مثلت وفاة سقراط رائد الفلسفة اليونانية صدمةً أليمة لمريده وتابعه أفلاطون الذي عُرِف بـ الحكيم الإلهي، وأفلاطون كان ولا شك من العباقرة الذين لازالوا يؤثرون على البشرية على الرغم من مرور ما يزيد على ألفي سنة؛ إذ وُلِد عام 427 قبل الميلاد، بينما توفي سنة 347 ق.م.
أولاً: أفلاطون.
مثلت وفاة "سقراط" رائد الفلسفة اليونانية صدمةً أليمة لمريده وتابعه "أفلاطون" الذي عُرِف بـ " الحكيم الإلهي" وأفلاطون كان ولاشك من العباقرة الذين لازالوا يؤثرون على البشرية على الرغم من مرور ما يزيد على ألفي سنة؛ إذ وُلِد عام 427 قبل الميلاد، بينما توفي سنة 347ق.م.
وحين مات "سقراط" بالشكل البشع الذي احتفظت لنا به كتب التاريخ، كان "أفلاطون" في الثلاثين من عمره، وتركت محاكمة سقراط ثم عملية إعدامه أثرًا كبيرًا على أفلاطون غير مجرى حياته وترك بصمة لا تخطؤها العين على فلسفته؛ فلقد أدرك "الحكيم الإلهي" مقدار الفجوة الفاصلة بين المجتمع الواقعي الذي تحكمه شهوات النفوس وأصحاب النفوذ وتربيطات المصالح، مما نراه في اليوم ألف مرة، وبين المجتمع النبيل المثالي القائم على العلم أولًا ثم الفهم والفكر والسلوك الحسن، والذي نادى به "سقراط" فكانت النتيجة إعدامه!
وظل أفلاطون بعد أن رأى بعينيه مقتل أستاذه العلَّامة النبيل وفيًا لذكرى معلمه، وأخذ يسجل فلسفته إذ كان "سقراط" من الذين أوتوا حظًا وافرًا في حسن الحديث والسيطرة على الحوار وبراعة الشرح، لكنه لم يترك أثرًا مكتوبًا، فقرر "أفلاطون" أن يبرز لنا فلسفته على هيئة مجموعة من الحوارات، والتي يفترض فيها أن "سقراط" يحاور أحد تلامذته، وقد نشرت هذه المحاورات في أكثر من كتاب؛ على أن أهمها وأشهرها على الإطلاق هو كتاب "الجمهورية" والذي عرفه فلاسفة العرب باسم "المدينة الفاضلة" وألف "الفارابي" كتابًا على غراره سماه "آراء أهل المدينة الفاضلة" وفي كتاب الجمهورية يشرح لنا أفلاطون نموذجًا مثاليًا لإدارة مدينة حكامها من الفلاسفة والمفكرين.
و"أفلاطون" حين يسجل أفكار أستاذه، لا يقتصر على هذا التسجيل وحده، بل يضيف إليه الكثير من رؤاه وأفكاره الخاصة والتي لا نشك أنها لعبت ولا تزال تلعب دورًا ملموسًا في صياغة الفكر الإنساني على مر القرون وحتى يوم الناس هذا.
ونعتقد بيقين أنه من حسن حظ البشرية أن التاريخ أبقى لنا على كتب "أفلاطون" كاملةً، وحافظ عليها من التلف والضياع، ومن ضمن هذه الكتب "الاعتذار" وهو كتاب ساخر بلغة شعرية جذابة، وفيه يفترض أفلاطون أن "سقراط" يعتذر عن أفكاره، ولم لا؟! فهي أفكار خَيِّرَة وأصيلة لا تناسب رغبات السادة الكبار أصحاب المصالح والنفوذ! وفي إطار هذا الاعتذار المزعوم واللغة التهكمية يُفَصِّل لنا أفلاطون بلغة عميقة ومؤثرة فلسفة أستاذه وحكمته في الحياة.
وبما أن الكثيرين قد سمعوا أو ربما قرأوا عن كتاب "الجمهورية" لكنهم لا يعرفون ما فيه على وجه التحديد؛ فنحن الآن نقدم لهم ملخصًا لأهم أفكار ومبادئ هذا الكتاب على النحو التالي:
يتخيل أفلاطون في "الجمهورية" أن البشر سجناء! وكلهم يعيشون في كهف مظلم مغلق من جميع جوانبه إلا فتحة ليست كبيرة في مقدمة الكهف، وهم بالتالي لا يرون العالم الخارج عن الكهف ولا يعرفون عنه شيئًا، فهم عميان وجهلة! زِدْ على ذلك أن البشر مربوطون بسلاسل وأغلال في الأرجل والأعناق ولهذا لا يستطيع أحدهم أن يلتفت إلى من بجانبه؛ على أنه خلف الكهف ثَمَّة كهف آخر يستدلون على وجوده من سماعهم لبعض الهمهمات الصادرة عنه، ومن هنا يعرفون أن هناك أناسٌ غيرهم في هذا العالم، ثم تحدث طفرة تغير مجرى التفكير عند سجناء الكهف وإن كان التغير ليس كبيرًا؛ ذلك أن سكان الكهف الآخر قاموا ذات مرة بإشعال النار في كهفهم، فرأى السجناء المقيدون خيالات سكان الكهف المجاور وخيالات أنفسهم أيضًا، وفرحوا جدًا بالطبع!
هل انتهى الأمر عند هذا الحد؟؟ كلا بالطبع، فالسجناء الذين رأوا خيالات غيرهم وخيالات أنفسهم بعد أن عكسها ضوء النار على الجدار المواجه لهم واعتقدوا أن هذه الخيالات هي كل الحقيقة ولم تخطر لهم فكرة التخلص من الأغلال والخروج من الكهف للتعرف على الحقيقة وما وراء الخيالات، هؤلاء السجناء يبرز من بينهم شخص يفكر جديًا في الهرب من الكهف ويستولي عليه الفضول في معرفة ما وراء الخيالات، فيتم له ما أراد ويتخلص من أغلاله بعد شيء من المجاهدة، وحين يخرج من الكهف لأول مرة يشعر بأن الضوء الذي يعتبر كثيفًا قياسًا بما كان في الكهف يكاد يعمي عينيه، كما يشعر باضطراب شديد في حواسه؛ إذ كل ما يراه يختلف كثيرًا عما كان يتخيله ومن هنا يلمس بوضوح اختلاف الحقيقة عن الوهم.
وبعد فترة من الاضطراب والذبذبة يعرف مقدار أهمية ما رآه من أنوار ومناظر جميلة وحياة أخرى فيذهب إلى الكهف ويحاول أن ينقذ رفاقه حتى يروا الأشياء كما هي لكنه يحزن جدًا ويغتم بسبب مقاومتهم الشديدة له، فهم وللأسف يفضلون ظلام الكهف، أما هو فإنه لا يستطيع أن يعود إلى الكهف مرة أخرى بعد أن رأى النور والحياة، وبعد أن عرف الحقيقة وأن خيالات الظلام ليست إلا أضغاث أحلام.
ومكمن الأهمية في هذه القصة الطريفة التي تنم عن عبقرية أفلاطون وسعة خياله ونفاذ بصيرته أنه يريد منها توصيل رسالة للجنس البشري، مفادها أن: إدراك الإنسان محدود بحواسه الخمس "السمع والبصر والشم واللمس والذوق" وهي حواس تعطيه محض انطباعات يعتقد هو أنها حق اليقين؛ هذا مع أن انطباعات الحواس متغيرة وتقريبية، والإنسان العاقل الباحث عن الحقيقة لا يمكنه أن يستريح إليها أو يعوِّل عليها، فالحقائق لا يمكن الوصول إليها بالحواس وإنما يكون الوصول بـ "التعقل" الذي يغربل الأفكار وينقيها لكي تصل إلى ما ينشده الباحث من الاكتمال والمثالية، وهذا يقتضي أن الفلسفة ضرورية لإدارة الحياة فلا حياة بدون عقل وروح، وهذه الفلسفة لا تتم إلا بإعمال الذهن وتمرين الروح من أجل الوصول إلى الجائزة الكبرى؛ ألا وهي "الحكمة" فالحكمة سبيل السعادة.
وحتى يعمل الذهن بشكل سليم لابد له من العلم؛ ومن هنا جاء اهتمام أفلاطون بكل أنواع العلوم دونما استثناء، وبالأخص مادة "الرياضيات" حيث آمن بضرورة إتقان المهارات الحسابية، لأنه لا يمكن للإنسان أن يعيش بشكل مثالي دون العلم الكافي بالرياضيات، وقد وصل من اهتمام أفلاطون بالرياضيات أن علق على باب أكاديميته التي يعلم فيها الطلاب لافتة تحمل عبارة اشتهرت عنه، وهي: "لا يدخل هذه الأكاديمية من يجهل الحساب".
فالتعقل إذن عند أفلاطون ومدرسته هو عملية ذهنية حسابية غرضها الوصول إلى الفكر الصحيح، وتعد "أكاديمية أفلاطون" أول مدرسة عُليا أو جامعة بالاصطلاح الحديث، وعلى غرارها جاءت كل الأكاديميات إلى يومنا هذا، وكانت أكاديمية أفلاطون مهمتها الأولى هي تدريس الفلسفة والرياضيات تحت إشراف أساتذة متخصصين معروفين بالمهارة والعلم والوافر؛ ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا أن "أفلاطون" هو أول "بروفيسور" بالمفهوم الحديث لهذا اللقب.
ولا يمكن ونحن نتحدث عن أفلاطون أن نغفل تأثير الفيلسوف "فيثاغورس" عليه، وفيثاغورس يعتبر من أهم الفلاسفة في مرحلة ما قبل سقراط، وكان له إسهام فاعل في تطوير الفكر الفلسفي، وقد تأثر به أفلاطون كثيرًا خاصةً في الإعلاء من شأن الرياضيات على النحو الذي رأيناه منذ قليل.
و"فيثاغورس" وإن كان قد وُلِدَ في جزيرة "ساموز" اليونانية؛ إلا أنه تعلم وتربى في مصر، وتأثر بالحكماء المصريين على نحوٍ عميق، وكان إيمانه بالرياضيات ناتجًا عمَّا شاهده من تقدم المصريين في هذا المجال، وفي مصر عرف فيثاغورس "المثلث" الذي قدم له نظريته الهندسية الشهيرة "نظرية فيثاغورس" وفي الحقيقة نستطيع القول إن "فيثاغورس" هو أول من أدخل مصطلح "نظرية" الذي لا زلنا نستخدمه حتى اليوم.
ثانيًا: أفلوطين والأفلاطونية المحدثة.
مما يؤسَف له أن الفلسفة حتى الآن مرتبطة في أذهان الغالبية بالفكر اليوناني، والبعض يعتبرها "معجزة يونانية" ونادرًا ما يُذْكَر الدور الرائد الذي لعبه الحكماء المصريون القدامى في تكوين فكر فلاسفة اليونان الذين تلقى الكثير منهم تعليمه في مصر، ودرسوا على يد حكماء للأسف لا نعرف عنهم شيئًا، وللإنصاف نذكر الدور الذي اضطلع به أستاذنا الدكتور "حسن طلب" الذي تعلمنا على يديه الفلسفة في "جامعة حلوان" في الدعوة إلى إعادة النظر في تاريخ الفلاسفة وشرح الدور الكبير الذي قام به قدماء المصريين في تكوينها وإنمائها، وذلك من خلال كتابه المهم "أصل الفلسفة".
إن الفلسفة هي "فيلو سوفيا" أي: "البحث عن الحكمة" وقد اهتم المصريون بالحكمة اهتمامًا كبيرًا، وربطوا بينها وبين شخص الإله "تحوت" الذي كان عندهم "إله الكتابة والحكمة" ومقره بمدينة "الأشمونين" في المنيا، وهي المدينة التي كانت بسببه تسمى "مدينة الأرواح السامية".
فلما حكم اليونانيون مصر أطلقوا على "الأشمونين" اسم "هيرموبوليس" أي مدينة الإله "هرمس" وهو إله الحكمة المقابل عند اليونان للإله "تحوت" المصري، وأصبحت الأشمونين عاصمة فكرية رائدة تضاهي "أثينا" عاصمة اليونان، وكانت على اتصال كبير بالإسكندرية ومكتبتها القديمة.
وفي "أسيوط" التي لا تبعد كثيرًا عن "الأشمونين" وُلِدَ وعاش المواطن المواطن المصري "بلوتينوس" وهو اسم روماني عرفناه بالعربية على هذا النحو "أفلوطين" وكان ميلاد هذا الفيلسوف عام 204 بعد الميلاد، أما وفاته فكانت سنة 269م، وهذا الفيلسوف تمكن أهميته في أنه الأب الروحي لمدرسة فلسفية كبرى هي "الأفلاطونية الجديدة أو المُحدَثة" التي تبعت إلى حدٍ كبير فلسفة "أفلاطون" ومنحتها البعد الروحي والعمق الصوفي والاتجاه العرفاني، وكان لهذه المدرسة دور مؤثر على الفلسفة المسيحية التي تعلمناها جنبًا إلى جنب مع الفلسفة الإسلامية؛ هذا مع أن "أفلوطين" لم يكن مسيحيًا.
ومحور الفلسفة الأفلوطينية يمكن تلخيصه في أن "الروح" هي التي يبدأ بها الوجود الإنساني، ثم يتدرج إلى "العقل" ومن خلاله يمكن للإنسان أن يعكس الأفكار فيمتصها كيانه حتى تصبح داخلة في نسيجه وجزء منه لا ينفصل، ومن هنا يكون الإنسان مرتبطًا بالمعرفة الكونية الشاملة وجزء منها.
ثالثًا: الفيلسوفة المصرية وعالمة الرياضيات "هيباتيا".
ولا يمكن حين الحديث عن "الأفلاطونية الجديدة" أن نغفل دور الجميلة "هيباتيا" التي كانت نادرة عصرها في الفهم والذكاء، وهي عالمة رياضيات مؤمنة بأفكار أفلاطون عن أهمية الحساب، وقد ربطت بين الفلسفة والرياضيات على نحو ما فعل فيثاغورس وأستاذها "أفلاطون" الذي تتلمذت على كتبه وأفكاره وإن كانت لم تلتقيه بالطبع.
وقد ولدت "هيباتيا" عام 370 للميلاد، وتوفيت سنة 415م، وكانت واسعة الأفق وغزيرة العلم بشكل مدهش، ويذكر لها مؤرخو الحركة العلمية أنها صاحبة دور لا يُنكَر في تأسيس علم "الجبر" وأنها مخترعة، فقد اخترعت آلة فلكية لقياس ارتفاع الشمس والنجوم.
وللأسف الشديد كانت نهاية "هيباتيا" مأساوية بكل معنى الكلمة، فقد اتهمها بعض الكهنة المسيحيين في الإسكندرية بالكفر وبتهمة غريبة هي "السحر"!! ثم قتلوها وسحلوا جثتها حتى تفتت ثم أحرقوا ما تبقى من أشلائها..
كلمة أخيرة:
رغم كل المآسي التي لحقت وتلحق برواد الفكر والفن فإن الحياة تمنحهم ما هو أكبر وأهم من تقدير الناس؛ تمنحهم "الخلود" و"المجد" وقد عاش في زمن سقراط كثيرون، ولا نذكر منهم إلا سقراط، فالتاريخ لا يعترف بالإنسان الآكل الشارب الباحث عن مصالحه الشخصية؛ وإنما يعترف بالمؤثر والمبدع وصاحب النفع العام للبشرية كلها، أو على الأقل لأبناء وطنه، وبحقٍ ما قال أمير الشعراء أحمد شوقي:
وليس الخُلد مرتبةٌ تُلَقَّى.. وتؤخذُ من شفاه الجاهلينا
ولكن منتهى هممٌ كبارٌ.. إذا ذهبت مصادرها بقينا
وسر العبقرية حين يسري.. فينتظمُ البدائعَ والفنونا
وأخذُكَ من فم الدنيا ثناءً.. وتركُكَ في مسامعها طنيا