بقلم: د. نادر نور الدين
أستاذ المياه والأراضى بجامعة القاهرة
منذ أن طرح وزير الري السابق الدكتور حسام مغازي مشروع ربط بحيرة فيكتوريا بالبحر المتوسط في مصر، والمتخصصون في الموارد المائية وجريان الأنهار يتساءلون عن مدى جدوى هذا المشروع، وعن كيفية تنفيذه، فنهر النيل واحد من أصغر أنهار العالم في تدفقاته المائية رغم أنه النهر الأطول في العالم إلا أنه نهر خالٍ من المياه أو قليل المياه جدا، فهو ليس مثل نهر الأمازون الذي يطلق عليه النهر المحيط أو النهر البحر من الكم الهائل لتدفقاته المائية والتي تبلغ ٥٥١٨ مليار متر مكعب سنويا
وتستطيع السفن البحرية من فرط عرضه وعمق المياه فيه أن تدخل إليه من المحيط وتعبره وبالتالي يكون لها دور فعال في نقل البضائع من داخل البرازيل ثم تسير عبر النهر ومنه إلى المحيط إلى الدول المصدر إليها البضائع البرازيلية وما أكثرها، أو مثل نهر الكونغو بتدفقاته البالغة ١٢٨٤ مليار متر مكعب في العام، وإنما لا تزيد تدفقات نهر النيل على ٨٤ مليار متر مكعب سنويا. فلا وزير الري السابق مقترح المشروع ولا خليفته وزير الري د محمد عبد العاطي الموافق على المشروع، أعطونا تفاصيل عن المشروع ولا كيفية تنفيذه ولا كيفية عبور العراقيل الكثيرة والعديدة التي تعترض مجرى النهر الضحل والضعيف، ولا حديث عن كيفية عبور السدود المقامة عليه أو الشلالات العديدة وعددها ستة على الأقل في مجرى النيل الأبيض فقط بخلاف مانطلق عليه الجنادل أي منطقة زاخرة بالصخور الصعبة والتي تعبرها مياه النهر بلا عمق وتكون المياه فيها سطحية للغاية ومندفعة بين الصخور، وهي أشبه بالشلالات في خطورتها ولكنها سطحية وغير عميقة ولكنها مدمرة لأي مركب أو صندل أو سفينة تعبرها.وحتى نناقش المشروع بموضوعية سنشرح للقارئ دول بحيرة فيكتوريا ومنابع النيل الأبيض حتى يمكن تصور جدوى المشروع ومشروعيته للتأكد من جدواه خاصة وأنه سيكبد مصر مليارات الدولارات التي ينبغي أن نتأكد أنها ستكون في موضعها الصحيح بلا تسرع.
تتكون منابع النيل الأبيض من ست دول وهي من أقصى الغرب دولة الكونغو الديمقراطية وهي أكبر دول قارة إفريقيا ومنابع النيل وتطل على المحيط الأطلنطي المتصل بعد ذلك شمالا بالبحر المتوسط وأيضا مباشرة بدول غرب أوربا ودول الأمريكتين الشمالية والجنوبية، ولا يربطها بنهر النيل إلا نهر السمليكي الذي يصب في بحيرة ألبرت وليس لها أدنى علاقة ببحيرة فيكتوريا بل أن بينها وبينها أوغندا جارتها اللدود التي تطل على فيكتوريا وتشاركها بالنصف تقريبا في بحيرة ألبرت وبينهما ماصنع الحداد خصوصا بعد اكتشاف البترول في بحيرة ألبرت وبداية الصراع بين الدولتين بالإضافة إلى دخول الجيش الأوغندي عدة مرات إلى شرق الكونغو واحتلالها لمناطق عديدة فيه واتهامها لقبائل الكونغو بإحداث قلاقل وإضرابات وجرائم في أوغندا بما يلزمها التدخل العسكري من وقت لآخر في شرق الكونغو. وبجوار دولة الكونغو توجد ثلاث دول حبيسة لا موانى بحرية ولا محيطية لها وهي رواندا وبروندي وأوغندا، حيث تبدأ منابع النيل الأبيض فعليا والمتجه إلى بحيرة فيكتوريا من بروندي ورواندا ولكن هذه الدول لا تطل أيضا على بحيرة فيكتوريا فهي حبيسة مزدوجة لا مواني بحرية أو مواني نهرية لها على بحيرات المنابع وإنما تتجه أنهارها وأكبرها نهر “كاجيري” إلى دولة تنزانيا المجاورة ومنها إلى بحيرة فيكتوريا والتي تصنف كأكبر بحيرة مياه عذبة في القارة الإفريقية من ناحية المساحة فقط وثاني أكبر بحيرة في العالم بعد البحيرات الكبرى التي تفصل بين كندا والولايات المتحدة وبها شلالات نياجرا الشهيرة حيث تبلغ مساحة بحيرة فيكتوريا نحو ٦٩ ألف كيلو متر مربع وطولها من الشمال إلى الجنوب نحو ٤١٢ كيلومترا وعرضها من الشرق إلى الغرب ٣٥٥ كيلومترا ، وتقع على منسوب ١١٣٤ فوق مستوى سطح البحر ويتراوح عمق المياه بها بين ٤٠ إلى ٨٠ مترا، ويبلغ حجم المياه بها ٢٧٦٠ مليار متر مكعب، وتقع ٤٩٪ من مساحتها في تنزانيا
و ٤٥٪ في أوغندا و ٦٪ فقط في كينيا، ولكن واقعيا فإن أكبر بحيرة بها مخزون للمياه العذبة في إفريقيا وصاحبة أكبر عمق هي بحيرة تنجانيقا المجاورة لبحيرات منابع نهر النيل الإستوائية وإلى الجنوب الغربي منها، وتطل عليها بوروندي وتنزانيا والكونغو. ومن بين الدول الثلاث التي تطل على بحيرة فيكتوريا دولتان غير حبيستين وهما تنزانيا التي تطل على المحيط الهندي عبر ميناء دار السلام الشهير ثم كينيا وتطل على نفس المحيط عبر ميناء مومبازا ومعه أيضا ماليندي ولامو.
ومن هذا الشرح نجد أن دول منابع البحيرات الاستوائية العظمي ترتبط عبر موانئ المحيط الهندي في تنزانيا وكينيا بالبحر الأحمر ومنها مباشرة إلى دول قارة آسيا واليابان أو عبر قناة السويس ومنها إلى البحر المتوسط ودول جنوب أوربا وصولا إلى غرب أوربا. كما أن نفس الدول ترتبط عبر موانئ الكونغو الديمقراطية بالمحيط الأطلنطي ومنه إلى دول أمريكا الجنوبية والشمالية أو مباشرة أيضا إلى دول غرب أوربا ثم إلى البحر المتوسط عبر مضيق جبل طارق ودول جنوب أوربا ولا يتبقى إلا دولة جنوب السودان وعليها أن تختار للتصدير عبر ميناء بور سودان في جارتها الشمالية اللدود التي انفصلت عنها أو عبر تنزانيا أو كينيا أو الكونغو. الغرض من هذا الشرح توصيف الموقع الجغرافي ثم بيان الموانئ البحرية والمحيطية الضخمة التي تنقل البضائع أو ناقلات البترول عبر البحار والمحيطات العميقة وأن هذه الدول وعبر مسافات قصيرة إلى جيرانها في تنزانيا وكينيا أو في الغرب إلى الكونغو وهي بالتأكيد أصغر وأقل كثيرا من المسافة إلى مصر في أقصى الشمال الشرقي ومنها إلى البحر المتوسط. ولذلك فهناك عدة أسئلة مشروعة قبل إنفاق هذه المليارات من الدولارات على المشروع ينبغي الانتباه إليها أولا والإجابة عليها قبل البت في المشروع أو إحالته إلى المكاتب الاستشارية الدولية لبحث المسار والجدوى الاقتصادية وهذه الأسئلة هي:-
على طول مسار النهر من مصر وحتى بحيرة فيكتوريا منبع النيل الأبيض يوجد ستة شلالات وخمسة سدود في مصر السودان وأوغندا وهي السد العالي في مصر وسدي ميروي وخزان جبل الأولياء في السودان ثم سدي أوين (جالوبالي) و”كييرا” في أوغندا على مخرج بحيرة فيكتوريا وبداية خروج نهر النيل من البحيرة عبر نهر أعالي فيكتوريا فكيف سيتم التغلب عليها أو المرور من خلفها عبر مجرى جديد.؟
أن النهر بعد خروجه من بحيرة فيكتوريا عبر نهر فيكتوريا الأعلي يصل إلى بحيرة كيوجا وهي بحيرة سطحية المياه تغمرها الحشائش على مدار العام ولا يزيد بها عمق المياه عن ٤ إلى ٨ أمتار فقط وفيها يفقد نهر النيل جزءا كبيرا من مياهه بسبب الحشائش المائية وورد النيل ونباتات البردى وغيرها ثم يخرج منها النهر مرة أخرى من جهة الغرب ضعيفا ومنهكا عبر نهر يسمى فيكتوريا الأدني وهو أيضا نهر سطحي المياه والعمق متجه صوب بحيرة ألبرت في أقصي غرب أوغندا، والتي تستقبل أيضا في نفس الوقت نهر السمليكي القادم من الكونغو من جهة الجنوب ثم يبدأ أول ظهور للنهر بعد أن يخرج من شمال بحيرة ألبرت عبر نهر معتدل يسمى نيل ألبرت، ومن الواضح أنه حتى الآن لم يظهر اسم “النيل” على أنهار منابع البحيرات العظمى. بعد ذلك يدخل نيل ألبرت إلى دولة جنوب السودان عبر مدينة نيميل الحدودية مع أوغندا ويتغير اسمه إلى «بحر الجبل» فيصطدم بمنطقة شاسعة معدومة الانحدار ومستوية فيفترش النهر مساحات شاسعة مكونا أكبر مستنقع للمياه العذبة في العالم يسمى مستنقع الصد Sudd أو الحائط ويصل فيه عمق المياه ما بين متر ومتر ونصف ويختفي تماما نهر النيل ولا يعد له أي وجود في هذه المستنقعات.
فعندما يختفي النهر في جنوب السودان فكيف سيتم حفر مجرى جديد للنهر وسط المستنقعات وهو نفس مشروع قناة جونجلي الصغيرة والتي اقترحت أيام حكم الرئيس أنور السادات لاستقطاب مياه المستنقعات والتي تفقد نحو ٣٠ مليار متر مكعب من المياه سنويا حيث سيتم استقطاب ٤ مليارات في المرحلة الأولي ثم ٧ مليارات في المرحلة الثانية واحتمال الوصول بمشقة إلى المرحلة الثالثة والتي يرفضها تماما الجنوبيون لاستقطاب ١٧ مليار متر مكعب من مياه المستنقع، وهو ما سيتطلب حفر مجري جديد للنهر ويكون عريضا وعميقا وسط المستنقع الذي تبلغ مساحته ٥٧ ألف كيلومتر مربع وبطول ٣٢٠ كيلومترا وبعرض ٢٤٠ كيلومترا؟؟! وما أصعب الحفر وسط هذا الوحل والمياه التي تصل إلى متر ونصف عمقا كما سبق، وقد تعاقدت مصر في أوائل الثمانينات على ماكينة تسمي «الدلو المتحرك Bucket wheel” التي يمكنها الحفر داخل الوحل وكلفتنا وقتها نحو مليون دولار ولن تتكلف حاليا أقل من مليار دولار، وربما يستمر عملها لسنوات طوال لعبور المستنقع السوداني الجنوبي.
الحفر في أوغندا وجنوب السودان والسودان يتطلب الحصول على موافقات صريحة من هذه البلاد وربما موافقة برلماناتها؟! وربما أيضا موافقة برلمانات خارجية للدول التي قامت بتدمير ماكينة الحفر الألمانية التي تعاقدت عليها مصر من قبل ثم قلّبت القبائل الجنوبية ضد مصر وحكومتها متهمين إياها بأنها تستولي على مياه مستنقعات الجنوبيين وخيراتها لتحرمهم من آلاف الأطنان من الأسماك سنويا ومراع وأعلاف طبيعية لازمة للثروة الحيوانية التي تعتبر رأس مال للجنوبيين وبالتالي فهم دائما ما يتساءلون عن العائد الذي يمكن أن يعود إليهم من جراء نقل مياههم إلى الشمال وإلى المصريين وحرمانهم من هذه الثروات وبالتالي فالأمر سيكون شديد الصعوبة في التفاوض مع دولة جنوب السودان لإعادة حفر قناة جونجلي بل وأكبر منها لعمل نهر جديد أعمق وأعرض يسمح بمرور السفن والصنادل ذات الحمولات الكبيرة والغاطس الأكبر، وصعوبة موافقة القبائل هناك على هذا الأمر مضحين برأس مالهم من الثروة الحيوانية التي هي مصدر تفاخر وعزوة وقوة بين القبائل ويستخدمونها في الزواج والتجارة وغيرها. ثم يأتي السؤال:هل هذا الممر المائي سيكون كبيرا ويتسع لمرور سفن البضائع الكبيرة التي تسير في المحيطات والبحار أم مجرى صغير لمرور الصنادل النيلية فقط؟ فالسفن الكبيرة تتطلب مجري مائيا عريضا وعميقا فمن أين نأتي له بالمياه لتملأه وتدفقات النيل الأبيض حتى مصر لا تزيد على ١٥٪ فقط من مياه النيل البالغة ٨٤ مليار متر مكعب يأتي ٨٥٪ من إثيوبيا (٧٢ مليار متر مكعب)ومن النيل الأبيض نحو ١٢ مليار متر مكعب في السنة؟! وحتى لو أضفنا إليه مايفقد في مياه المستنقعات في جنوب السودان بحجم ٣٠ مليار متر مكعب في السنة فسيكون الإجمالي نحو ٤٢ مليار متر مكعب من المياه في السنة أي بمعدل تدفقات يومية مقدارها ١١٥ مليون متر مكعب يوميا وهذه لا تملأ أبدا نهرا عريضا وعميقا ويسمح بمرور سفن كبيرة أو صنادل نيلية كبيرة أو تنقل بضائع من وسط إفريقيا إلى شمالها وبتكاليف اقتصادية فنهر النيل ليس هو نهر الأمازون ولا قريبا منه؟!
ماهي البضائع المستهدف نقلها من الدول الحبيسة معدومة المواني مثل السودان الجنوبي وأوغندا ورواندا وبروندي على وجه الخصوص إلى موانى البحر المتوسط في مصر وأيضا بالعكس من مصر إلى هذه الدول؟! هل هي خضراوات وفاكهة أم بترول أم منتجات صناعية وكهربية؟! فإذا كانت بترولا فهو ينقل عبر خطوط مواسية أو عبر نقالات بترول محيطية ضخمة!! وهل تصدير هذه الدول لمنتجاتها عبر مواني جيرانها مثل الكونغو التي تربطهم بالمحيط الأطلنطي ومنه إلى البحر المتوسط وأوربا أو عبر كينيا وتنزانيا إلى المحيط الهندي ومنه إلى دول البحر الأحمر ودول آسيا، وأيضا إلى دول أوربا عبر قناة السويس، سيكون أرخص وأقرب من التصدير عبر القناة المقترحة وأكثر في الجدوى الاقتصادية أم أن العنتريات تأخذنا منذ زمن وزير الري السابق الذي وقع على وثيقة بأن لدينا مياها جوفية تكفي لري ١.٥ مليون فدان في الصحراء ولمدة ١٠٠ سنة على الأقل ثم أنكر وزير الري الحالي هذا الأمر وقال إن مالدينا من مياه لا يكفي لري ٢٦٪ فقط من هذه المساحة المقترحة للاستصلاح؟! ثم ألا يكفينا ما أوصلنا إليه هذا الوزير من مباحثات مع إثيوبيا بشأن سد النهضة وتمكنهم من الأمر حتى أصبح أو كاد يصبح أمرا واقعا دون أن تضمن مصر حصتها من المياه ولا أن تتعهد إثيوبيا كتابة بذلك؟!
هل يمكن أن تكون خطوط السكك الحديدية وسيلة مقترحة للربط بين مصر وببين دول أعالي النيل الحبيسة (أوغندا ورواندا وبروندي وجنوب السودان) أسرع وأرخص للربط بين بحيرة فيكتوريا ومصر مرورا بأوغندا والسودان الجنوبي والسودان ومثلها أيضا الطرق البرية السريعة؟!.
التكلفة الكبيرة والبالغة تقديريا حتى الآن والتي قد تتضاعف واقعيا عند التنفيذ بنحو ٢٢ مليار دولار هل تتحملها مصر فقط أم بالمشاركة مع هذه الدول؟! ثم أليست تكاليف ربط نهر الكونغو بالنيل التي تبلغ ٢٠ مليارا أولى وفي نفس الوقت تسمح بالتوسعة والتعميق المطلوب للنهر وتمد مصر ودولتي السودان بنحو ١٠٠ مليار متر مكعب من المياه أرخص وأجدى وأطول عمرا وتأثيرا؟!. مطلوب مؤتمر صحفي من وزير الري الحالي وخبرائه ليوضح ويشرح المشروع وأهدافه ويجيب على هذه التساؤلات من المتخصصين. قبل أن ننفق مليار دولار أولا على المكتب الاستشاري الذي سيبحث المشروع وبالتأكيد سيقرر عدم جدواه الاقتصادية لفقر نهر النيل في المياه التي تجري به، وسطحية عمقه وقلة عرضه، فمصر في ظروفها الاقتصادية الحالية بحاجة إلى هذا المليار دولار التي ستنفق دون جدوى اقتصادية، أو ٢٢ مليارا ستنفق في مشروع لن يغطي هذه التكاليف أبدا.
خريطة عامة لنهر النيل من المنبع وحتى المصب