دائما ما يقدم الأوربيون أنفسهم للعالم على أنهم رواد الحضارة الحديثة وسادة العالم الجديد، بينما باتت تلك السيادة مزعومة ولا تمت للحقيقة بصلة من قبل الكثيرين بعد أن تلاعبت بهم القوى العالمية الجديدة أكثر من مرة من خلال دفعهم دفعا إلى آتون الصراعات الدولية لتحقيق المكاسب على حسابهم، وعلى حساب شعوبهم البائسة التى تتغنى طوال الوقت بالمجد الأوروبي.
إلا أن القارئ للأحداث الأخيرة وتحديداً خلال المائة عام الماضية سيدرك أن اوروبا لم تعد ذلك المؤثر القوى فى العالم الجديد الذى بالفعل تسيطر عليه قوى عالمية جديدة تلعب كل الأدوار العلنية وأيضا من خلف الستار والتى تُستخدم فيها أوروبا استخداماً مباشراً.
إذا استعرضنا أوائل القرن العشرين سنجد أن محنة الحرب الحرب العالمية الأولى مصنوعة صناعة عالمية لتغيير الأوزان النوعية للعالم وأيضاً للتخلص من أزمة مالية طاحنة عالمية ( الركود الاقتصادى العالمى الكبير) والتى خطط العالم الجديد لانهاء سطوة أوروبا والتخلص من دولها كدول عظمى لتتراجع فى التصنيف العالمى الى دول تكافح من أجل البناء.
فازت الدول العظمى الجديدة بنصيب الأسد فى الحرب ويظهر ذلك من خلال النتائج لتلك الحرب ومنها ما يلي: هزيمة القوى المركزيّة (دول المحور)، وتراجع هيبة أربع إمبراطوريات كبيرة، وهي: ألمانيا، وروسيا، والمجر، وتركيا، وإلحاق أضرار جسيمة بالقوى البشرية الأوربية متمثلة فى العسكريين والعلماء والمدنيين وأيضاً القدرة الاقتصادية والبنية التحتية ، حيث كانت الحرب مليئة بالمذابح، والمجازر، والدمار.
الحرب العالميّة الأولى هي نقطة تحوّل كبيرة في التاريخ الجيوسياسي، وتحديداً في القرن العشرين والتى أدت لاندلاع الثورة البلشفيّة في روسيا، زعزعة الاستقرار في المجتمعات الأوروبيّة، وخرجت أوروبا محطمةغارقة فى الديون للمارد الجديد (الولايات المتحدة الامريكية) وتحاول استعادة مجدها وعلى الجانب الآخر نرى المعادلة الامريكية مختلفة حيث تزامنت بداية الحرب في أوروبا مع نهاية ركود 1913-1914 في أمريكا، ارتفعت الصادرات إلى الدول المتحاربة بسرعة خلال السنوات الأربع الأولى من الحرب من 824,8 مليون دولار في عام 1913 إلى 2,25 مليار دولار في عام 1917، كما زادت القروض من المؤسسات المالية الأمريكية لدول الحلفاء في أوروبا بشكل كبير خلال الفترة ذاتها.
ازدهر النشاط الاقتصادي في نهاية هذه الفترة إذ ساعدت الموارد الحكومية إنتاج القطاع الخاص. بين عامي 1914 و1917، زاد الإنتاج الصناعي بنسبة 32% وزاد الناتج القومي الإجمالي بنحو 20% واستمرت التحسينات التي طرأت على الإنتاج الصناعي في الولايات المتحدة بعد الحرب أدى تراكم رأس المال الذي سمح للشركات الأمريكية بتزويد المحاربين والجيش الأمريكي إلى زيادة معدل الإنتاج على المدى الطويل حتى بعد انتهاء الحرب عام 1918.
لتدخل أمريكا الحرب العالمية الأولى فى نهايتها لتزايد على أوروبا المنهكة وبأقل خسائر ممكنة أصبحت الولايات المتحدة سيدة الموقف والدولة العظمى .
فى الحرب العامية الثانية تكرر نفس الموقف مع أوروبا حيث بدت الولايات المتحدة على الحياد خلال المراحل الأولى للحرب العالمية الثانية وغزو ألمانيا النازية لبولندا في شهر سبتمبر من عام 1939، بدأت أمريكا بتوريد العتاد العسكري اللازم إلى الحلفاء في شهر مارس من عام 1941 عن طريق قانون الإعارة والتأجير.
وانتعش الاقتصاد الامريكى المنهار قبل الحرب على حساب أوروبا الى أن دخلت الولايات المتحدة الحرب في السابع من شهر ديسمبر عام 1941، لتجلس من جديد على كرسي قيادة العالم على أنقاض أوروبا المدمرة بينما غيرت الحرب العالمية الثانية الخارطة السياسية والعسكرية والبنية الاجتماعية في العالم، كما أدت إلى إنشاء الأمم المتحدة لتكون ستاراً قانونياً ودولياً لإدارة العالم من جديد من خلال قانون المنتصر حيث أصبحت الدول المنتصرة في الحرب: الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي والصين والمملكة المتحدة وفرنسا أعضاء دائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فيم برزت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي كقوى عظمى على الساحة الدولية، وانحسر نفوذ القوى الأوروبية و الدول الكبرى , فقد تضاءل نفوذها، حيث بدأت حركات الاستقلال في آسيا وإفريقيا.
اتجهت الدول الأوروبية التي تضررت الصناعة فيها إلى إصلاح وضعها الاقتصادي، أما على الصعيد السياسي، تحديداً في أوروبا فقد بدأت مرحلة تكامل سعيًا لتجنب العداوات التي تسبب الحروب، وأن يكون للأوروبيين هوية مشتركة فى محاولة بائسة للتماسك من جديد كقوى فاعلة موجودة على الساحة الدولية والسياسية.
فى حرب الخليج أو ما تعرف بحرب تحرير الكويت حشدت الولايات المتحدة أكثر من 43 دولة لتلك الحرب بينهم بالطبع دولاً أوروبية ( إنجلترا – فرنسا – هولندا – أسبانيا – بلجيكا – النترويج – بولندا – المجر – الدنمارك-....) وأيضاً دولا عربية وبعد نهاية الحرب استفادت الولايات المتحدة بتدمير أكبر قوى عربية عسكرية فى ذلك الوقت لصالح التوازن الاسترايجى فى الشرق الأوسط مما خدم بلاشك حليفتها الدائمة إسرائيل بالإضافة إلى إنشاء قواعد عسكرية لها فى دول الخليج، والفوز بعقود أمريكية مغرية للغاية لإعادة إعمار العراق وحقوق بيع النفط العراقى لصالحها .بالإضافة الى السيطرة على إحتياطيات الذهب العراقية من بنوكها المركزية بينما خرجت الدول الأوربية صفر اليدين عدا إنجلترا التى تحصلت على بعض المكاسب.
فى حرب أوكرانيا وروسيا وفى محاضرة بعنوان "أسباب وتبعات الحرب على أوكرانيا قال جون ميرشايمر (أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو التي يدرس فيها منذ عام 1982) إن أمريكا دفعت أوكرانيا لتبني سياسات والقيام بخطوات شكلت خطراً وجودياً على روسيا) ويرى الكثير من الأكاديميين الأمريكيين بأن أمريكا كان بوسعها تجنيب الطرفين هذه الحرب لو كانت استجابت للمطالب الروسية فى تحويل أوكرانيا لدولة محايدة وعدم ضمها لحلف شمال الأطلسي.
ويرى العديد من الأكاديميين الأمريكيين بأن أمريكا تجاهلت دعوات روسيا المتكررة لتحييد أوكرانيا لتجنب تأجيج الموقف لما وصل إليه اليوم. ويرى أولئك الأكاديميون بأن روسيا لم تطلب شيئا غريبا في عُرف الدول، ودفعت أمريكا أوروبا الى أتون الحرب من جديد بالوكالة عنها، وبدأت الحرب بتقديم الدعم اللوجستى الأوروبى لأوكرانيا إلى أن وصلت للدبابات والمعدات الثقيلة وتورطت اوروبا كالعادة وباتت الشعوب الاوربية تعانى من نقص الطاقة والحبوب والإرهاق الاقتصادى بل والمخاطر العسكرية حال الدخول فى مواجهات مباشرة مع الدب الروسي ليتكرر السيناريو القديم وتخرج الولايات المتحدة من أزمتها الاقتصادية على أوجاع القارة العجوز.فمتى تقرأ القارة العجوز ما يحدث من دروس الماضى وتستفيد .