تخَطّت الرِّقاب المُجتَمعة حَولَ عَتبِة البَيتِ القَديم ، فتاة نَاهِد في ثَوبٍ زاهٍ رخَيص ، تَدكّ الأرضَ تَحتَ كعبيها النَحيفين ، دَلالةَ استعجاٍل وجِدّية ، عصبت رأسها بمنديلٍ أبيض ، تتراقص ضفيرتان رفيعتان فوقٍ كتفيها المكتنزينِ، شَخَصت لحظتها العيونُ في خُشوعٍ ذَاهلة ، تَسرَّبت هَمهمة خفيفة سُرعان ما تصَاعدَ بُخار أحاديث عفوية تستطلع حالَ المريض ، شَقَّ المكان صوت عجوز متُهالك ، افترشَ المصَطّبة كان قد استَخفَّه البكاء للحظاتٍ ، قبل أن ينطق في نبَرةِ تأَسٍ :" هي وصلت للحاجة الساقعة ، عليه العوض !"، في عَصبيةٍ ضَربَ الأرضَ بعكازِه مُنصرفا ، يُخايِلُ وجهه المُغضِّن وجوم، سَادَ صمتٌ قاتل اكتفت فيه العيون بنظراتٍ باردة ، تَفيُض بالتوترِ ، ترتجفُ أكواب الشاي في الأيدي ، تتلمظ الحنوك تسحب بصوت عالٍ ، تتكرر رشفاتها في نَغمٍ فَاضح لشِفاه ظمأى.
وعلى العتبةِ جَلست القُرفصاء عَجوزٌ مُسنة ، يرُاوح القلقُ بين جنَبيها ، دارت نصف وجهها اليابس بطرفِ خمارها الباهت ، ترمى بعينها الكليلة داخل البيتِ ، لتُعيدها في استسلامٍ دامعة ، ما أكثرَ الصِّغار الذين تراصوا كالدُّمى إلى جوارِ الحَائطِ ، يحَكّون ظهورهم فيها في تَشاكسٍ عَفويّ ، تنفلت ضحكاتهم المُتَهورة سهوا ، تُلجمها زمجرة شيخ اعتمد عصاه يذرعُ الأرضَ يكتم شكواه ، يهمسُ بنبرة ٍمختنقة ، وقد اشتد بهِ الوجيب :" لطفك يا صاحب اللطف "، وعلى مقربةٍ منه تلاحقت أنفاس مكروبة ، وبكاء مكتوم ، ودعوات تهتفُ ضارعة ، وشهقات في حشرجةٍ مخيفة ، تلتمس لنفسها النجاة لجَسدٍ هَزيلٍ تَمدّد في صُفرة ٍ وهُزال ، فوقَ حَصيرٍ باَلي ، تَدور عَيناُه كما الغَريق يَستنَجدُ من حوله ، قبالته تراصّ نسوة كاسفات ، غير واحدة تطوعت لترفع رأسه المعروق عن حاشيةٍ بالية ؛ تُذِيقه من زجَاجةٍ جرعات " الكولا" قطرات تبل صداه .
بعد قليلٍ غَصّت الدار بزوارها من كُلّ صنفٍ ، وخيم شبح الموت يتراءى مُتَبجِّحَا في جَنباتِ المَكانِ ، غَرقَ البيتُ في سُكونٍ خَانِق لا يَقطعه غير نباحِ كلبٍ عجوز تمدّد أمَام العتبةِ ، فجأة تبعثرت الدار في دويّ صَيحةٍ كبرى ، مُعلنة انتهاء أجلِ المريض المُسجّى ، انفلتت امرأة في عَقدها الخامس تلطم وتندب في تَوجّعٍ مُؤلم تنثر من قطع قلبها ، ساعتها تحرّرت روح الفقيد من إسارها ، حامت في المكانِ قبل أن تتناوب الأيدي حملَ الجَسدَ في رحلتهِ الأبدية ، ألقت بنظرةِ مُواساةٍ على صغارٍ تسربلوا في ثيابِ اليُتمِ والفقر ، ليس لهم بعد الله من كافلٍ ، غيرَ الحُقولِ تسعهم ، كما وسعت آلافا مثلهم من الأُجَراء .