بقلم – جمال أسعد
بيوت الله التى يقام فيها الصلوات له سبحانه سواء كانت معابد يهودية أو كنائس مسيحية أو مساجد إسلامية يجب أن تكون عنوانًا ومكانًا للعبادة لله فقط..
فلا يوجد بها غير ما يساعد على الصلاة والتواصل مع الله وما يعمق علاقة الإنسان بالله، لا يجب لأماكن العبادة أن يشغلها مباهج الحياة أو غرورها، لا يجب أن تسعى لجلب المال والحصول عليه بطريق لا يليق ولا يصح ولا يتوافق مع قيم الدين وأهدافه وجلاله، ولذا قد وجدنا السيد المسيح فى يوم أحد الشعانين، وقد كان له احتفال كبير أثناء دخوله أورشليم، وبالرغم من أن شخصية السيد المسيح تعرف بالهدوء والسماحة والتواضع والمحبة فلم يكن غضوبًا البتة، ولكن وبالرغم من هذه الصفات وتمتعه بتلك السمات فعندما وجد باعة اليهود يعرضون سلعهم ويتاجرون ببضائعهم فى الهيكل وهو بيت العبادة، ومكان الصلاة.. .. وجد السيد المسيح رجلا آخر يغير على الهيكل وجلالة وموضعه.. فقام بصنع سوطًا من حبال وقلب موائد الصرافة وكراسى باعة الحمام وأخذ يضربهم بسوطه ويطردهم من الهيكل قائلًا لهم ولأمثالهم فى كل زمان وكل مكان «بيتى بيت الصلاة يدعى وأنتم جعلتموه مقارة للصوص».. وقد كان ذلك التصرف غير المعتاد من السيد المسيح يهدف إلى تعليم وتأكيد عدة قيم ومبادئ يجب الالتزام بها والتمسك بها.. فبيوت الله مكان للعبادة وليست مكانًا لجمع المال أو الانشغال بأى شىء آخر مع العبادة فى مكان العبادة.. كما أن السعى وراء المال والانشغال به لا يصح ولا يليق فيقول الإنجيل: «المال أصل لكل الشرور إن ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وضربوا أنفسهم بأوجاع كثيرة»، ويقول أيضا «سهل أن يدخل جمل من ثقب الإبرة على أن يدخل غنى ملكوت السموات»، والغنى هنا من يتكل على غناه ولا يتكل على الله.. كما أن الإنجيل حدد لكل مجال فللدين مجال للعالم والتزاماته مجال آخر فيما يخص تداخل أدوار ما يسمون برجال الدين لقيصر (الإكليروس) فقال «أعطوا ما لقيصر وما لله لله» أى أن مجال الله له رجاله ولقيصر رجاله حتى يستطيع كل منهم أن يؤدى دوره فى مجاله بشكل حسن دون تداخل أو تدخل والجميع يجب أن يعملوا حسب إرادة الله ومشيئته بلا تناقض.. هنا لماذا هذا الكلام ولماذا تلك المقدمة؟ ذلك لأن هناك ظاهرة غريبة وعجيبة وغير مسبوقة فى تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية المتكلة دائما على الله.. هذه الكنيسة التى كانت وما زالت تضحى بالروح والنفس تمسكًا بالعلاقة مع الله فهى لم تكن أبدًا مهتمة بمال ولا تجارة لأنها تعتمد على الله.. كانت الكنيسة طوال تاريخها يميزها البساطة والتواضع تهتم بالجوهر لا بالشكل لم تضع الكنيسة المال فى حسابها لأن عملها وتجارتها ليس فى المال وجمعه، ولكن فى خلاص النفوس.. لم تكن تهتم بالمبنى ولكن عملها المعنى، لا يعنيها المادة، ولكنها تسعى إلى الروح.. فماذا حدث إذن؟ ففى الوقت الذى لم يجد فيه البابا كيرلس فى يوم من الأيام مرتبات العاملين بالكاتدرائية المرقسية بالقاهرة، وقد قام الرئيس عبدالناصر بالتبرع بمبلغ لمعالجة ذلك الموقف.. لم تنهر الكنيسة لأنها لا تعتمد على مال فالمال يأتى به الله بطرقه الواسعة وبأساليبه المتعددة، التى تفوق قدرة البشر.. ولكن مع ذلك كانت الحياة الروحية فى أعلى درجاتها وفى أعظم حالاتها حتى وصف عهد البابا كيرلس بعهد الازدهار الروحى.. ذلك لأنه إما الله أما المال «لا يستطيع إنسان أن يعبد إلهين إما الله إما المال».. ولكن من الواضح تاريخيا ولأن البابا شنودة لم يكن مكتفيًا بدوره الروحى فقط ولكنه كان يسعى إلى دور سياسى وقد كان.. وكما قلنا ونقول دائما لايصح للكنيسة أن تتدخل أو تهتم بأى دور آخر غير دورها الروحى.. ولذا قد وجدنا الكنيسة التى من الطبيعى إنجيليا أن تعتمد على تبرعات الشعب حسب «خادم الإنجيل من الإنجيل يأكل» أى أن معاش رجال الدين وما تحتاجه الكنيسة فى أى شىء يكون من تبرعات الشعب..
فهذه التبرعات التى تعطى للكنيسة ليست منحة أو منة من الشعب، بل هى تعطى كنوع مقابل بركة روحية ودور على الشعب لابد أن يقوم به كل حسب قدرته المالية، ولكن البابا شنودة لأنه اهتم بأشياء أخرى غير دوره الروحى قد اعتبر أن عطايا وتبرعات الشعب لا تليق به، ولكن يجب أن يستغنى عن هذه البركة الإنجيلية بدخول أخرى مادية حتى أنه قال «انتهى العهد الذى يمد فيه البابا يده للشعب»، ولذلك وعلى ذلك وجدنا هناك ظاهرة غريبة ومريبة قد ظهرت بداية فى الأديرة ثم انتشرت فى معظم الكنائس على مستوى الجمهورية.. وهذه الظاهرة هى قيام الأديرة والكنائس بإقامة المشروعات الصناعية والزراعية والتجارية من كل الأنواع وشتى الأصناف وكل الطرق اللائق منها وغير اللائق فى الأديرة والكنائس بطريقة لا تليق بدور العبادة وبيوت الله وجلال المكان المقدس حتى أصبحت مقولة السيد المسيح لائقة وتليق بكل هؤلاء الذين حولوا بيت الصلاة إلى مغارة للصوص.. فهل يليق أن نجد فى الأديرة والكنائس كل شىء وأى شىء يباع وبأسعار مغالى فيها تحت بند الضحك على البسطاء من الشعب وكأنهم عندما يشترون هذه السلع من الأديرة والكنائس فهذه بركة روحية ودينية وليست بضائع تجارية وسلع استهلاكية.. فهل يليق بهذه الأماكن المقدسة أن تبيع السلع وتتحول إلى سوبر ماركت، فهناك كل ما يخطر على عقل، سلعًا تموينية ومنتجات ألبان ومخبوزات حتى الأطعمة المنزلية بصارة وطعمية ومش وجبن ونابت وملوحة وفسيخ وفريك ولحوم ودجاج وأوز وبط، بل وصل الأمر لوجود كوافير فى بعض الكنائس.. فماذا يعنى هذا؟ هذا تداخل لا يليق بالكنيسة والأديرة فى الدور الروحى والدور التجارى.. فالدور الروحى يسمو ويترفع على المال والتجارة، أما الدور التجارى والربحى فهذا طريقه لا يتوافق بل يتناقض مع الدور الروحى.. كما أن هذا اللعب بعواطف الشعب والضحك عليهم وللأسف باسم الدين مصدرين للشعب أن الشراء من الكنيسة أى شىء وكل شيء، فهذه بركة، بل الأخطر بأن هذا واجب دينى.. الشىء الذى يؤكد ويؤسس ويكرس الفزز الطائفى فالمسيحيون يشترون ويتعاملون على الكنيسة، والمسلمون مع المسجد، وهنا يصير الفزز الطائفى طبيعىًا فى المجتمع، فالمسيحى لايتعامل بيعًا وشراءً مع غير المسيحى والمسلم كذلك، وعلى الوطن السلام.. ناهيك على أن البيع يتم بأسعار تصل إلى حد يحتاج إلى المحاسبة أى لا أحد يستطيع أن يدعى أن هذه المشروعات، وتلك التجارة هى خدمة للشعب.. الأهم أن هذه المشروعات، وتلك السلوكيات المرفوضة وغير اللائقة بالكنيسة تكون على حساب أصحاب المشروعات الصغيرة وغير القادرين، الذين يتعايشون من هذه المشروعات، حيث إن هذه الكنائس تغلق الباب على هؤلاء التجار الصغار، حيث إن المسيحى لاشك سيفضل الشراء من الكنيسة عن الشراء من أى تاجر آخر مسيحى فما بالك بتاجر مسلم.. فى الوقت الذى يدفع فيه حتى التاجر الصغير ضرائب ورخصًا وتأمينات ورسوم نظافة وسجلًا تجارىًا وكهرباء ومياهًا وأجور عمال كل هذا لا تدفعه الكنيسة ولا الأديرة، بل تتهرب منه ولا نعرف هنا قانونية هذا السلوك؟ هنا نريد أن نقول يجب أن نفصل بين تلك المشروعات، وهذه الممارسات غير للائقة وبين تلك الخدمات الأخرى، التى تقدم للشعب خاصة المستوصفات الطبية والتى تقدم بأسعار معقولة بالنسبة لما يتم فى الأوساط الطبية.. ولكن يجب أن تتم هذه الخدمات من جانب منظمات العمل الأهلى بشكل عام حتى لا يحدث فرزا عن طريق جمعيات إسلامية وأخرى مسيحية.. فهل تلك المشروعات جاءت لسد حاجة الكنائس للمال؟ بالطبع لا.. لأن التبرعات، التى تغدق الآن على الأديرة والكنائس من الداخل ومن الخارج فاقت الحدود والواقع يقول ذلك ولا مزيد من التوضيح.. إذن لا مبرر لهذه المشروعات فى الأديرة والكنائس حيث إن الأديرة هى للرهبان، الذين تركوا العالم وماتوا عنه وارتضوا الفقر الاختيارى، وهذه بعض شروط الرهبنة، التى ارتضاها الراهب منذ البداية ناهيك عن تلك الأملاك والأراضى التى تمتلكها الأديرة الآن، والتى تفوق احتياجات هذه الأديرة وهؤلاء الرهبان فهل هم ماتوا عن العالم بالفعل؟ ولماذا تسعون إلى هذا السعى المادى والتجارى؟ وإذا قالوا هذا سيعود بتبرعات للشعب.. نقول بأن دور الكنيسة لمساعدة المحتاج لا ولن تكون بالتجارة، ولكن من تبرعات الشعب لهؤلاء المحتاجين، وهذه هى وصية السيد المسيح.. كما أن القانون الكنسى، وهذا هو الأهم فهو يلزم أى شخص تكرس لخدمة الرب ألا يشرك مع الرب عملًا آخر.. حيث إن إكليروس تعنى أنه أخذ واختار الرب نصيبًا له فى الحياة دون أى شىء آخر تجارة أو غير تجارة.. وهنا يقول الإنجيل «تركونى أنا ينبوع الحياة الحى (الله) ونقروا لأنفسهم آبارًا آبارًا مشققة لا تضبط ماء»، وهى المال وحبه والتجارة وجشعها، فهل هذه الممارسات تليق يبيت الله؟ ولماذا نترك تراثًا وممارسة وقانونًا وإنجيلا يدعو للروح والاهتمام بالإنسان لكى نسعى ونهتم بالمال والماديات على حساب الروح والروحيات؟ هذا ليس دور الكنيسة فالكنيسة لها رب يحميها ويوجد لها كل احتياجاتها بعيدًا عن المظهر والأبهة والفخفخة، فلا تنسوا أن السيد المسيح قد ولد فى مذود يقر حتى يعلمنا التواضع، ومن له أذنان للسمع فليسمع.