السبت 20 ابريل 2024

لكي يبدع عمالنا كاليابانيين

مقالات16-5-2023 | 09:51

● العامل المصرى القديم هو من أنتج ما خلفته الحضارة الفرعونية من آثار نتفاخر بها ونتعجب ومعنا العالم بما تحمله من إبداعات وفنون سابقة لعصرها
● مازال لعمالنا أثرهم فى كل دروب حياتنا، فلو استعرض كل منا شريط يومه سيدرك أنهم موجودون فى كل تفصيلاته بشكل أو آخر
● بنيت اليابان الجديدة باستيعاب أفكار وتقنيات ونظم أجنبية على أسس يابانية عتيقة، على عكس ما يحدث ببلدان أخرى حيث تعنى الحداثة بالنسبة لهم هدم التراث ومعاداته

تحيا المجتمعات وتتقدم بعقول مُفكريها وسياسات قيادييها وقدرات إدارييها وجهود فلاحيها وإبداعات عمالها وفنون تجارها، فبهؤلاء تقوم الحياة وتنتعش، وإن كانت الدولة تقوم أُسسها أصلاً على الزراعة والصناعة والتجارة ثم أثناء مضيهم بالطريق تنشأ السياسة والقضاء والجيوش وغيرهم من مكونات الدولة الحديثة.
ومن هنا تبرز أهمية الصانع والزارع والتاجر وإن كان ينبغى على الكل المساهمة فى تسيير قاطرة الحياة دون تمييز أو تفضيل مُخل، فالمجتمعات أوسع رحابة من تقسيم كارل ماركس لها لطبقتى العمال و أصحاب وسائل الإنتاج، كما أن التاريخ لا يفسره فقط العامل الاقتصادى والصراع بين العمال والمستغلين لهم تماماً كما أنه ليس من الحتمى أن يسير التاريخ نحو هدف لا محيد عنه هو حكم الطبقة الكادحة، دون أن يعنى هذا موقفاً مناوئاً أوابتعاداً عن الانحياز لطبقة العمال فى مواجهة محاولات استغلالهم من قبل رأس المال سواء أكانت فردية أم جماعية لأن العمال ببساطة لا يملكون شيئاً سوى قوة عملهم وعرقهم، فهم يعملون بالأجر فى قطاعات الإنتاج والتوزيع والخدمات ليخلقوا ربحاً ينبغى أن يحصلوا على حقهم العادل منه دون بخس أو إجحاف.
مكانة عمالنا
ولطبقة العمال مكانتها بحياتنا كمصريين فقد ساهموا عبر التاريخ فى رسم ملامحها بطريقة أو بأخرى بإنتاجهم وإبداعاتهم على نحو لا تخطئه عين ، فالعامل المصرى القديم هو من أنتج ما خلفته الحضارة الفرعونية من آثار نتفاخر بها ونتعجب ومعنا العالم بما تحمله من إبداعات وفنون سابقة لعصرها.
والصانع المصرى هو من استجلبه السلطان سليم الأول لتفرده وتميزه لينقل خبراته لعاصمة الدولة العثمانية، فالسلطان سليم بعد أن استقر له الأمر بالقاهرة جمع رؤساء الصناعات ونقلهم للآستانة لينشروا فيها فنونهم وإن كان عاد وفقاً لرواية المؤرخ بن إياس وأمرهم بالعودة للقاهرة لكنهم ماطلوا وفضلوا الإقامة باستانبول فأرغمهم السلطان سليمان القانونى عشية صعوده على العرش على العودة فى موقف ربما لو درسناه لأزلنا استفهامنا المتكرر عن سبب ميل مبدعينا  الحقيقيين لهجرنا.
والعامل المصرى من أجدادنا هو من حفر قناة السويس التى كانت ومازالت أحد أهم روافد دخلنا القومى بعد أن تحمل  أعباء فائقة حيث السخرة والعطش وشغف العيش والمرض والموت، فقد كان العاملون فيها بحسب ما نشرته صحيفة standard الإنجليزية  وقتها (يسحبون سيراً على الأقدام لبورسعيد وقد ربط بعضهم ببعض كالجمال أو مثل قطعان العبيد  فى أفريقيا التى يسوقها تجار الرقيق).
والعامل المصرى فى عصرنا هو من صنع بعرقه رفاهة العيش بكثير من البلدان العربية متحملاً قدراً غير يسير من الصعاب المادية والنفسية ليوفر لنفسه دخلاً غير متاح بأرضه وليصنع لبلدنا رافداً مُعتبراً من روافد دخلها من النقد الأجنبى، وإن كان هذا عاد على نسيجنا الاجتماعى والاقتصادى بتشوهات جمة ناهيك عما مثله من نزيف للأدمغة والمهارت.
هكذا وعبر التاريخ كان ومازال لطبقتنا العاملة رصيدها الضخم  فى حياتنا، فيكفى أن أكبر ثلاثة مصادر لدخلنا القومى حتى الآن من صنع أيديهم فما بين سياحة تقوم فى غالبها على آثار خطها العامل المصرى القديم، وقناة سويس حفرها عمالنا من الأجداد، وتدفقات نقدية من العملة الصعبة يجلبها عمالنا أمس واليوم توفر مصر جزءا مُعتبرا من احتياجاتها. 
إبداع سياسى
أيضاً كان لطبقتنا العاملة  دورها فى حياتنا السياسية، فعبر  الغالب من أحداثها  كان عمالنا دوماً حاضرين كثيراً بالإيجاب وأحياناً بالسلب، فهم من شكلوا مع الطلبة وقود انتفاضة عام 1919 ومظاهرات فبراير 1946 التى أسقطت اتفاقية (صدقى – بيفين) وأوقفت مفاوضات النقراشى مع الاحتلال الإنجليزى، وبعدما قامت حركة الجيش عام 1952 حاولوا التدخل فى مسارها فدفعوا أثماناً غالية بكفر الدوار.
لكنهم لم يتوقفوا عن النضال رغم الصعوبات وعمليات الاستقطاب والتهميش والتهويش، فكانت احتجاجات يناير 1977 وأحداث المحلة بأبريل 2008 التى يعدها البعض البداية الحقيقية لثورة يناير 2011، تاريخ مُعتبر من الحراك العمالى السياسى لا يشوبه سوى بعض السلبيات المتناثرة هنا أو هناك على نحو ماكان، حينما أُستُغل بعضهم عام 1954 فى وأد بعض الرغبات الديموقراطية .
المعدن والمتغيرات
هذا هو العامل المصرى الذى وصفته عام 1856 صحيفةl,isthme de suez  الفرنسية فى مقال نشرته تحت عنوان (استخدام العمال والفلاحين دون سواهم فى تنفيذ أعمال قناة السويس) وهى تبين أسباب تفضيلها له عن نظيره الأوربى فى العمل بحفر قناة السويس بأنه يتسم بالجلد وقوة الاحتمال والصبر والقدرة على متابعة العمل المضنى فى الجو الصحراوى الحار.
وقد ظل كذلك عبر السنين محتفظاً بجلده وصبره وقدرته على التعلم والتطور حتى جاءت ستينيات القرن العشرين فأبدع بالتصنيع وأنتج ماوفر لنا مقومات أحلام فى دخول عالم الصناعة الحديثة لكن بكل أسى جاءت سياسات السبعينيات وما تلاها لتقضى عليها وتبددها.
والآن مازال لعمالنا أثرهم فى كل دروب حياتنا، فلو استعرض كل منا شريط يومه سيدرك أنهم موجودون فى كل تفصيلاته بشكل أو آخر، صحيح أن صحيفة شكوانا منهم تزداد وصحيح أننا نطالبهم بالمزيد لننتج ما يعيد بعض التوازن لميزاننا التجارى بزيادة صادراتنا وتخفيض وارداتنا لكن هذا لاينفى بالقطع جهودهم وأثرهم وتضحياتهم.
كل مافى الأمر أن حجم ونوعية ما تنتجه  أيديهم صناعياً الآن لايتناسب  مع مقوماتنا وقدراتنا وطموحاتنا، خاصة إذا ما قارنا أنفسنا بدول بدأت رحلتها الصناعية معنا ككوريا الجنوبية مثلاً، وإن كان هذا لايعنى انعدام ومضات الضوء هنا أو هنالك، فمجتمع بحجم مجتمعنا يصعب أن يندر فيه الضوء مهما كانت الظروف، لكن الإشكالية فى حجمه وقوته فالسؤال هو هل منجزاتنا الصناعية تكفينا وتناسبنا أم انها مجرد شارات بيضاء فى صفحة سوداء.
ما أقوله ليس فيه إدانة كاملة لطبقتنا العاملة، فنحن نطالبهم بعمل وإنتاج وإبداع الطبقة العاملة باليابان دون أن نوفر لهم لا السياسات ولا البيئات ولا الحوافز التى يعمل فيها اليابانيون، فهم حلقة بدائرة تسبقها وتوازيها وتليها حلقات أوسع وربما أكثر أهمية وتأثيراً فى الواقع.
هكذا صارت اليابان
فاليابان خلقت منذ عصر الإمبراطور موتسوهيتو (1868- 1912) المعروف بعصر مييجى الذى يمثل ضربة البداية فى بناء اليابان الحديثة بيئة هيأت الفرصة أمام ما نرى من تقدم صناعى واقتصادى بأن قضت على الإقطاعيات ووحدت البلاد وساوت بين فئات الشعب بعد أن ألغت النظام الطبقى الذى كانت تعتمده حكومة العسكر (الساموراى) ومنحت الفرد أى فرد حرية العمل والحركة  وأصلحت النظام الضريبى على نحو يخدم التنمية الحقيقية ولا يعسف بالشعب.
وبأن ركزت على قطاعى التعليم والتصنيع ونشطت الساحات الفكرية وأزهرت حركة الترجمة واستوحت تجارب الغرب لاسيما التجربة البريطانية وخصصت الشركات الكبرى دون أن تبخس بقيمتها أو تبدد مقوماتها وأنشات بنوكا وطنية على نمط كبرى المصارف الأوربية فالإدخار المرتفع والاستثمار فى المشروعات الخاصة كانا هما أول الخيط فى تدشين التقدم الصناعى والاقتصادى باليابان. 
ووفرت الحوافز السياسية والاقتصادية على نحو شجع المجتمع بما فيه من عائلات تجارية وعسكرية على التحول نحو الأنشطة الصناعية على غرار كإيوزاكى مؤسسة شركة ميتسوبيشى وماساتومو مؤسس شركة سوميتومو التى لها  الآن أكثر من مصنع لإنتاج الضفائر الإلكترونية  بمصر.
واعتمدت قيم ومعايير تحسن من استخدام العنصر البشرى من منظور يرى أن أى عمل لن ينجح مهما كان إذا لم يكن هناك الشخص المناسب لإدارته والفرد القادر على العطاء له أولاً وقبل كل شئ باعتبار أنه مهما كان التمويل متوفراً والتخطيط حاضراً فلن يفيد إذا لم يكن هناك من يدير ومن ينفذ بكفاءة.
ورتبت الأولويات وفرقت بشكل واضح بين ما يستطاع وما لا يستطاع وتلك قضية مختلفة عن الفارق بين ما يراد عمله وما لا يراد فعله فهم لم يخلطوا بين الأمرين ، فإهدار الأولويات والخلط بين الرغبة والقدرة يشتت الجهد ويصرفه عن الهدف ويستنزف الطاقات والأموال بعيداً عن الأساسيات الملحة.
وفتحت المجال واسعاً امام نقابات العمال وأحدثت تحسينات ملموسة على لغة الحوار بين الإدارات والعمال القادمين أصلاً من نظام تعليمى يربى بداخلهم عقلية نقدية متفتحة لدرجة تحول دون استخدامهم لحق الإضراب بشكل ضار بالإنتاج  وتمنعهم من المطالبة برفع الأجور إذا ما أدركوا أن رفعها سيؤدى لارتفاع الأسعار وزيادة نسبة التضخم.
دون أن يعنى هذا بالطبع وجود حائل يمنعهم من المطالبة بالإنصاف فى الأجور إذا مارأوا أن إجحافاً أصابها لصالح رب العمل. بل إن الأمر يصل بهم أحياناً لحد الإضراب عن العمل لكن بشكل راق لايصيب الإنتاج فى مقتل بأن يقوموا مثلاً بوضع شارات معينة على ملابسهم أو ماشابه أثناء العمل تعبيراً عن الاحتجاج  الذى سرعان مايجد أذاناً صاغية من قبل صانع القرار. 
وتابعت عمليات صقل العمال بحيث لا تتوقف معلوماتهم عند حدود ماتلقوه بمراحل التعليم المعتادة رغم أن المدارس والجامعات باليابان لا تعمل فى إطارات مقولبة بشكل مركزى جامد، وإنما تستجيب لمتغيرات المجتمع من خلال التدريب المهنى المستمر سواء الذى تقدمه المؤسسات الحكومية أو الخاصة أو التابعة للشركات والمصانع ، فالمعرفة نواة التحديث باليابان لدرجة أن دستور مييجى كان مكونا من خمس مواد تنتهى جميعها بعبارة (يجب اكتساب المعرفة أينما كانت) . 
وأشركت العمال فى عمليات اتخاذ القرار داخل المصانع عبر أدوات رئيسية ثلاث هى المشاركة فى الإدارة وتقديم المقترحات والمراقبة النوعية لسير العمل بشكل عام، ووفرت لهم أعلى قدر من الأمان والعدالة الوظيفية باعتماد نظام العمل طيلة العمر والترقية على أساس الأقدمية واتخاذ القرارات بالتوافق بحيث يدرك العامل بأن فرص التقدم مفتوحة أمامه وإن تقدمه مرهون بعمله دون اعتبار آخر وأن ثمار عمله ستعود عليه .
اللافت أن كل هذا التغيير حدث دون أهمال للتراث، فعصر مييجى بنى حداثته على تراثه بمعنى أنه أقام الحداثة فوق التقاليد، فاليابان الجديدة جرى بناؤها باستيعاب أفكار وتقنيات ونظم أجنبية على أسس يابانية عتيقة على عكس ما يحدث ببلدان أخرى حيث تعنى الحداثة بالنسبة لهم هدم التراث ومعاداته بصرف النظر عن صلاحيته أو قيمته.
تغيير مأمول
تلك هى ملامح البيئة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التى يبدع فيها العامل اليابانى على النحو الذى يبهرنا دوماً ، فإذا ما كنا نطالب عمالنا بإبداع مقارب أو مماثل وهم كفؤ لهذا بدليل أننا عندما نشاهدهم فى مصانع يابانية على أرضنا لا نشعر بفارق ضخم أو واضح، فعلينا صنع بيئة مشابهة بنكهة مصرية تُنضجها ولا تعرقلها أو تقتلها، أما إذا لم نفعل، فعلينا التوقف عن لومهم وتقريعهم، فلكى يبدع عمالنا كاليابانيين علينا أن نوفر لهم بيئة العمل اليابانية .