الجمعة 26 ابريل 2024

مع «بيرم» عرفت الأغنية مسمى الشعر الغنائي

مقالات10-3-2023 | 17:54

بيرم له عبقريته التي انطلقت من عبقرية العامية المصرية التي انصهر بها وبأسرارها وانصهرت معها شاعريته التي أتت بكل جماليات الشعر إلى كل الأغاني التي كتبها

استهل بيرم أغنية " القلب يعشق كل جميل " بحس عاطفى ومفردات لم يسبق استخدامها ليصف "العشق الإلهى" في قلب قصد بيت الله الحرام ووقف علي بابه في خشوع وصفاء

هناك من يرى أن أم كلثوم أصبحت أكثر قربا من الناس مع كلمات بيرم التى استخدم فيها كل جماليات الشعر ومحسناته وصاغها بأبسط وأسهل وأقرب مفردات العامية المصرية

 

كل من تتبع سيرة شاعر الشعب بيرم التونسى ونشأته ومناهل ثقافته في حي السيالة بالإسكندرية عرف أنه تربي بين ضفتي "الشعر" و"الزجل" فأخد من الأول عمقه وجزالته وأخذ من الثاني خفته وبساطته، وما بين الاثنين اكتسب فصاحته واتساع شهرته، وخلق في أغانيه التي كتبها لمطربين أو في أوبريتاته التي كتبها للمسرح، سمات وخصائص أسست لمسمي" الشعر الغنائى" و " الشاعر الغنائي" وأولها امتلاك القدرة علي قوة التأثير وسرعة الانتشار معا، ومن ثم امتطاء صهوة الإبداع وجودة التوصيل، للملايين من كل شرائح المجتمع والتوارث من جيل إلي جيل فقبل أن يعرف طريقه للعامية التى أصبح رائدها وقبل أن يعتبره المؤرخون هرم الزجل، كان بيرم التونسى في نشأته تأثر بأبى العلاء المعرى وانجذب إلي قصائده التي درسها حين كان تلميذا بالمعهد الديني بالإسكندرية، وحاكاه في لزومياته حيث كتب "لزوميات بيرم" مثل "لزوميات أبي العلاء المعرى" ومعلقات بيرم وتأثر كذلك بأشعار "ابن الرومى" وتعلم منها روح الهجاء، إلي جانب أزجال محمد أفندى توفيق صاحب جريدة "حمارة منيتى" وسخريته ونقده اللازع، وأزجال الشيخ النجار والشيخ القوصي أما زاوية دخوله علي كتابة الأغنية موضوع هذا المقال فقد كان قبلها ثائرا علي وضعها وحالتها -كما هي عادته- وكان يكره أن تكون مجرد نظم لكلمات مرصوصة بلا معنى، ولم يسلم من انتقاداته حتي الثائرين أمثال الشيخ "سيد درويش" في فترة تعاونه مع نجيب الريحاني وقبل أن يستقل عنه، فلم يكن بيرم راضيا عن مستوى أغانر سيد درويش في مسرحيات" كشكش بيه " وانتقده نقدا لازعا ضمن انتقاده لروايات كشكش بيه وأغانيها وألحانها، فى مقالات عده نشرها في مجلات كان بيرم قد أصدرها في بداية مشواره وتم غلقها بسبب قصائده ومقالاته التي نال في بعضها من الملك فؤاد وأسرته، المهم أنه التقي سيد درويش بعد ذلك عام ١٩٢١ حين ترك "درويش" كشكش بيه وأصبح له فرقته الخاصة، وبدأ معا ثورة كبيرة فى تاريخ الغناء المصرى كلاما ولحنا وتوزيعا في أوبريت "شهرزاد" وأغانيها التي شكلت ثورة في تاريخ الغناء المصرى كلاما ولحنا وتوزيعا وقد يستغرب البعض من كلمة" توزيعا" حيث لم تكن الأغنية حينها تعرف فن التوزيع الموسيقى، إلا أنه حدث فعلا من سيد درويش بعد أن حرضته الروح الجديدة في كتابة بيرم التونسي -التي لم تكن مجرد أزجال- علي استخدام التوزيع "البولوفونى" لأول مرة في تاريخ الموسيقى العربية بعد أن تعلم مبادئه علي يد أحد "الطلاينه" ويروى بيرم نفسه أنه قصد أن يدخل مع سيد درويش حالة تحدى في أغانى هذا الأوبريت، ورأي أن سيد درويش بجرأته في هذه الألحان قد انتقم لنفسه أشر انتقام ليرد علي اتهامات بيرم السابقة، والحقيقة أن الاثنين قد دخلا فى تحد مع الاستعمار الإنجليزى الذى أراد أن يرسخ فكرة أن الجيش المصرى جيش ضعيف وأن مصر محتاجة دائما لحمايتهم وبقائهم للدفاع عنها، فكان الانتماء والتحدى محركين لهذا التمرد وتلك الجرأة في أغنية مثل: أنا المصرى كريم العنصرين .. بنيت المجد بين الأهرامين جدودى أنشأوا النيل الخصيب .. ومجرى النيل فى الوادى الخصيب لهم فى الكون ٱلاف السنين .. ويفنى الكون وهما موجودين وأقولك ع اللى خلاني .. أسيب أهلى وأوطانى حبيب أوهبتله روحى .. لغيره ما أميل تانى، أغنية مثل : أحسن جيوش في الأمم جيوشنا ساعة المعارك تعالي شوفنا ساعة ما نلمح جيش الأعادي نهجم ولا أى شىء يحوشنا، وأغنية "اليوم يومك يا جنود" التي مزج فيها بيرم بين العامية والفصحى وأطلق أيقونته الشهيرة " أحيينا سعداء وأمتنا شهداء"، وكذلك أغنية " دقت طبول الحرب" وغيرها من أغنيات كانت نقطة تحول كبرى فى مسيرة الغناء مع مونولوجات لنفس الثنائى الثائر مثل" هتجن ياريت يا إخوانا ما روحتش لندن ولّا باريز" و "ياحلاوة الدنيا" و" يللي تحب الفن وغاوي " و " يا أهل المغنى دماغنا وجعنا" وغيرها وإذا كان بيرم التونسى بلغته الشعرية المراوغة والمراودة قد كان من أوائل من وصفوا الوطن بالحبيب ورمز لهذا بذاك في أغنية أنا المصرى حين قال في نهاية مطلعها " حبيب أوهبتله روحي لغيره ما أميل تانى" ليفرض حضوره وحضور مشاعره وذاتيته، فإننا نجده في أوائل أغانيه الفردية -بعيدا عن المسرح- مع المطرب صالح عبد الحى " ليه يابنفسج" التي غناها عام ١٩٣٠ من ألحان رياض السنباطى يذهب أيضا للرمز بصورته المجازية والإيحائية ليسقط كلامه للبنفسج علي حبيبه ويقول: ليه يا بنفسج بتبهج وأنت زهر حزين العين تتابعك وطبعك محتشم وزين ملهوف وزاهى ياساهي لم تبوح للعين بكلمه منك كإنك سر بين إتنين. هذا إلى جانب الحرفية الشديدة والتمكن في تكرار إستخدام قافيه واحدة مرتين في الشطرة الواحدة مثل: ليه يا بنفسج "بتبهج" و مثل: العين تتابعك "وطبعك" وكذلك: ملهوف وزاهي"ياساهي" وهكذا ليعلى من صوت الموسيقي الداخلية في شعره وإذا عدنا إلي حضور بيرم وغلبة إحساسه الذاتى الذي يصبغه علي أغانيه فسنجد ذلك بجلاء فى أغنية "شمس الأصيل" التي كتبها لأم كلثوم وغنتها من ألحان رياض السنباطى أيضا عام ١٩٥٥ حين يتوحد مع النيل ويقول: يا نيل أنا واللي أحبه نشبهك في صفاك لانت ورقت قلوبنا لما رق هواك وصفونا في المحبة.. مالناش لا إحنا ولا أنت في الحلاوه مثيل.. يانيل والناى على الشط غنى والقدود بتميل على هبوب الهوى لما يمر عليل ويكمل: أنا وحبيبي يانيل نولنا أمانينا مطرح ما يرسي الهوي ترسي مراسينا والليل إذا زاد وطال تقصر ليالينا واللي ضناه الهوى باكى وليله طويل ثم يختم: أنا وحبيبي يانيل غايبين عن الوجدان يطلع علينا القمر ويغيب كأنه ما كان بايتين حوالينا نسمع ضحكة الكروان حتي أن الأدباء والنقاد يحلو لهم أن يعقدوا مقارنة بين حضور بيرم التونسى في أغنية "شمس الأصيل" وحضور أمير الشعراء أحمد شوقى في قصيدة " النيل" التي غنتها أيضا أم كلثوم، ومنهم من يرى أن حضور بيرم بقى فى ذاكرة الناس هو الأقوى مما جعل " شمس الأصيل" هي الأكثر قربا وتماسا مع الناس بل أن هناك من يرى أن أم كلثوم نفسها أصبحت أكثر قربا من الناس مع كلمات بيرم التونسى خلال ثلاثة وثلاثين أغنية استخدم فيها كل جماليات الشعر ومحسناته وصاغها بأبسط وأسهل وأقرب مفردات العامية المصرية، بداية من أغنية "أنا وأنت" عام ١٩٤٣ لحن صالح عبد الحى الذي لحن أغلب أغانيه العاطفية مع أم كلثوم، ثم مروا بأغاني فيلم "سلامة" وفيلم " فاطمة" ثم أغانى( كل الأحبة إتنين إتنين، أنا في انتظارك، إيه أسمى الحب، ٱه من لقاك، أهل الهوى، الأوله في الغرام، الورد جميل، حبيبي يسعد أوقاته، هو صحيح الهوى غلاب، الأمل، الحلم ، ياصباح الخير، البدر نور، غنيلي شوى شوى، الحب كده) وحتي ٱخر أغنية غنتها له بعد وفاته بعشر سنوات وهي أغنية "القلب يعشق كل جميل" والتي استهلها بحس عاطفى ومفردات لم يسبق استخدامها في أغنية دينية تصف "العشق الإلهى" في قلب قصد بيت الله الحرام ووقف علي بابه فى خشوع وصفاء وفرحة ورهبة، حيث أوحت المفردات في البداية أننا أمام أغنية عاطفية حين قالت: القلب يعشق كل جميل .. وياما شوفتى جمال ياعين واللي صدق في الحب قليل .. وإن دام يدوم يوم ولّا يومين واللي هويته اليوم دايم وصاله دوم لا يعاتب اللي يتوب.. ولا في طبعه اللوم ثم يتصاعد بالحالة الشعورية ويفصح عن الحب الإلهى قائلا: واحد مافيش غيره .. ملا الوجود نوره دعانى لبيته لحد باب بيته واما تجلى لى بالدمع ناجيته فكان هذا التناول غير المألوف ولغته اللغة العامة وبساطتهم بإبداع فاق عشرات الأغانى الدينية التي صيغت بالفصحي ومنها ما غنتها أم كلثوم نفسها ولحنها رياض السنباطى نفس ملحن " القلب يعشق" التي بقيت علي رأس القائمة وهكذا ظل بيرم له عبقريته التي إنطلقت من عبقرية العامية المصرية التي انصهر بها وبأسرارها وانصهرت معها شاعريته التي أتت بكل جماليات الشعر إلي كل الأغانى التي كتبها لأسمهان ومحمد عبد الوهاب مثل "محلاها عيشة الفلاح" والتي كتبها لليلي مراد مثل " من بعيد " والتى كتبها لفريد الأطرش مثل ( هلت ليالي، بساط الريح، يلا توكلنا علي الله، أحبابنا ياعين، يلا سوا، مرحب مرحبتين، الليلة نور هل علينا" وحتي أغانيه الوطنية التي كتبها لثورة يوليو التي رأها قد انصفت مصر وانصفته معها من كل ما تجرعه من ظلم حين كرمه الرئيس جمال عبد الناصر ومنحه الجنسية المصرية التى حرم منها رغم أنه مصرى المولد والنشأة والهوية وعن قيمة فن الأغنية عنده وكيف يراها قال بيرم التونسى: الأغنية مدرسة تستطيع أن تعطينا قيما سليمة أو تدس لنا سموما خبيثة فهى أخطر أداة للنشر، والمحزن أنه لا أحد يدرك أو يقدر خطورة الأغنية علي الناس، لا المؤلف ولا الملحن ولا المطرب.

 

Dr.Randa
Dr.Radwa