الجمعة 1 نوفمبر 2024

المعنى والرمز في «سبَّابتي ترسل نيراناً خافتة»

23-8-2017 | 16:33

حمزة قناوي - شاعر مصري مقيم في الخارج

يُعدُّ توليدُ المعنى وتركيب الصور وفقَ سِماتٍ وظيفيةٍ جديدة إحدى سمات التميُز النَّوعِي للشعر، ولا يعني هذا خلو الفنون الأدبية الأخرى من سماتٍ تصنيفية نوعيةٍ خاصة، وإنما يشير إلى امتياز خصوصية الشعر في تقديم المعنى بما يختلف عمَّا نجده في فنون النثر، أو السرد الأخرى، يقول (آي. إي. ريتشاردز): «إن أهم ما يمتاز به الشعراء هو سيطرتهم على الألفاظ سيطرةً تدعو إلى الدهشة»[ ]، وهذه السيطرة هي ما يُعطي لكل قصيدة جماليتها الخاصة، ومن ثمَّ تُصبِحُ كل قراءة في ديوان ما، محاولةً لبحث كيفية سيطرة الشاعر على ألفاظه، كيف استطاع أن يولِّد منها دلالاتٍ جديدةً ومعانيَ جديدة، أو بتعبير (جوناثان كولر) «شفرات جديدة»[ ]، وذلك ما نبحث عنه في ديوان: « سبَّابَتي تُرسِلُ نيراناً خافتة» لـ(هدى الدغاري)[ ].

تطالعنا أولى علامات التشفير مع العتبة الأولى للنص، مع تشبيه السبَّابَة بقاذفة اللهب، أو القدَّاحة التي تشعل النيران، عبر تأكيد معنيين متناقضين هما: «ترسل» مما يستوجب أن تكون النار قويةً حتى تصل إلى هدفها البعيد، ثم يأتي وصف النار بأنها «خافتة»، وبرغم أن النار الخافتة عادةً لا تبرحُ مكانَها، ولا تكون قابلةً للانتقال، فإن نيران الشاعرة قابلة للانتقال وللإرسال والتوجيه أيضاً، لكن كيف وإلى أين سترسلها؟

تحيلنا محاولة الإجابة إلى الذهاب سريعاً للقصيدة المركزية التي اشتقَّت منها العنوان، فنجد المقطع التالي:

«أحبّك،

 أرفعُ رايتي عند قدميك،

 سبّابتي ترسل نيراناً خافتة،

 تدبّ على ساقك اليسرى،

 فتضمّني،

 ويدي تسدل الستارة على جسدين».

النار الخافتة التي تتحدث عنها هي تلك التي تنتقل بين أجساد العشاق، فهناك تكملة لم تورِدها في العنوان، فهذه النار سوف: «تدب على ساقك اليسرى»، نحن في تلك الحالة التي تصبح فيها لمسة كافية بإشعال الرغبة والسعادة بين العاشقَين، وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن هذا المقطع الختامي للقصيدة يبدأ بقولها: «أُحِبُّك»، فإن معنى التواصل الجسدي يتغير هنا، فهناك فارق بين حالة التواصل الجسدي من خلال «الحب»، وبين «الشهوة»، وبرغم ما قد يبدو من التعبير المُباشِر في قصائد الديوان عن العلاقة الحميمة بين الطرفين، فعلينا ألا نفقد ملاحظة جوهرية، وهي أن هذا التدلُّل من الذات المعبر عنها يأتي في إطار الحب، وفرق شاسعٌ بين تجلي الحب عبر العلاقة الحميمة بين عاشقين، وبين تمثُّله في إطار الرغبة فقط، إننا في هذا الديوان إزاء حالة من حالاتٍ مُجتَرَحة عن مفهوم جديد من الحب المتحرر من مواريثه الكلاسيكية، تقول الشاعرة في قصيدة «لا تفعلها»:

«الحبّ قصيد يذوب متى عرّضتَه للحظة ظهيرة

لا تحبّني في كل الأوقات،

ولا تقُلْ لي إنك تذكرتني وأنت تشتري تفّاحاً لعشاء العائلة

لا أحبّ أن أكون شغلك الشّاغل

ولا حتّى سكّرَ قهوتك الصّباحية

ابتكِرْ طريقةً نزقة

بعيداً عن حبّ الستينات

ولوعة العاشقين

حبيب يقف تحت الشرفات

لا تفعلها

شاحنة التنظيف الليلي

تغرقك بمائها»

نلمس هنا مفارقات البعد عن الصورة الرومانسية التقليدية، وبدلاً من ذلك يتم رسم مشهد مغاير للواقع داخل النص الشعري، بحيث يصبح كل ما في الحياة مستجيبًا لرؤية ونظرة الشاعرة – ربما أكثر من استجابة عاشِقِها؛ فلأنها متمردةٌ على هذا النوع التقليدي من الحب، تحذِّر عاشقها من أنه إذا وقف تحت شرفة محبوبته كتلك القصة التي نجترها منذ عهد روميو وجوليت، فإنه في هذا الزمن سوف يغرق بماء «شاحنة التنظيف الليلي» كعقابٍ له، على عدم تمثُّله المفهوم الجديد للحب في رؤية الشاعرة للعاطفة وتجلياتها.

، ومن ثَمَّ فالمتلقي مُطالَبٌ بأن يستكشف عبر الديوان حالة الحب– الجديدة– من وجهة نظر الشاعرة، التي تؤطِّر لها في قصائدها، ويدلل على محاولتها تلك تكرار مفردة «حب» ومشتقاتها أكثر من 140 مرة في ثنايا الديوان، فلم تتكرر مفردة بمثل ما تكررت، ويمكننا أن نقف أمام صور رئيسية في فهم معنى «الحب»، ففي قصيدة «ما مضى بك، وما مضى فيك»، تقول:

 «لحبّك بعضٌ منْ طعم الطّحين، رائحة الخبز، بريق السمسم

أبحث عنّي فيك

 تجيئني الرياح بكلِّ ما مضى بك، وما مضى فيك»

لم نعتَد تشبيه الحُب بما هو عاديٌّ ويوميٌّ، الصورة تأتينا مغايرةً للموروث التاريخي في التعبير الرمزي والمباشر عن العاطفة، فما الحب إلا طعم الطحين ورائحة الخبز، هكذا يصبح «الحب الجديد» يبلغ في درجته من الواقعية معايشة اليومي وتوليد معنى السعادة والحياة الحقيقة من رائحة الأرض والطعام، بعيداً عن التحليق في سماء الخيال عن أرض الواقع، والشاعرة تعود إلى تكرار المفردات المتعلقة بالأرض والزراعة والطعام، مُعمِّقةً توجُّهِها الواقعي في التعبير عن الحب من خلال توليد معانٍ مغايرةٍ لتمثلاته من خلال المفارقة الموضوعية ومنح المفردات أبعاداً متعددة الدلالات.

ففي قصيدة «أشعار من المطبخ»، تعكس الشاعرة الصور التي اعتدناها في وصف حالة الحب والعشق تماماً، بل إنها «تنسف» تلك الحالة الرقراقة من خيال ملائكي عن العشق، فتقول:

 

«أنْ يكون قلبك العاشق

سَلَطةَ فواكه مُشكَّلَة: تفاح وموز وأفوكادو، وقليلٌ من سكر، وخلطة حامضة، كالحب، لا بد من مرارةٍ في الحلق وغَصَّة.

لا تبالِ بارتفاع السُّكَّر وأنت تلتهم على أصابع حبيبك شوكولاتة سوداء.

لا عيبَ وأنتَ تلحس شفتيك، أنْ تكْنس بلسانك فكرة عالقة بحبّة فستق متدحرجة على صدْره...

لا تبالِ، بعقدة حاجبين، فوراء الصخر عيون جارية»

وفي مقطع تال، تقول:

«أنْ يكون قلبك العاشق،

سلطة خضار: خسّ، طماطم وفلفل حلو، اترك الحار، تكفيك حموضة البصل.

لا تفكِّر في خلطة بهارات حارة، أو حموضة ليمونة ناشفة.

يكفيك مروره البارد آخر النهار!»

لماذا هذا النزوح عن موروث التقديس والتبجيل للحب، إلى النزول بالصورة للواقع المعيش؟! إن قراءة البنية اللغوية لنصوص الديوان ومفرداته تحيلنا إلى أن هذا التوجُّه راجعٌ للمفهوم الخاص للحب لدى الشاعرة، والذي تريد ترسيخه عبر نصوص الديوان، إنه مفهومٌ يقوم على رؤية الحب باعتباره حالةً من حالات الوصل، ولا يتحقق إلا بالوصل، فليس من مكانٍ للحب في حالة الغياب (الذي لم يحضر بقوة في نصوص المجموعة)، أو ما درجنا على تسميته بالحب العذري، أو الحب من طرف واحد، كل هذا إنما على النقيض من ذلك يتم طرح فكرة النظر للحب باعتباره جزءاً من الحياةِ نفسها، جزءاً من اعتياديتها، لا توجد قيثارات تعزف ألحاناً مُحلِّقَة، وإنما إيقاع المشاعر يضبطه ضجيج الحياة اليومية وعاديتها، وتجلِّي هذه المشاعر في شكل العلاقة الحسيِّة بين عاشقين.

ومن هذا المنظور تقدم هدى دغاري رؤيتها للعالم، كمن يتَّحِدُ بعاشقٍ وصار ينظرُ بعده لمآسي العالم، الذي ربما سبب مآسيه أنه مازال يقف عند الصورة المثالية والخيالية عن الحب فعجز عن أن يحقق جوهره، ومن ثم لا تجد الشاعرة غضاضة في مناداة المعشوق والطلب منه تحديداً ماذا يفعل، تقول في قصيدة «لا أقود حملات عسكرية في أرض حبك»:

« بدّل الماء الذي وضعته لي منذ أشهر

رتِّب مضجعي بيديك الحازمتين

اتركْ، من باب الفضْل، شيئاً من طراوتهما على مخدّتي، للأيام القادمة

تعالْ ولو ليْلاً

غطّني من بردٍ داهم

من أطرافي إلى بؤبؤ عيني

ولا تفاجئها حتى لا تسقط صورتك من عروة قلبي

أنا، واللهِ، لا أقود حملات عسكرية في أرض حبك

أنا امرأة عاشقة

أحمل صخراً على ظهري

لأخفي حبّي لأجلك».

من الصورة المغايرة لهذا الطرح الشِّعري التي اعتدناها من أن يُخفي الرَّجل مشاعره عن المرأة التي يحبها حتى لا يعرضها لضررٍ اجتماعيٍّ، إلى امرأة تشفق على الرجل ولا تعبأ باللوم المجتمعي، وإنما تخفي مشاعرها إشفاقاً على المحبوب الذي لا يبدو أنه قد نجح للوصول إلى حالة التوافق والتفاهم التامة لنوعية ومدى الحب الذي تطرحه الذات الشاعرة.

إن الديوان تتأرجح قصائده بين قطبي الشعرية المُجنّحة، والأخرى المنتجة من تفاصيل الواقع – وهي الأكثر حضوراً في القصائد- حتى نرى الشاعرة تُجسِّدُ رؤيةً ما للعالم حول الشعر واقتناص القصائد من خلال تمثُّل "حظيرة الحيوانات المُدجّنة".

تقول في قصيدة «اختلاس»:

«ثمة قصيدة مثل زريبة ماعز،

ثمة قصيدة مثل حملة صيدٍ بكلابٍ نابحة،

ثمة قصيدة مثل عش خُطاف في زاوية بيت،

ثمة قصيدة مثل بيوت حمام زاجل.

الفضل يعود إلى ابني المشاغب؛

ابني الذي ملأ المنزل دجاجات وحماماً، 

ثم أتى بمعزة!

أتذمّر من هواياته؛

ثم أختلس منها بعض قصائدي! »

في اعتقادي أن مثل هذا التأسيس لمفهوم جديد من الحب، يستمد رؤيته من هوايات تتذمر منها الشاعرة نفسها، ولكنها بينما تتذمر من مرارة الواقع تنجح في أن تتقبله وتتصالح معه وتعيد إنتاجه، فتعود لتعبر به ومن خلاله محلقة في فضاء صور الشاعرية، هو ما يجعلنا نطرح التساؤل حول إمكانية أن تتحول هذه الحالة التي رسَّختها الشاعرة في قصائد الديوان، لتأسيس معنى ومفهوم جديد للحب يغاير ما اعتدناه في موروث طويل اتخذت فيه المحبوبة– غالباً- حالة السلبية، واتخذ الحديث عن تأثير الحب مساحةً أكبر من الحديث عن السعادة، بدلاً من ذلك نتحوَّل هُنا إلى حديثٍ مباشر عن جمال لحظة الوصل، وعن فهم طبيعة ونفس المحبين، هل هذه الحالة من التأسيس ستجد صدىً لدى العشاق؟ وماذا سوف تكتب الشاعرة في محطاتها القادمة من دواوينها عن مفهوم الحب؟ هل ستختلف رؤية العالم لديها وتمثُّل العاطفة عما قدَّمته في "سبابتي ترسل نيراناً خافتة"؟ أسئلةٌ ستجيب عنها تحولات رؤية العالم لدى الشاعرة وتطورُّ "أو تغير" نهج التعبير عنها في دواوينها القادمة.