الإثنين 29 ابريل 2024

بيرم التونسى أمير شعر العامية.. الذى عمل حمالًا بفرنسا


د.أمير الشبل

مقالات11-5-2023 | 18:47

د.أمير الشبل

● أول قصيدة كتبها بيرم كانت إعلانا صارخا عن بزوغ شمس شاعر كبير يستطيع أن يؤثر ويحرك مشاعر المصريين بالتعبير المبدع عن قضايا يعانى منها الجميع
● رغم قسوة الحياة والعمل لساعات طويلة كان بيرم يكتب أزجالاً ويرسلها إلى جريدة "الشباب" بالقاهرة مقابل أن يسلم صاحبها ثمنها لأسرته حتى تستطيع العيش
● لم تسترح السلطات الفرنسية لكتابات "بيرم" الساخرة في سوريا فقررت نفيه إلى بلد في شمال إفريقيا، فتسلل من ميناء بور سعيد إلى داخل مصر بمساعدة أحد البحارة

إنه "محمود محمد مصطفى بيرم الحريرى – وشهرته "بيرم التونسى".. الشاعر المصرى، الذى ولد في 23 مارس 1893 لعائلة ذى أصول تونسية، عاشت فى حى السيالة- الأنفوشى- بالإسكندرية، ولم ينل الجنسية المصرية إلا عام 1954.. ولكنه كان مصريا عقلا ووجدانا.. ثقافة وبيانا.. وكان أقسى عقاب  له "نفيه وإبعاده عن مصر". 

يعد "بيرم التونسى" من أشهر شعراء العامية.. بل أشهرهم، وأوفرهم ألقابا، وأغدقهم إنتاجا، وأكثرهم تنوعا فى مجالات الأدب التي كتب فيها.. وأيضا المهن المختلفة التى عمل فيها.. على مدار حياته لتأمين لقمة العيش له ولأسرته. ولكن بجانب معاناته من قسوة الحياة.. كان من أكثرهم مشاكسة في أصحاب السلطة "الحكومة والعائلة المالكة". 

حياته.. تعاسته، والأشغال التي مارسها

التحق فى طفولته بالكتاب؛ ولكن سرعان ما كره الدراسة لقسوة الشيخ معه؛ فأرسله والده إلى المعهد الدينى، حيث أقبل بشغف على تعلم دروسه، ولكنه انقطع عن الدراسة عندما توفى والده، وأصبح الرجل المسئول عن البيت وأمه وأخته الوحيدة فعمل في "تجارة أبيه"، ولكنه لم ينجح فى ممارسة التجارة.

استولت زوجة أبيه على المنزل، وأعمامه على تجارة والده، فعمل "صبيا في محل بقالة"، وعندما تزوجت أمه عمل مع زوج أمه في "صناعة  هوادج  الجمال". وبعد وفاة والدته انتقل للعيش مع أخته من أبيه.. وعن هذه الفترة القاسية يقول "بيرم": ابتدأت حياة من الضياع، فقد انتقلت للإقامة مع أختى لأبى المتزوجة من خالى، وكانت تعد عليّ الأنفاس والحركات والسكنات وتضيق ذرعًا بأية خدمة تؤديها لي.

يصف "بيرم" جزءًا من معاناته فيقول: "تعاقبت عليّ المحن الثقال مع الليالى الطوال فأخذت المجاعة بخناقى وخناق الأطفال وتلقيت وحشة الاغتراب ونكد المرض وفقدان الأوطان والإخوان وضراوة المجاعة في بيت لا يؤنس بقايا الآدميين فيه إلا الأنين والدموع والأنفاس اللاهثة"

قصيدة كانت سببا فى شهرته .. وأخرى سببا فى نفيه

كان "بيرم" شديد الالتصاق والتأثر بقضايا المجتمع المصرى، فكتب بسخرية لمست بسهولة قلوب وعقول المصريين فأحدثت فارقا في تفهمهم وتفاعلهم مع القضايا المطروحة.. كتب عن سقطات العائلة المالكة كما كتب عن الثورة، كتب عن سلبيات الحكومة والبيروقراطية كما كتب عن المجتمع، كتب عن السياسة والاقتصاد كما كتب عن التشرد والطعام، كتب عن المنفى كما كتب عن الوطن، كتب عن المرأة والحب كما كتب عن الحرب. 

أول "قصيدة" كتبها كانت إعلانا صارخا عن بزوغ شمس شاعر كبير يستطيع أن يؤثر ويحرك مشاعر المصريين بالتعبير المبدع عن قضايا يعاني منها الجميع. فوجئ يوما أن المجلس البلدى يحجز على بيته، ويطالبه بمبلغ كبير كعوائد عن سنوات لا يعرفها، فانفعل كمدا وغيظا وشعرا، ورفع راية الاستنكار والسخرية ضد المجلس البلدى بقصيدة قال فيها:

يا بائع الفجل بالمليم واحدةً/ كم للعيال وكم للمجلس البلدي

كأن أمى بلَّ الله تربتها أوصت/ فقالت: أخوك المجلس البلدى

أخشى الزواج فإنْ يوم الزفاف أتى/ يبغي عروسى صديقى المجلس البلدى

أو ربما وهب الرحمن لي ولداً/ في بطنها يدعيه المجلس البلدى

نشرت جريدة «الأهالى» القصيدة بصفحتها الأولى، فكانت أول قصيدة تُنشر لبيرم، وطبعت من العدد أربعة آلاف نسخة، فانتشرت فى أهل الإسكندرية كالنار في الهشيم فحفظوها ورددوها، وتُرجمت لموظفي المجلس البلدى الأجانب ليفهموها.. لم يكتف بيرم بنشرها في الصحيفة، بل أصدر كتيبًا يتضمنها، وطبع مائة ألف نسخة سعر الواحدة خمسة مليمات، وهنا بدأ يتخذ مهنة الأدب وسيلة للرزق، واستمر فى إصدار كتيبات صغيرة بها مختلف الانتقادات الاجتماعية الساخرة.

وعندما تجرأ وكتب يسخر وينتقد الأسرة المالكة بقصيدة "البامية الملوكى والقرع السلطانى" وهاجم زوج الأميرة فوقية بنت الملك فؤاد (محافظ القاهرة) بمقالة "لعنة الله على المحافظ".. فصدر قرار بنفيه إلى تونس" وفى أزجاله قال:     
البامية فى البستان تهز القرون/ وجنبها القرع الملوكى اللطيف

والديدبان دايــر يلم الــزبون/ صهين وقدم وامتثل يا خفيف

وقال أيضا:

سمع حكاية بعدها هأهأ/ زهر الملوك في الولد أهو طأطأ

مالناش قرون كنا نقول مأ مأ/ وناكل البرسيم بالقفة

سلطان بلدنا حرمته جابت/ ولد وقال سموه بفاروق

فاروق فارقنا أمال بلا نيلة/ دى مصر مش عايزالها رذيلة

بيرم والمنفى

تم نفيه عدة مرات.. الأولى إلى تونس حيث لم يستطع ممارسة العمل في الأدب والسياسة ولكن عمل "كعامل في المحال التجارية". لم يستطع "بيرم" الصمود فسافر من تونس إلى فرنسا.. حيث قاسى الجوع والتشرد والمرض جراء ضألة الأجور والأعمال الشاقة وغير الصحية التي عمل بها.. فقرر العودة إلى مصر وقام بتغيير اسمه في جواز سفره الجديد الحامل ختم السفارة البريطانية وعاد متسللا إلى مصر عام 1922 ليجد زوجته هجرته وتطلقت منه غيابيا عن طريق المحكمة. بعد عدة أشهر اكتشفت السلطات دخوله مصر متسسللا فقبض عليه ونفوه لفرنسا ثانية يوم 25 مايو1923م. يقول بيرم عن النفى الثانر والحسرة تقتله: رجال السياسة لم يشعروا بوجودى، ولكن شعر بي الزملاء من أهل الأدب، فقاموا بإبلاغ السلطات عنى.

الأعمال التى مارسها في فرنسا

هناك بدأ رحلة من الأعمال الشاقة بمصاحبة الجوع والمرض فعمل "حمالا في مارسيليا" ثم "عامل فى مصنع للحديد والصلب بليون" ثم في "شركة للمنتجات الكيماوية" فتأثرت رئته بالغازات الكيماوية، ومرض وأدخل المستشفى. بعدها عمل فى مصنع للحرير الصناعى بجرينوبل، فعاوده المرض وأدخل المستشفى مرة أخرى وطالت إقامته ففصلوه من العمل.

تجلت معاناته من المنفى وحنينه إلى وطنه في أعماله الأدبية. ورغم قسوة الحياة والعمل لساعات طويلة كان يكتب أزجالاً ويرسلها إلى جريدة "الشباب" بالقاهرة مقابل أن يسلم صاحبها ثمنها لأسرته حتى تستطيع العيش. 

كتب "بيرم" فى باريس كتابين: "السيد ومراته فى باريس" عن ابن الحارة المصرية عندما يسافر لفرنسا مع زوجته ويصطدما بمظاهر الحضارة الحديثة.. والثاني "السيد ومراته فى مصر" حيث يصف ما يحدث لسلوكهما بعد عودتهما من باريس إلى شبرا؟ 
شعلة الأمل بداخله للعودة إلى مصر.. لم تخمدها معاناته الشديدة.. فكان حريصا على مقابلة أى شخصية مصرية مهمة تزور فرنسا ويطلب منها إيجاد أي وسيلة للعودة إلى مصر.

من فرنسا إلى تونس ولبنان وسوريا

قامت فرنسا بطرد الأجانب في عام 1932 فتم ترحيل "بيرم" الى تونس. وتنقل عام 1938 بين لبنان وسوريا حتى طلب منه الزجال "رمزي نظيم" من بيروت.. الكتابة لجريدة "الصاعقة" فكان أول زجل بعنوان "غانديدى" وقال فيه:

السلام لك والسلامة/.. من هنا ليوم القيامة

يا اللي أظهرت الكرامة/.. بعد عهد المرسلين..

لم تسترح السلطات الفرنسية لكتابات "بيرم" الساخرة في سوريا فقررت نفيه إلى بلد في شمال إفريقيا. وفي 8 أبريل1938وقفت باخرته فى "ميناء بور سعيد" فاستطاع أن يتسلل إلى داخل مصر بمساعدة أحد البحارة.. 

عندما وصل "بيرم" إلى القاهرة كان "الملك فاروق" يحكم مصر.. وكانت انتخابات البرلمان الجديد، فقدم "الفنان سليمان جميل" التماسا إلى القصر، وصدر العفو عنه. 

من شهر مارس1950 بدأ يكتب الأزجال لدار أخبار اليوم.. وبداية عام1952 انتقل للكتابة في "جريدة المصرى".. قامت ثورة يوليو1952وانفعل لها بيرم التونسى حبا وسعادة بزجل قال فيه:

العيــد ده عيــد عليــه القيـمــة/ ما فيهشى تشريفه ولا تعظيمه

صابحين وأعراضنا أقله سليمة/ والقيد محطم والأسير متحرر

مرمر زمانى يا زمانى مرمر

صوت المدافع كان زمان يرعبنى/ كأنها متسلطة تضربنى

بقت المــدافع كلهــا تطــربنى/ من كل طلقه سامع الله اكبر

مرمر زمانى يا زمانى مرمر

وبعد صدور قانون الإصلاح الزراعى قال:

قضيت يا فلاح حياتك في سواد العيش..

ولبسك الخيشة ويا ريتك تطول الخيش..

شوف ضربة الجيش أعادت حقك المغصوب.

انتقل "بيرم" للعمل فى جريدة "الجمهورية" بعد حصوله على الجنسية المصرية عام1954. 

فبدأت أزجاله تنضح بالوطنية والقومية العربية.

بيرم التونسى والفن والفنانين

الفنان "عزيز عيد".. قابله "بيرم" فى فرنسا وبصحبته زوجته الفنانة "فاطمة رشدى" حيث طلب من "بيرم" تأليف مسرحية مقتبسة من نص أجنبى تحت اسم 'الف ليلة وليلة' مقابل عشرين جنيهًا كمقدم. بعد ذلك أخبره "عزيز عيد" أن المسرحية حققت نجاحا كبيرا، وطلب منه أن يترك أى أعمال أخرى ويتفرغ لكتابة المسرحيات.. فكتب له مسرحية أخرى بعنوان 'عقيلة'.

الملحن "زكريا أحمد".. قابله "بيرم" فى باريس ووعده بمحاولة إعادته للقاهرة.. 

أمير الشعراء "أحمد شوقى".. عندما قرأ الزجل الذى كتبه "بيرم" لصحيفة "الفنون" المصرية 

يا بنت البلد لمى هلاهيلك/.. والبرقع اللى انخرم ويا خلاخيلك..

ما شفت زيك سجين ساكت ومتاوى/.. غلبت أقول للرجال خلوا المرة حرة. 

قال عن بيرم: "هذا زجل فوق مستوى العبقرية".. وقال: "لا أخشى على الفصحى غير من عامية بيرم"

بيرم وكوكب الشرق.. عبر "بيرم" عن صمود بورسعيد امام العدوان الثلاثي عام1956 فكتب:

صوت السلام هو اللى ساد واللي حكم/.. ثلاث أمم يا بورسعيد متقدمة

بدبابات وطيارات تملا السما/.. ما تقدموش في بورسعيد ولا قدم

فغنتها "أم كلثوم" ومن وراءها كل الشعب المصرى.. وبعدها غنت له العديد من أغانيها الرائعة مثل: "آه من لقاك" و"الأوله في الغرام" و"حبيب قلبى" و"أنا وأنت" و"هو صحيح الهوى غلاب" والرائعة "القلب يعشق كل جميل".
بعد تعاونه مع "كوكب الشرق" غنى له "فريد الاطرش"، و"أسمهان"، و"شادية" و"محمد فوزى" و"محمد الكحلاوى"، و"نور الهدى". كما قدم للإذاعة عدة أعمال منها حلقات "بنت السلطان" و"بنت بحرى" و"عزيزة ويونس"  و"سيرة الظاهر بيبرس"

و"فوازير رمضان". 

بيرم والعقاد.. قال عنه.."كان عبقريا بلا مراء "..

بيرم والعالم "مصطفى مشرفة.. قال عنه "أديب شرقى يصل في نبوغه إلى مستوى أى أديب أو شاعر أوربى شئت من الدرجة الأولى".

مجالات الأدب والفن المختلفة التي كتب فيها

كتب بيرم الزجل، والشعر بالعامية، والشعر بالفصحى، والأغنية، والموال، والمقالة.. وكتب للصحافة وللمسرح، والإذاعة، والسينما. كما كتب "بيرم والمقامات" ثلاثة أجزاء }الباريسية والفنوغرافّية والمنزولجية{.
وقالوا عنه..

الشاعر "بيرم التونسي" (23مارس 1893- 5 يناير1961).. "أمير شعر العامية" و"سلطان الابداع" و"عمدة الأدب الشعبى" و"شاعر الفقراء المنفى والمطارد دومًا"  و"هرم الزجل" و"موليير الشرق" و"من زجَّال متمرد إلى زجل الابتهالات الدينية". 
تقديره ووفاته.

لم يمر عام على تقدير الرئيس جمال عبد الناصر له بمنحه "جائزة الدولة التقديرية" في الأدب والفن عام1960 حتى رحل عن الدنيا مايو1961 في القاهرة.. بعد أن عاش حياة مضطربة ما بين النفى لمدة ثمانية عشر عاما من مصر لتونس وفرنسا وسوريا ولبنان والسنغال وبين قسوة التشرد والجوع والمرض والخوف حتى عودته واستقراره فى مصر تاركا إرثا أدبيا وفنيا كبيرا وتجربة حياتية خاصة جدا..

Dr.Randa
Dr.Radwa