصية في الفيلم)، بالموت حرقًا، كما دفعت "لواحظ" بكل إيروسيتها البرية، ثمنًا فادحًا بالموت خنقًا.
ولو أجرينا موازنة بين عمق الشخصيات وأداء الممثلين فى الفيلمين، سأفضل "المعلم فرج" على "الريس عبد الواحد"، و"لواحظ" على "إنجي"، و"حسنين" على "الضابط علي" مع أنه الممثل نفسه.
ورغم أن "رد قلبي" يحتل مكانة متقدمة في قائمة أفضل مئة فيلم، ويؤرخ به أيقونة لثورة يوليو، لكنه يبدو لي براقًا ومتحذلقًا ومفتعلًا أكثر مما يجب، فلا توجد فلاحة شقراء وأنيقة هكذا مثل "بهية" (زهرة العلا)، ولا حتى "العيشة" التي كانت تحياها أسرة الريس عبد الواحد تعبر بواقعية عن بؤس واستعباد الفلاحين آنذاك أما "لواحظ" وعشاقها وضحاياها، فهم من لحم ودم الحياة.