ربما لا ندرك كثيراً قيمة الكلمة ، وأثرها في حياة الأفراد والمجتمعات ، وربما أيضاً يجهل الكثيرون خطورة الكلمة ظانين أن كلامنا في ذلك من قبيل التهويل الزائد ؛ لأن ساحات الكلام بعد هذا التطور المتلاحق من وسائل التواصل ، وسيادة فكر العولمة والسماوات المفتوحة يجعل من محاولة التفكير في السيطرة على هذه الأبواق ضرباً من المستحيل ، أو هو الجنون عينه ..!
ولأن الكلام نشاطٌ إنسانيٌّ شأنه شأن أي سلوك يُسجَّل في صحائف الأعمال ، ويتم محاسبة قائله يوم القيامة عما قال ، فقد قال الله عز وجل ( ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ) .. ( ما يلفظ ) أي : ابن آدم ( من قول ) أي : ما يتكلم بكلمة ( إلا لديه رقيب عتيد ) أي : إلا ولها من يراقبها معتداً ولذلك يكتبها ، لا يترك كلمة ولا حركة ، كما قال تعالى : ( وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون ) [ الانفطار : 10 - 12 ] . وقد يتكلم الإنسان بالكلمة فلا يدري .. إلى أين به تذهب ..! وأي المسالك ستسلك الكلمة بقائلها ، فقد روي عن النبيّ ﷺ قَالَ: إنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالى مَا يُلقِي لهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّه بهَا دَرَجاتٍ، وَإنَّ الْعبْدَ لَيَتَكلَّمُ بالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ تَعالى لا يُلْقي لهَا بَالًا يهِوي بهَا في جَهَنَّم ( رواه البخاري ).وكفى بهذا الحديث النبوي الشريف مرشداً أصحاب الألسنة أن يتدبروا قبل أن يتكلموا ؛ لأن لسان العاقل وراء قلبه، يحتاط ويحذر.
والقلب هنا إشارة إلى اليقظة والتفكر. بينما الأحمق لسانه أمام قلبه، لا يعنيه تفكيرٌ ولا حذرٌ، ولا تهمه مشاعر أو نتائج؛ فربما بلسانه جرح فلاناً أو آذى ابناً أو زوجاً أو أباً أو أيَّ إنسانٍ ، بل ربما يؤذي نفسه، وربما يخرج من الدين بكلمة ينطقها ، وهو يدري أو لا يدري..!
وفي شأن الكلمة قال تعالى: “أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ” (سورة إبراهيم، الآيات 24–26). والآيات تتحدث بوضوح عما ينبغي أن يكون عليه كلامنا. وشتَّان بين الكلمة الطيبة التي هي كالشجرة الطيبة ذات الأصل الثابت والفروع الممتدة المعطاءة ، وبين الكلمة الخبيثة التي هي كالشجرة الخبيثة لا قرار لها، وسرعان ما تزول وتنمحي بلا أثرٍ نافعٍ لها.
ومن المعروف أن الشعر - في كل الحضارات - خلاصةٌ صافيةٌ للتجارب الإنسانية، ومصدرٌ لتدوين معارف أصحاب هذه الحضارات المختلفة، و هذه الحالة نجدها شديدة الانطباق على الشعر العربي بكل صدق ، فنحن نجد فيه من الحكمة والمعرفة ما يكفي لتثبيت هذه الفكرة، ولهذا كَثُر استخدام مصطلح .. ( الشعر ديوان العرب) من قِبَل النُّقاد قديماً وحديثاً ، وبنظرةٍ سريعةٍ في دواوين الشعراء القدامي والمُحدَثين ؛ نجدهم يدركون قيمة الكلمة ودورها في الدفاع عن القِيَم المطلقة ، رغم ما سقط فيه البعض من مهاوي الرذيلة أفعالا وأشعاراً ، إلا أنهم سرعان ما يثوبون إلى رشدهم فهذا أبو نواس الشاعر الذي عاش ألوان المجون كيف استعاد ذاته ، وتاب إلى ربه قائلاً :
أنا العبد المقرُّ بكل ذنبٍ وأنت السيد المولى الغفور
فإن عذَّبْتني فبسوء فِعْلي وإن تغفرْ .. فأنت به جدير
وقد وُجِدتْ هذه الأبيات في الفراش الذي مات فيه أبو نواس: يا رب إن عظمتْ ذنوبي كثرةً فلقد علمتُ بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ فبمن يلوذ ويستجير المجرم وأثناء تجوالنا الإسبوعي في حديقة الشعر الأفريقي وارفة الظلال ، راقت لي قصيدة رائعة تحمل اسم ( الإبداع ) للشاعر الأنغولي" أوغستينو نيتو " والذي قدمنا له قبل ذلك قصيدة سابقة ( لا تطلب من أن أبتسم ) ... يبتدئ ( أوغستينو نيتو ) قصيدة " الإبداع " بجملة محورية هي " أريد أن أبدع " ولا يخفى عليك قارئي العزيز مافي الجملة من القصد والإصرار على أن يستجلب الشاعر كلَّ مواهبه وفنونه؛ لتصحب إرادته وقصده ، وتتكرر هذه الجملة المحورية في مداخل المشاهد الثلاثة التي تكوَّنتْ منها القصيدة : في المشهد الأول نرصد مواجهته للجرائم المرتكبة بحق البيئة من تدنيسٍ وحرمانها من أهم عناصرها الجمالية التي تستولي على العيون بشموخها وعلى الأرواح بروائح ثمارها وتوفر ملاذا آمنا لحيواناتها البرية وطيورها يرافق هذه القسوة بالطبيعة قسوةَ استخدام السياط مع الإنسان والحيوان على حدٍّ سواء ...وفي المشهد الثاني يجعل الشاعر إبداعه مواجهاً التعذيب بالسخرية ، ودافعاً للذين يعانون من التسلُّط إلى الثبات والتصدِّي لأهل البطش يدًا بيدٍ ! ، وفي المشهد الثالث الأكثر إيجابيةً لإبداعه فبه سيزرع الحرية ، والحب الطاهر ، ورغم مواكب الباذلين أرواحهم المتأرجحة أجسادهم على أعواد المشانق ... بإبداعه حتماً ستنتصر الحياة ، ورغم ما في القصيدة من رومانسيةٍ تذكِّرنا برائحة جماعة أبوللو خاصة أبا القاسم الشابي شاعر تونس الخضراء إلا أن " أوغستينو نيتو " لم تكن رومانسيته سلبيةً ، بل كانت سبيلاً لتغيير ما حوله انتصاراً لِقِيَم الحق والخير والجمال .. والآن إلى براح القصيدة : أريد أن أبدع ... أن أكتب عن تدنيس الغابات ... وعن عبير الأشجار المقطوعة وعن قسوة السوط الذي لا يخجل ! أريد أن أبدع .. ساخراً من التعذيب والجلد ..
غارساً الصلابة في الضعفاء .. وموقظاً القوة ضد القوة .. والثباتَ في الدم المتردِّد ! أريد أن أبدع .. أن أزرع الحرية في طرقات العبودية .. والحب في دروب الحب المدنسة ..!
وفوق الأجساد المتأرجحة على المشانق .. أريد أن تنتتصر الحياة !