الثلاثاء 14 مايو 2024

مسرح رمسيس ودوره في تطوير المسرح العربي


أحمد عبد الرازق أبو العلا

مقالات9-3-2023 | 17:42

أحمد عبد الرازق أبو العلا

• أراد يوسف وهبى إحياء حركة مسرحية متطورة تنتشل المسرح الجدي من الكساد، مؤلفا جبهة لمنازلة المسرح الهزلى الذي كان يجتذب الجماهير بترقيص لحية بطله الأول كشكش بك عمدة كفر البلاص
• قبل إنشاء فرقة رمسيس كانت أغلب الفرق تنحاز للعروض الهزلية، ولم تهتم  بعنصر التمثيل الذي رآه يوسف وهبي تمثيلا ضعيفا، ولا يستند إلى أسس فنية
• وجد عزيز عيد في يوسف وهبي الرجل الذي يبحث عنه، وليس الرجل خالى الوفاض وفارغ الجيب، فنجح معه، ونجحت فرقة رمسيس بهما معا
• كان سر نجاح فرقة رمسيس هو التطور، والاعتماد على محاكاة الطبيعة، والاهتمام  الكبير بالإخراج  والمناظر والإضاءة والمواعيد مما جعل المشاهد يقتنع بأن المسرح وما يُعرض عليه له قدسيته 

ذكر (يوسف وهبى)  في مذكراته،  أن نظره وقع- أثناء سيره في شارع عماد الدين على رجل قصير، رث الثياب، وقد بدا على وجهه أنه لم يحلق ذقنه منذ أيام، ولما حدق فيه، عرف أنه الفنان الكبير (عزيز عيد) وكان قد عمل في فرقته في العشرين من عمره كهاو واشترك في أول رواية فودفيل هي (حنجل بوبو) أمام روز اليوسف ودولت أبيض عام 1917 -  وما أن رآه الرجل، حتى بكي بحرارة وقال وهو يجهش: (هكذا وصلت الحالة بفناني الدراما، فقد طغي الطابع الاستعراضى(الفرانكو آراب) ومسرحيات كشكش بك على الفرق الجدية، وأفلست فرقة ( جورج أبيض) فرحل إلى لبنان، بعد أن قال عبارته المشهورة " وداعا يا بلد كشكش "   ..... هنا طيب (يوسف وهبى ) خاطر (عزيز عيد) معلنا استياءه من انصراف الجمهور عن المسرح الهادف، وطلب منه الاستعداد للسفر معه إلى إيطاليا .. وهناك تقابلا مع الشاعر (أحمد شوقى) الذي أقنع ( يوسف وهبى) بتكوين فرقة مسرحية تجمع كل نجوم الدراما والتراجيديا بالذات، وهذا الاقتراح صادف هوى في نفسه - كما قال - لأن هدفه الأول رد اعتبار المسرح الهادف، ونشر رسالة الوعى التمثيلي السليم. 
   هذا التصريح المُبكر الذي أعلنه (يوسف وهبي) وكان في سن الخامسة والعشرين، ترجمه، وحققه فعليا بفرقته الجديدة ، التي أنشأها عام 1923- وهو نفس العام الذي صدر فيه دستور 23 بناء على تصريح 28 فبراير من نفس العام، والذي أعطى لمصر السيادة والاعتراف بها كدولة مستقلة -  وقدم من خلالها عرضه الأول (المجنون) من إخراج صديقه (عزيز عيد)  فى افتتاح المسرح الذى حمل اسم (رمسيس) يوم الاثنين 10 مارس من نفس العام، واستمر فى تقديم عروضه بتلك الفرقة، خلال مسيرتها التي امتدت حتى عام 1944 تاريخ  حلها، وانضمام أعضائها إلى الفرقة المصرية للتمثيل في مايو من نفس العام.                                  
  وأتساءل كما قد يتساءل غير، لماذا وافق (عزيز عيد) على مرافقة (يوسف وهبى) والذهاب معه إلى إيطاليا، ثم بعد ذلك ساعده في إنشاء فرقة (رمسيس) وأخرج أعمالا كثيرة لها، فضلا عن تمثيله لأدوار رئيسية في تلك الأعمال ؟ لقد وجدت الإجابة عند (محمد تيمور) الذي لم يكتب شيئا عن فرقة (رمسيس) ولا عن (يوسف وهبى) لوفاته في عام 1921 قبل إنشاء الفرقة بعامين. لكنه ذكر رأيا طريفا حين كتب عن (عزيز عيد) في (السفور 27 سبتمبر 1918)  مفاده ( أن عزيز عيد لم يصادف بعد في طريقه رجلا يميل لرأيه ويمشي على أثره، وإن صادفه يوما كان ذلك الرجل خالى الوفاض فارغ الجيب لا يمد عزيز بغير البضاعة الفنية والإخلاص في القول والعمل  .  
 هذا الرأي جاء بمعرض حديثه عن (عزيز) الذى لا يساير أهواء رجال الفن في مصر مختطا لنفسه شرعية أخرى يصل بها لما يرمى إليه من يوم احترافه للتمثيل، لكنه وجد فى يوسف وهبى الرجل الذي يبحث عنه، وليس الرجل خالي الوفاض وفارغ الجيب، ومن هنا نجح معه، ونجحت فرقة رمسيس بهما معا.                                                          
  وطوال إحدى وعشرين سنة من عمرها، قدمت ما يقرب من مائتى وثلاثين مسرحية، أكثرها مقتبس ومترجم وأقلها مؤلف، وذكرها جميعها د. عمرو دوارة في موسوعته المصورة الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب بأجزائها السبعة عشر. 
  وتلك الفرقة التي أراد (يوسف وهبى) من إنشائها، العمل على مواجهة المسرح غير الجدى، بالجدي، تشكلت على مراحل مختلفة، حيث ظلت تعمل بانتظام من عام 1923 حتى عام 1935 وفي ذلك العام اضطر إلى إخلاء مسرح رمسيس لعجزه عن سداد إيجاره، بسبب زيادة وطأة الأزمات المالية، وامتناع الحكومة عن دفع إعانة الفرق المسرحية، وبعدها في عام 1940 أعاد تشكيها وحول إحدى دور السينما إلى مسرح أطلق عليه اسم ( مسرح رمسيس الجديد ) وظلت تعمل حتى انحلت عام 1944.  
ومن المعروف أيضا أن (يوسف وهبى) عاود تكوين تلك الفرقة فى أعوام ( 1947- 1957-1960- 1969 – 1970) وكانت الفرقة تحى فى كل مرة موسما قصيرا من الربرتوار، بالإضافة إلى الاستعراض العظيم الذي يتألف من مشاهد ميلودرامية قصيرة منفصلة مثلته الفرقة عام 1957 وعندما بدأ إرسال التلفزيون المصرى عام 1960 سجل 23 مسرحية من تراث فرقة رمسيس، وبطولة يوسف وهبى.
واقع المسرح المصرى قبل 1923
   كانت أحوال المسرح المصرى في تلك السنة التي أنشأت فيها على غير ما يرام، على الرغم من وجود فرق مسرحية، قدمت عروضا كثيرة من ناحية العدد ومنها فرق (جوق عكاشة وشركاهم " شركة ترقية التمثيل العربي" – التي قدمت في عام 1922 فقط حوالى خمسين مسرحية وفرقة منيرة المهدية التي قدمت أكثر من عشرين مسرحية، وفرقة أمين صدقى وعلي الكسار وقدمت أكثر من عشرين مسرحية أيضا، ثم فرقة جورج أبيض وفرقة الريحانى وجوق الشيخ سيد درويش وعمر وصفى، وجوق أمين عطا الله .... وعدة فرق أخري قدمت عروضا قليلة.
كل تلك الفرق فيما عدا فرقتي ( ترقية التمثيل العربى – فرقة جورج أبيض) انحازت للعروض الهزلية، ولم تهتم  بعنصر التمثيل الذي رآه يوسف وهبي تمثيلا ضعيفا، ولا يستند إلى أسس فنية ، وهو الذي رأى التمثيل الحقيقى في عروض المسرح الإيطالى حين سافر هناك وعاش عدة سنوات. ولهذا السبب أراد إحياء حركة مسرحية (متطورة تنتشل المسرح الجدي من الكساد الذي نزل به، مؤلفا جبهة لمنازلة المسرح الهزلى الذي كان يجتذب الجماهير بترقيص لحية بطله الأول "كشكش بك عمدة كفر البلاص" وتلعيب حواجب وأنف بطله الآخر " بربرى مصر الوحيد " بل كان يجتذب هذه الجماهير التي أضنتها الضائقة المالية، وأحداث ثورة 1919 ثم مهاترات النزاع بين الأحزاب السياسية، بما يقدمه لهم من أطباق شهية من الضحك والتسلية والانبساط يمسح متاعبهم اليومية وهمومهم السياسية) على حد قول (زكي طليمات).
   وحين تنظر إلى النصوص التى قدمتها (فرقة رمسيس ) ستعرف كيف كان يختار نصوصه، وكيف كان حريصا على تأكيد فكرة التنوع، ومن هذه النصوص  المُترجمة ( غادة الكاميليا – لوكاندة الأنس – الشرف – المستر فو – ناتاشا – الجبار– الذهب – المركيز دي بريولا – المرأة المقنعة - اللزقة – فيدروا – السارق – كوخ العم توم -  الطاغية - كرسي الاعتراف) وقدم أعمالا لمؤلفين مصريين منهم (إبراهيم المصرى – محمود عزت – عبد الرحمن رشدى – محمود كامل – صادق حقى- محمد خورشيد – حسن صبري - حبيب جاماتي – زكى صالح) وعدد من النصوص التى اقتبسها أو ترجمها أو ألفها أو عربها (يوسف وهبى) وهي نصوص كثيرة. واهتمام (فرقة رمسيس) بتقديم النصوص المنقولة عن المسرح العالمى، كان بسبب أن يوسف وهبى رأى أن المؤلف المسرحى العربى فى ذلك العهد - وبخاصة حين أطلع على التراث القديم - يفتقر إلى القالب المتقن، ويخلو عمله من الخط الدرامى، وأسلوب الحوار المُعبر، والرسم الواقعى السيكولوجى لشخصيات الرواية، وضعف فى التدرج من البداية إلى الذروة، 
كل تلك الأعمال تكشف دور (فرقة رمسيس) فى تطوير المسرح المصري خاصة، والعربى عامة. فضلا عن تطوير فكرة التمثيل ذاتها ومن هنا أطلق على نفسه لقب (مبعوث العناية الإلهية لإنقاذ فن التمثيل) والسؤال هل كان مغاليا فى إضفاء تلك الصفة على نفسه ؟؟
  بمشاهدة عروضه المسرحية المُسجلة، يتبين لنا صدق ما أطلقه على نفسه من صفة ، وذلك لأنه غيَر في أسلوب الأداء حتى مع نفسه ، واعتمد على طريقة متميزة في التعبير بملامح الوجه، وتبلورت كما يذكر زكي طليمات ( الصورة التى تعكس رؤيته في فن الأداء التمثيلى، وهي صورة ذات ألوان ساخنة، وقلما تلمح ركنا فيها يشكو البرودة والبرد، فالنبر فيها دائما يقظ نشيط، الكلام ينساب أحيانا في يسر ولطف ووضوح، وتارة أخرى يخيل إليك أنك أمام مدفع رشاش ينطلق ويفرقع ولا يعرف فضيلة السكوت)                                                                                           
   ولقد شارك (زكي طليمات) بالتمثيل في العرض الأول للفرقة (المجنون) كممثل بديل لعزيز عيد الذي ترك المسرح وأبلغ مديره بأنه لن يمثل دوره الكبير في الليلة التالية للافتتاح، لسبب تافه وهو أن كهربائي المسرح أهمل في إصلاح " بريزة " كهربائية لمكواته ، ولما علمت السيدة روز اليوسف – وكانت ممثلة بالفرقة – بالأمر اقترحت أن يقوم زوجها ( زكي طليمات) بالدور، وبالفعل استظهره – كما يقول يوسف وهبى – في ساعتين وقام بأدائه بدون أن يلاحظ الجمهور نقصا، وأنقذ الموقف.                                              
  وموقف (عزيز عيد ) كانت له أسباب أخري اكتشفها (يوسف وهبى) وهي أن ظهور فرقة رمسيس أثار حسد ( زكى عكاشة ) صاحب الفرقة التى تحمل أسمه وأخيه، وأيقن أن ظهورها كان بمثابة ظهور فرقة منافسه لها خطورتها وخشي مغبة نتائجها، فحاول إغراء بعض أفراد فرقة رمسيس قبيل الافتتاح، وعرض عليهم أجورا عالية بدون جدوى، لأن أفراد فرقة رمسيس زهدوا القديم العتيق، والعروض التافهة – التي عمادها الطرب – وعدم تطورها. ومن هنا مارس وشايته لدى (عزيز عيد) وأوعز إليه أن ( يوسف وهبي)  قصد إخفاء طريقة أدائه عنه لغرض في نفسه، فصدقه الرجل وترك المسرح ، حتى لا يتم العرض في تلك الليلة، لكن زكي طليمات أنقذ الموقف.. 
 ذلك الأداء المتميز والمُغاير، ليوسف وهبي في عروض (فرقة رمسيس) جاء كاشفا لطبيعة أداء الممثلين فى عهده ومنهم الريحانى، وهذا ما دفع الكاتب المسرحى ( ألفريد فرج ) حين ذهب إلى مسرح رمسيس، وهو مازال طالبا فى المرحلة الثانوية ،  وشاهد أداء يوسف وهبى ليذكر (أننى توهمت أن الريحانى لابد أن يكون أعظم ممثل فى مصر، ولكنى حين شاهدت يوسف وهبى في مسرحية خفايا القاهرة 1930 عرفت أنني كنت واهما، وأن يوسف وهبى هو أعظم ممثل، وقد استحوذ تماما على روحي بمسرحيته المُخيفة التى تتلخص في خروج البطل من المقبرة وعودته للحياة وفزعه من مباذل القاهرة وخفاياها واختياره العودة إلى أحضان الموت)  وأود في هذا السياق أن أوضح، أن وجهات النظر الرافضة لأداء واختيارات (نجيب الريحانى) جاءت تعبيرا عن بداياته، التي قدم فيها هزلا، أشار إليه كثير من النقاد وقتها، واستمر مؤمنا بما اختاره لنفسه  سنوات كثيرة، إلى أن حقق نُضجا جاء متأخرا بعض الشىء، حين حرص على تطوير أدائه واختياراته في ظل المتغيرات الجديدة التي أفرزها الواقع الاجتماعي والسياسى في مصر خاصة في الأربعينيات.  وهذا ما دفع بعض الذين اختلفوا حوله إلى الكتابة عنه بشكل جيد، ومن هؤلاء مثلا (زكي طليمات) والفريد فرج  أيضاً. . 
ملامح التطوير  
    بشهادة (فتوح نشاطى) أحد أعمدة التمثيل العربى، كانت (رمسيس) فى العشرينيات والثلاثينيات نهضة عظيمة للمسرح المصرى وحقبة رائعة، تفجرت فيها مواهب عبقرية في التمثيل والإخراج والترجمة والتأليف، فتألقت وجوه جديدة، وبرزت كفاءات كانت قبلها مغمورة، وأصبح التمثيل مهنة محترمة وفي مقدمة هؤلاء ( روز اليوسف – فاطمة رشدي – زينب صدقي – فردوس حسن – أمينة رزق – حسين رياض – مختار عثمان – أحمد علام – زكى رستم – حسن البارودي – فتوح نشاطى- يوسف وهبى) .                                                                                                                            
 وكان سر نجاح (فرقة رمسيس) هو التطور، والاعتماد على محاكاة الطبيعة، والاهتمام  الكبير بالإخراج  والمناظر والإضاءة، فقد كانت هذا الظواهر جديدة عند محبى المسرح وأهم ما أكتشف النظارة فيها هو احترام وأدب الإصغاء ودقة مواعيد رفع الستار، واقتناع المشاهد بأن المسرح وما يُعرض عليه له قدسيته، وضرورته الثقافية.
   لقد وضع (رمسيس) نصب عينيه أن يُلزم المتفرج بأصول وأسس حرص على أن يحترمها المتفرج، للقضاء على الفوضى، إلى درجة أنه جعل تذكرة الدخول شبه تعاقد، أو شروط يتحتم على من يرتاد المسرح أن ينفذها، فطبع على ظهرها أنه ممنوع التدخين قطعيا – وممنوع اصطحاب الأطفال الأقل من 12 سنة – وممنوع التعليق أو النكات – وممنوع قزقزة اللب – ويتحتم الحضور قبل الموعد المُحدد  لرفع الستار. والعمل على ترسيخ تلك التقاليد، أعطى هيبة للمسرح ، لم يكن جمهوره قبلها على وعي بها .. وكانت الفرقة تقدم المسرحية أسبوعيا، تبدأ يوم الاثنين وتنتهي يوم الأحد، وتقيدت ببرنامج الموسم المسرحى الكامل الذى تنشره فى برامج توزع على المشاهدين، واهتمت الفرقة بالدعاية، بكل وسائلها.                                                                                 
هذا فضلا عن اهتمام الفرقة بالنص المسرحى كما ذكرت آنفا، وتشكيل لجنة لترجمة النصوص، واهتم مسرح رمسيس بالممثل، وأولاه كل الرعاية فنيا، وتنمية قدراته الأدائية بشكل علمي .
 

Dr.Radwa
Egypt Air