بقلم : الأب بطرس دانيال
تحتفل الكنيسة اليوم بعيد "انتقال مريم العذراء إلى السماء بالنفس والجسد"، ومن مظاهر هذا الاستعداد: الصيام لمدة خمسة عشر يوماً والصلوات والابتهالات والمدائح تكريماً لاسم القديسة مريم أمّنا جميعاً، فالعذراء مريم لها مكانةً خاصة في قلوب المسيحيين والمسلمين على السواء، ونعلم جيداً بأن لها سورة كاملة باسمها في القرآن الكريم. مَن هذه المرأة التي دخلت قلوب الناس بمختلف معتقداتهم وانتماءاتهم وميولهم؟ سنركّز في مقالنا هذا على فضيلةٍ واحدة وهي: تواضع العذراء مريم التي تهللت قائلة: "تُعظّم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مُخَلّصي لأنه نظر إلى تواضع أَمَتِهِ". هل يوجد في السماء جناح خاص للأشخاص VIP؟ من المؤكد أن الله لا يتبع السلوك البشري الذي يفرق بين فئات المجتمع، أو يُفضّل الأشخاص الذين يتمتعون بامتيازات خاصة في المجتمع بحُكم أموالهم المتراكمة أو مركزهم الاجتماعي، أو السلطة التي يمتلكونها أو الإمكانيات الأخرى. هؤلاء ينالون امتيازات خاصة واستقبالاً حاراً ولهم الأولوية في كل شيء، لهم صالة خاصة لكبار الزوّار. لا نستطيع أن نتخيّل شخصاً VIPيقف في الطابور كعامة الشعب. هل العذراء مريم تُصَنّف ضمن هذه الفئة؟ هل خطيبها القديس يوسف يتمتّع بهذه الامتيازات؟ لا نستطيع أن نتخيّل وجود صالة VIPملحقة بالفندق في بيت لحم محجوزة لهما. لا نستطيع أن نُقنع أنفسنا بأنه أثناء هروب العائلة المقدسة إلى مصر بسبب الاضطهاد وليس رحلة سياحية، أنه تم استقبالهم باستقبالٍ حارٍ من الشعب. لا يحدّثنا الكتاب المقدس عن لحظات أو مناسبات كانت العذراء مريم فيها متميّزة عن الناس، لم تشعر بأي استنفار لكونها تعيش وسط عامة الشعب، أو تقف في الطابور مثل الآخرين، أو تقضي يومها كباقي الناس البسيطة والفقيرة. لكنّ العذراء مريم اخترعت طبقة NIPلأنها خبيرة في مادة "الناس غير المهمّين" وكما قالت: "أنا أَمَةُ الربّ"، كما كان مكتوباً على جواز سفرها أو زيارتها: "خادمة" وليس "جواز سفر دبلوماسي". أدركت العذراء مريم أن الله ينظر للأشخاص NIP"المهمّشين" نظرةً خاصة قائلةً: "ونظر إلى تواضع أمته"، يجب أن نلتحق بمدرسة العذراء مريم الخبيرة في هذا المجال: المحبة، الخدمة، الصمت، الاختفاء عن الأنظار، البساطة، التواضع، الاعتدال، الفطنة، اتخاذ المكان الأخير. هذه كلها هي المواد الأساسية للامتحان التي تؤّهلنا للدخول إلى ملكوت السماوات. لم يتطرق الكتاب المقدس إلى التفاصيل الكاملة لحياة العذراء مريم احتراماً لصمتها وخدمتها في الخفاء، ولكن هذا القليل الموجود في الكتاب المقدس ألهم المُبدعين بمختلف طوائفهم ليقدّموا أفضل ما عندهم من فنونٍ كثيرة إكراماً لها. نجد الفن السابع يُبدع عندما يحدّثنا عما قامت به أمّنا العذراء مريم من تضحيات بالتعاون مع القديس يوسف خطيبها، ومن أروع الأفلام التي تناولت حياتها مع السيد المسيح، الفيلم الفرنسي: "عذراء الناصرة" للمخرج الفرنسي Jean Delannoy، وفيلم "الآلام" حسب إنجيل متى للمخرج Pierre Paolo Pasoliniوالذي حصل على جائزة مهرجان فينيسيا الدولي عام 1964، وفيلم "المسيح" للمخرج الأمريكي John Heymanوالذي نال جائزة من مهرجان "كان" الدولي وتُرجم إلى 425 لغة ولهجة وشاهده أكثر من مليار ونصف المليار نسمة، وفيلم "يسوع الناصري" للعبقري Franco Zeffirelliعام 1977، أيضاً فيلم "الآلام" للمخرج النابغة Mel Gibsonعام 2004 كما كانت حياة العذراء مريم مصدر إلهام للقديسين والشعراء والكتّاب والموسيقيين، ولا نستطيع أن نُحصي الترانيم الخاصة بالعذراء مريم لأنها تجاوزت الآلاف، يكفينا موسيقى "Ave Maria"(السلامُ عليكِ يامريم) التي لحنّها مئات من الموسيقيين العالميين، أيضاً توجد أعمال كاملة رائعة وبديعة للعذراء مريم مثل "Stabat Mater"(أنا الأم الحزينة) و"Salve Regina"(السلام عليكِ يا سلطانة) و"Magnificat"(تعظّم نفسي الرب) لموسيقيين عظماء قُدّمت كعملٍ كامل من إبداعاتهم، خلاف ذلك ترانيم بلغاتٍ وأصواتٍ متعددة ومدائح شعبية وألحانٍ قبطية. كم من الأيقونات أبدعها فنانون عظماء وفيها نجد صورة العذراء مريم بطرقٍ مختلفة: أماً تحمل الطفل يسوع، فتاة طاهرة في غاية الجمال، ملكة متربّعة على عرش، أو امرأة حزينة من أجل ابنها المتألم، عذراء تصلّي وغير ذلك. فإذا حاولنا ذكر جميع الأعمال التي قُدّمت للعذراء مريم، لن ينتهي الحديث. كل عام ونحن بخير وشفاعة العذراء مريم تكون معنا.