الخميس 16 مايو 2024

بيرم التونسي (1893- 1961م) في آثاره ومكانته الأدبية


د. عبد الوهاب برانية

مقالات9-3-2023 | 17:46

د. عبد الوهاب برانية

• حظيت أزجال بيرم التونسي بشهرة وذلك بما حفلت به من صور وأخيلة طريفة مشوقة وساخرة في الوقت نفسة
• بلاغة بيرم وطلاقة لسانه جعلت لغته الزجلية تنافس اللغة الفصيحة في الوصول إلى قلوب الجماهير من عامة الناس ومثقفيهم
• كان القاسم المشترك بين الإبداعات البيرمية هو المواكبة لقضايا العصر وهموم الناس، وغلبة روح السخرية على تلك الإبداعات

تعد حياة "محمود بيرم التونسى" مثالا لحياة شاعر وفنان تمسك بمبادئه الإنسانية، وقيمه الوطنية، التي لا يؤمن بها إلا إنسان، يعيش حياته من أجل تلك المبادئ وهاتيك القيم.
وهي حياة شهدت من بدايتها إلى نهايتها على صدق مشاعره ورقي أهدافه، وفي الوقت نفسه تعد دليلا على الصبر والمثابرة في طريق حياة ممتلئة بالعقبات، محفوفة بالمكاره، وعلى الرغم من ذلك، فالسائر فيها صبور متحمل للمشاق راض بنصيبه، غير متبرم ولا قانط مما لحق به من تنكيل واضطهاد في سبيل الحفاظ على مبادئه وقيمه.
لم يكن "محمود محمد مصطفى بيرم الحريرى التونسى" وهذا اسمه الحقيقى من أصول مصرية، وإنما نزحت أسرته من جذور تونسية، واستقر والده بحى السيالة بالإسكندرية، حيث ولد ابنه محمود في 23 مارس 1893م، وكعادة الأسر المصرية المسلمة في إلحاق صغارهم بمكاتب تحفيظ القرآن الكريم، أُلْحِقَ الصغير محمود بأحد الكتاتيب، فتلقى تعليمه الأولى من خلاله، ولكنه لم يستمر طويلا في ذلك الكُتَّاب؛ لغلظة الشيخ وفظاظته، وكم أدت هذه الغلظة من بعض متصدرى تلك المكاتب إلى تنفير الصبية من استكمال حفظ الكتاب العزيز!
والتحق بيرم بالمدرسة الابتدائية، ولكنه لم يكمل تلقيه في تلك المرحلة أيضا؛ ليس للسبب السابق الذى أدى إلى فراقه مكتب التحفيظ، ولكن هذه المرة لوفاة والده، وفقدان عائله؛ مما اضطره للبحث عن عمل في سن مبكرة من أجل لقمة العيش، وهو ما ينبئ بمستوى حياة أسرته المعيشية؛ إذ لم يكن الصبى يستند في حياته على مال مدخر، ولا رزق ثابت، يكفل له حياة كريمة، تحفظ ماء الوجه، وتضمن له استمرار تعليمه كمن فى مثل سنه من الصبية والأطفال.
ألقابه
وكان بيرم مناضلا قوميًّا، يقف في صف الشعب حتى لُقِّب بــ "شاعر الشعب"، واعتُبر رائدا للشعر العامى في مصر، ولُقّب بـ"هرم الزجل". و"النبع الخالد"، و"أمير شعراء العامية"، و"رائد التجديد"، و"نذير الثورة" و"بودلير الشرق" و"ضمير الأمة" المعبّر عن طموحاتها إلى العدل والحرية، وشاع فى ذلك الوقت أنّ اللغة العربية تخشى على سحر بيانها من فصاحة عاميته، وقد نسب هذا القول إلى أمير الشعراء أحمد شوقي: "لا أخاف على الفصحى إلا من عامية بيرم". وهي عبارة لا تؤخذ بمعناها الحرفى؛ فقيمتها الحقيقية تكمن في دلالتها على أن بلاغة بيرم وطلاقة لسانه الشعبية جعلت لغته الزجلية تنافس اللغة الفصيحة في الوصول إلى قلوب الجماهير، وتكتسب حشودا من المتابعين لأزجاله من عامة الناس ومثقفيهم على السواء؛ بما تعالجه تلك الأزجال من مشكلات الناس وأوجاعهم فى حياتهم اليومية..
حياة مضطربة
عاش بيرم حياة شديدة الاضطراب، ولا أدل على ذلك من أنه قضى ما يقرب من عشرين سنة (1920-1938) شريدا، طريدا، منفيا في بلدان عديدة، قضى هذه الأعوام خائفا يترقب ما بين مصر وتونس وفرنسا وسوريا ولبنان، وبالرغم من ذلك استطاع أن يحفر اسمه بحروف بارزة في سجل الأدب والأدباء.
ولعل هذا الاضطراب الذي منيت به حياة بيرم التونسى يرجع إلى طبيعته الثائرة ضد الظلم والاستبداد، وهبَّاتِه الشعرية المستمرة ضد الطبقات المتحكمة في أرزاق الشعب ومعيشته، من الحكام وأعوانهم، الإقطاعيين والسياسيين، الذين أرهقوا الشعب بالضرائب، وقهروا رجاله تحت نير السخرة والإذلال؛ فكان من جراء ذلك أن كان "بيرم" عرضة لسخط هؤلاء المتسلطين وبطشهم وتنكيلهم، فتم نفيه عدة مرات من مصر إلى تونس وفرنسا وسوريا ولبنان، ثم عودته بالحيلة مرة أخرى إلى مصر بمساعدة أحد البحارة المصريين أثناء ترحيله عبر البحر إلى إحدى الدول الإفريقية، فشهدت حياة بيرم من أجل ذلك  الكثير من الأزمات التي نشأت بعد أزمته مع الملك بسبب أشعار كتبها ينتقد فيها سياساته، وكان من تلك الأزمات غير النفى العمل في أشغال لا تتناسب مع مكوناته البدنية، فعمل في شركة للصناعات الكيماوية، مما أكسب جسمه الضعيف اعتلالا فى صدره لازمه حتى قُضِيَ به، وقد كان مثل "بيرم" جديرا بغير هذا، كان مثله جديرا بتوفير الحياة الكريمة له، حتى يفرغ لفنه وأدبه، وقد ذكرني موقفه بموقف الشاعر المصرى القديم "أبو الحسين الجزار" حين ترك الشعر وعمل بمهنة الجزارة، وأنشد شعرا في ذلك يرد به على عتاب صديقه الأمير شرف الدين:
لا تلمني يا سيدي شرف الدين إذا ما رأيتني قصابـا
كيف لا أشكر الجزارة ما عشـت حفاظا وأهجر الآدابا
وبها أضحت الكلاب تُرَجِّيني وبالشعر كنت أرجو الكلابا
وما أفظع تعبير الشاعر: "وبالشعر كنت أرجو الكلابا"! ففيه تصوير للظروف التي قهرت الشاعر، وألجأته إلى عدم الاهتمام بفنه والتحول من شاعر إلى قصَّاب من أجل تدبير معيشته التي ثقلت على كاهله، ولم يوفرها له أدبه، إلا أن بيرم رغم قسوة الحياة لم يتوقف عن الكتابة حتى في أصعب الظروف كما توقف صاحبه أبو الحسين، فألّف فى منفاه  مجموعة من أروع أعماله الأدبية، وقد قام بجمعها د.محمد صالح الجبرى في عمل ضخم تحت عنوان (محمود بيرم التونسى في المنفي حياته وآثاره"ضم مقالاته السياسية والفكرية والأدبية وقصصه ومقاماته وقصائده ولوحاته القلمية. ولو قدر لغير بيرم أن يعيش تلك الظروف القاسية في منفاه لما خط قلمه شيئا من ذلك، لكنها عزيمة من يحرص على إنفاذ مشروعه الفكرى والانحياز لمبادئه وقيمه. 
ولم تتخل الهموم عن بيرم إلا بعد عودته إلى مصر وتوسط أحد محبيه من أعوان الخديوي للعفو عنه، فاضطر إلى مهادنة الملك، وفتحت له بعدها بعض النوافذ للنشر والكتابة، وكاتبته بعض الصحف وعاش حياة مستقرة، ثم قامت ثورة يوليو1952م فكان أشد المؤيدين لها؛ لانتقاده الكثير من السياسات في العهد الممكي، فكتب عددا من الأشعار الداعمة للثورة حتى أنه كان أول من ألقى شعرا بصوته في الإذاعة المصرية احتفاء بقيام الثورة.وكرمته الدولة فمنحته الجنسية المصرية عام 1953، وجائزة الدولة التقديرية قبل عام من وفاته. 
اهتماماته الأدبية وآثاره
لقد شهد الأدب العربي المعاصر مرحلة جديدة من التطور، بعد انتقاله من التقليد إلى التطور والتجديد، فوجدنا على الساحة الأدبية تغيرات حداثية تتماهى مع معطيات الحياة السياسية والاجتماعية الطارئة على مجتمعنا، فراح الأدباء يتبنون مشروع التنوير السياسى والاجتماعي لأبناء هذا الشعب، وتضامنوا مع قضاياه المختلفة، وجردوا من أنفسهم أصواتا تطالب بحقوق الشعب، بطريق مباشر أو غير مباشر، فصوروا آلام هذا الشعب التي يرزح تحت نيرها، ولم يكتفوا بذلك بل راحوا يبثون فى عقول وقلوب جموع الشعب روح الاستيقاظ من السبات والغفلة للمطالبة بالحقوق الضائعة على كافة المستويات، مذكرين إياهم ببطولات أجدادهم وأمجادهم التي سطرها التاريخ في أنصع الصفحات وأبهاها، ولم تقف الأنظمة المضادة من هذه الروح التنويرية التي يتبناها الأدباء في تلك المرحلة موقف الصامت المنتظر العواقب والنتائج، بل راحت أنظمة الاستبداد وأعوان الاستعمار تبذل كل جهدها لإجهاض تلك المحاولات في مهدها، بالتضييق على هؤلاء الأدباء، بنفيهم أو سجنهم أو قتلهم إن لزم الأمر.
وكانت مصـر في صدارة البلاد العربية التي ظهرت فيها تلك المظاهر التجديدية. وكـان محمود بـيرم التونســى ضــمن أدباء هذا الجيل وفنانيه الذين استيقظوا وهبوا لتوعية الشعب المصرى بما يحاك له، فوظف أشـــعاره في معالجة القضـــايا ذات الطـــابع السياســـى والاجتمـــاعى، وأضحى شـــعره منـــبرا ينشـــر الـــوعى واليقظـــة بـــين أبنـــاء الشـــعب المصـــرى، رغم ممازجة شعره بين الفصحى والعامية وغلبة الشكل العامى عليه، وقد كانت قصائده تتداول بين جموع الشعب كمنشور ثورى ضد الحكام المستبدين وأذرعهم العديدة، حتى قيل بأن قصيدته (المجلس البلدى) طُبِعَ منها عشرات الآلاف من النسخ، مما أقض مضاجع أعضاء المجلس البلدي بالإسكندرية، الذين كانوا يفرضون الضرائب الباهظة على التجار والمستأجرين وعموم الأفراد، فكانوا عرضة لسخرية بيرم اللاذعة وقصائده المتهكمة الثائرة، يقول ساخرا:
ما شرد النوم من جفني القريح سوى
طيف الخيال خيال المجلس البلدى
إذا الرغيف أتى فالنصف آكله
والنصف أجعله للمجلس البلدى
كأن أمي بل الله تربتها
أوصت وقالت أخوك المجلس البلدى
يا بائع الفجل بالمليم واحدة
كم للعيال وكم للمجلس البلدى
الأرض والناس والأنعام أجمعها
الكل ليست لغير المجلس البلدى
وقد تنوعت آثار بيرم الأدبية تنوعا ملحوظا فكان منها: الشعر، والسيرة الذاتية، والمقامة، والمسرح، والمقال الصحفى الفكاهى، وحتى أدب الرحلة، غير أنه برع في كتابة الزجل إلى درجة أنه صار أساس مدرسة الزجالين المصريين. فترك تراثا فنيًّا شديد التنوع، من شعر وقصة ومقامات ومقالات ونصوص مسرحية ومسلسلات إذاعية وسيناريوهات أفلام، بالإضافة إلى الأغاني التي شدا بها كثير من الفنانين وعلى رأسهم كوكب الشرق "أم كلثوم"، وكان القاسم المشترك بين تلك الإبداعات البيرمية هو المشاركة الإبداعية والمواكبة لقضايا العصر وهموم الناس، وغلبة روح السخرية على تلك الإبداعات.
شعره الفصيح
اشتهر بيرم زجالا، لأنه المجال الفسيح الذي مضى فيه الشاعر إلى مدى بعيد، غير أن بداياته الأدبية كانت مع الشعر الفصيح، وقد نظم عليه قصائد عديدة متنوعة الأبحر، جمعها بعد وفاته الشاعر والناقد السكندري عبد العليم القباني ونشرها مطبوعة في كتاب، وقام د.محمد صالح الجبرى بجمع أشعاره الفصيحة التي نظمها في منفاه ونشرها ضمن كتابه عن بيرم، ولكن لأسباب قد تقنعنا أو لا تقنعنا ترك بيرم الشعر الفصيح إلى العامى وانخرط  فيه إلى آماد وآماد. ولو قدر لبيرم الاستمرار في النظم على اللون الفصيح لقدم لنا نموذجا رائعا للشاعر الذي يسخِّر شعره لقضايا مجتمه، مهما كلفه من تضحيات، ولكنه أقصر عن ذلك وأطال فيما سواه.
وفي معرض تناوله لأسباب انصرافه عن الشعر الفصيح يذكر بيرم أنه لم يرد أن يضيف  إلى المحن القاصمة التي تعرض لها محنة الشعر يقول: "فتركت ثقافتى واستعدادى وموهبتى الشاعرة أمانة في ذمة الأيام إلى الزجل أنظم به المسرحية والموال والأغنية " وفي تبريره هذا ما يشعر القارئ بحالة الحسرة مما آل إليه حال المشتغلين بالأدب، أو من أدركتهم حرفة الأدب وليس لهم رصيد من ثراء يتكئون عليه.
مجال الزجل
ويعد بيرم التونسي - دون مبالغة- زجالا منقطع النظير، حظيت أزجاله بشهرة واسعة تفوقت بها على كثير من نماذج الشعر الفصيح الفارغة من مضمونها؛وليس ذلك لأن لغته هي اللغة التي يفهمها عامة الشعب المخاطب بأزجاله، ولكن بما حفلت به أزجاله من صور وأخيلة طريفة مشوقة وساخرة في الوقت نفسة، وبما تحمل من جرأة على المواجهة مع الخصم.
وحظيت أزجال بيرم بالعديد من الكتابات والدراسات التي تناولت حياته وشعره بالعرض والتحليل والنقد، فكشفت عن جوانب كثيرة من عبقريته الإبداعية والإنسانية، ومن أهمها على سبيل المثال: "بيرم والفصحى"لعبد الفتاح غبن و"بيرم كما عرفته"لمحمد كامل البنا و"فنان الشعب " لأحمد يوسف و"بيرم رائد الزجل" لميلاد واصف و"محمود بيرم التونسي" لعبد العليم القبانى و"أزجال بيرم التونسى..دراسة فنية" للدكتور يسري العزب، ولكن رغم هذه الدراسات وغيرها تبقى جوانب من فنه وإبداعه كالمقامات والمقالات والشعر الفصيح لم تأخذ حقها بعد من الدراسة. وسيبقى بيرم التونسى المصرى في وجدان كل المصريين حين يُذْكَرُ المخلصون للوطن وقضاياه من أهل الأدب والفن.