الجمعة 3 مايو 2024

لاأحدَ يفتح الباب لي...!

مقالات3-5-2023 | 11:19

كثيرون مَنْ نلتقي بهم كل يومٍ ، وهم يعلنون احتياجهم إلى الوحدة ، ويجاهرون مراراً بحاجتهم الملحَّة في قضاء بقية أيامهم مستمتعين بعزلتهم ، وهذا يناقض أهم حقائق الحياة ، وهي أن الإنسان يستحيل أن يحيا منفرداً ولو كانت جنَّة الله سكناه ، ألم يخلق الله سبحانه وتعالى أبانا آدم عليه السلام وكان من حكمته أن يخلق له حواء ؛ لتكون أنيسة وحدته وحبيبة قلبه تجعل لحياته معنى يعيش من أجله ، قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) ، تحقيقا لمراد الله عز وجل ؛ فآدم وذريته خلفاء لمن مضى قبلهم في أرض الله، ممن يعلمهم الله ، وليس لدينا أدلة قاطعة في بيان من كان هناك قبل آدم وصفاتهم وأعمالهم سوى ما قالته الملائكة : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ ) ، لكنَّ جعْلَه خليفةً يدل على أن هناك مَنْ قبله في الأرض ، وهو يخلفهم في إظهار الحق، وبيان شريعة الله التي شرع له ، وينهى عن الفساد فيها ، وهكذا حكمت الملائكة على آدم وذريته من بعده قياساً على سلوكيات من سبقونا في سكنى الأرض .!!                                                             

ولأن حكمة الله اقتضت أن عمارة الأرض لن تتأتَّى إلا باجتماع ذريَّة آدم ؛ لتبادل المنافع وتكامل المصالح ، والتي تتنافى مع رغبة البعض في العزلة ؛ فما كل هذا التنوع والاختلاف إلا مثلما أراد الله عز وجل أن يكون تكاملاً، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ) ؛ ولذلك كان من المستغرب أن نسمع مثل هذي الدعاوى الراغبة في العزلة الداعية إلى الانطواء ؛ ولذلك يرى المهتمون بالصحة النفسية أن الوحدة والعزلة أقسى شعورٍ يمكن أن يجلب الحزن والكآبة للإنسان ، ونادراً ما يحافظ الإنسان على إيجابيّته وفاعليّته في الوقت الذي يعاني فيه مرارة الوحدة أو الانفصال عمّن يحب ؛ ولكن قد نجد البعض يروِّج لفكرة استحباب الإسلام للعزلة اعتماداً على حديثٍ مذكورٍ ثابتٍ في الصحيحين ( عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ أَىُّ النَّاسِ أَفْضَلُ فَقَالَ : رَجُلٌ يُجَاهِدُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ » قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ « مُؤْمِنٌ فِى شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللَّهَ رَبَّهُ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ ) . وقد استدل بهذا الحديث من ذهب إلى استحباب العزلة وتفضيلها على مخالطة الناس، ولكن التحقيق أن الأصل هو تفضيل المخالطة على العزلة، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ) . "رواه الترمذي وابن ماجه "، وفي مخالطة الناس من المصالح والأجور العظيمة ما لا يوجد مثله في العزلة.                                                                   

ودوما يدهشنا الشعراء بقصائدهم التي هي أشبه بمرايا صادقة تعكس ما يدور في النفس البشرية من مشاعر متضاربة ، وفي تأثير الوحدة سأتوقف من باب التركيز أمام قصيدتين ؛ الأولى للشاعر الكبير " نزار قباني " بعنوان ( رجل وحيد ) ، وكعادته في الكثير من قصائده يجعل الأنثى نافذته المفضَّلة، فهو يبدأ قصيدته باعتراف مثير دال على ارتباك مشاعره رغم ذهابه إليها كقطَّةٍ مذعورةٍ إلا أنه لا يعرف ما يريد ، ولا أين يقضي ليلته أو يسند جبهته ويسألها :( ألديك كبريت وبعض سجائر..!! ألديك أي جريدة ماهَمَّ ما تاريخُها.. كل الجرائد ما بها شيءٌ جديد !! ) حالة من الارتباك النفسي تجعله لاهثا للتواجد مع شخص ما واصفا نفسه بجملة متكررة ( إني دائما رجل وحيد .!! ) هو يعترف أن مطالبه ليست بيولوجية ( أنت ادخلي نامي سأصنع قهوتي وحدي ، فإني دائما ..رجل وحيد !!) وهاهو تغتاله الطرقات وترفضه الخرائط وتقاطعه رسائل الأحبة ؛ حيث يحارب وحدته من خلال استغراقه في احتساء قهوته وتدخين سجائره ، ولترقد هذي الأنثى غير آبهةٍ بوجوده مثلما يعلن ( لا تقفلي الأبواب خلفك..إن أعصابي يغطيها الجليد ) قد قتلته الوحدة ، وجمدت مشاعره ..!!

أما القصيدة الأخرى فهي للشاعر التنزاني " إيوفراز كيزيلاهابي " بعنوان ( افتح الباب ) وهي على النقيض من قصيدة " نزار قباني " الذي حاول أن يقطع وقت الوحدة في صرف ذهنه عنها متحركا في تحقيق التواجد مع الآخر ليأنس بالتواجد المكاني ، إلا أن الشاعر التنزاني تبدو أزمته في ذاته ...فهو يعاني وفقط داخل زنزانةٍ للوحدة بابُها من ورق ...!! وقد أنهكتْه الوحدة فلم تحمله قدماه لعبور هذا الباب الواهي ... هو يعترف بتعاميه وفراره بدسِّ رأسه في الرمل ،وينتظر مساعدة مَنْ حوله فيكرر جملةً دالةً على قلَّة حيلته ( لا أحد يفتح الباب لي ) ، شاعرنا هنا حبيس ضعفه ولذلك جاءت القصيدة منغلقة لم تتطرق إلى دائرة أوسع ، مع أنها كانت فرصة جيدة ليناقش الشاعر ألم الوحدة من خلال منظور إنساني ..!! فإلى ( افتح الباب ) والشاعر التنزاني " إيوفراز كيزيلاهابي " :                         

إني أختنق وأعرق داخل هذي الغرفة ... أشعر أني سجين الوحدة !!!

لاأرى أية نافذة هنا والآن أمامي باب من ورق ...أدق بيدي برأسي وكتفي .. يئن الباب قليلا لكن لا أحد يفتح الباب لي ...                                                                                                 ذراعاي متعبتان ... رأسي متعَبٌ ... وكتفاي متعبتان ...   برأسى الذي كرأس نعامةٍ في الرمل أدق من جديد لكن لا أحد يفتح الباب لي                                                                                      أشعر بالدوار أخور كبقرة في مذبح : افتح الباب ... هذا الباب افتحْ ... لكن لا أحد يفتح الباب لي!!!

Dr.Randa
Dr.Radwa