الإثنين 6 مايو 2024

قل هو الحب!

مقالات17-5-2023 | 17:09

لكثرة ما نطقتْها الألسنة، أو تلفَّظتْ بها الأفواه، لم تَعدْ مفردة (الحب) تُدهش رغم تكرار طَرْقِها أبوابَ الآذان ولم تعدْ تصل إلى القلوب، لفقدانها قوةَ الدفع التي لم تكن تُوقِفُها حواجزُ العمر والفروق الطبقية ؟ أم أن ترديدها دون معرفةِ مسئولياتِ قائلها جعلها لفظةً مُسْتَهلَكةً لا يحفل بها مَنْ تُوجَّه إليه!! كأنها لا تعنيه فلم يعد يحمرُّ لها الخدَّان، أو يشتدُّ خفقان القلب، وتُفسح العينان بتناعسهما المدى لريشة الحلم التي تبرع في استدعاء البساط المخمليِّ ليحلِّق بالروح متخطياً أفلاك السماء!! هكذا شَدَتْ كوكب الشرق (كان قربكْ هنا وحنيَّةْ / وليالي جميلة هنيةْ / طار بيَّ الأملْ بجناحهْ / ولمست النجوم بإيديه ) !! في رائعة مأمون الشناوي ( كل ليلة وكل يوم).

وللمحبين الحقيقيين أحوالٌ تأخذ بالعقل، فهم يستغرقهم ذلك الحب فينقطعون عما حولهم انقطاعاً تاماً فهذا " عنترة بن شداد" حال ذِكْرِه "عبلة" وقت المعركة إذ لا يَحْسُن ساعتها إلا التفكيرُ في تلافي الطعنات، وتوقِّي غدرات المهاجمين لكنه ذكرها، واشتبه الأمر عليه إذ تطابق في عينيه بريقُ أسنان عبلةَ ولمعان السيوف ؛ ليعترف عنترة بشديد رغبته في تقبيل السيوف: ( ووددتُ تقبيل السيوف لأنها * لمعتْ كبارق ثغرك المتبسِّم) ليسجل بشعره أغلى قبلةٍ في تاريخ العشاق ؛ لمجرد أن ذكَرها في موضعٍ لا يذكر المقاتل فيه إلا نفسه ، ولا يحفل إلا بنجاته من الموت المُحْدِق به من كل الجهات، وهذا "عروة بن حزام" أحد أكابر الحب العذري يصور حال مرور طيف محبوبته "عفراء" فيقول: (وإنّي لتعروني لذكراكِ رعدةٌ ) ؛ فيشعر بأثر هذى الرعدة ودبيبها ما بين جسمه وعظامه!! لقد استغرقتْه اللحظة فلم يعد يشعر بما حوله؛ لتفاجئه بقدومها على غير توقعٍ فيقول: ( وما هوَ إلاّ أن أراها فجاءةً * فَأُبْهَتُ حتى مَا أَكَادُ أُجِيبُ ).. أرأيتم ماذا يصنع الحب بأسراه وسباياه !!

ولا يمكننا تجاهل المبدع إبراهيم ناجي طائر جماعة "أبوللو" الغرِّيد ، الذي أوقف معظم شعره على الحب بآلامه وجراحه، وقد تصيبُك الحيرةُ مثلي إذا ما أردتَ اختيار إحدى قصائده؛ ولتكن قصيدة (ظلام) ولعلها تناسب مقدمة مقالنا بما أثارتْه من استهلاك العوام لمعاني الحب المقدسة ، وفقدان هذه الكلمة القيمةَ والإيحاء الطاهر ، ولعلها تناسب القصيدة المختارة من الشعر الأفريقي نظراً لاتفاق مطلع القصيدتين اليائس وسوداوية كلتيهما لقد جاءت قصيدة (ظلام) مقسمة على اثنين وعشرين مقطعا على نظام الرباعيات متعددة القوافي ؛ لنقول باطمئنان : إننا أمام ملحمةٍ شعريةٍ تستعرض تجربةً عاطفيةً مريرةً قد أصابت قلب شاعرنا في مقتلٍ ، وما أكثر ما مرَّ به شاعرُنا من تجاربَ داميةٍ، وما أقساها على قلبه الذي تكاثرتْ عليه الجراح ؛ لكننا سنقف أمام مطلع القصيدة ( لا تقلْ لي ذاك نجمٌ قد خبا * يا فؤادي كلُّ شيءٍ ذهبا ) حيث ربط الشاعر بين ضياع حبه وأفول نجمه ؛ لينتشر الظلام الدامس ، ويحاول القلب تهوينَ الأمر على صاحبه إلا أن الشاعر لا يترك لقلبه الاستهانة بما حدث ( ذلك الكوكبُ قد كان لعيني السماواتِ وكان الشُّهُبا ) فالخسارة فادحةٌ ، ورغم محاولة الشاعر تجاوزَ مرارة التجربة ؛ لكن هيهات أن يستطيع الشاعر ذلك ، أو أن يترك الحب له طوْقَ نجاةٍ ( ما على الهجر معينٌ أبداًً * وعلى النسيان لاشيء يعين ) فلا هو قادر أن يملك إرادة الهجر رغم أنف قلبه، وليس بمستطيعٍ النسيان !! لنصل إلى المعنى الذي قصدتُ ، فبعد أن بدأ رباعية جديدة مستعرضاً مفهوم الحب عنده ( ذلك الحب الذي علّمني * أن أحب الناس والدنيا جميعا ) إذا به يكتشف ذلك التناقض الرهيبب بين أخلاقياته ومثاليته وبين دناءة مَنْ سواه : ( إنه بصَّرني كيف الورى * هدموا من قُدْسِه الحصن المنيعَا )، ولا يملك الكون أمام ذلك الانحدار سوى البكاء دماً (وجلا لي الكونَ في أعماقه ** أعيُنًا تبكي دماءً لا دموعا )!!

 لنصل إلى محطتنا الأخيرة والشعر الأفريقي وهي مع الشاعر السنغالي أليون بادارا كوليبالي وقصيدة (عاطفيّ)، ورغم قِصَرِ القصيدة لتشبه لوحةَ شديدة التكثيف، حيث المطلع المفاجئ بسوداويته إذ يجمع الشاعر بين البحر بأخطاره وهذا الظلام الدامس من تجمُّع الغيوم ومرورها فوقه، هذه الحالة تماثل امرأةً ارتدت السواد لفقدانها الحياة التي نستطيع استنتاج فقدانها قيمةَ الحب ، ولا يتوقف الشاعر عند هذا اليأس ؛ بل يستحضر غضب الأمواج لتماثل الحالة المزاجية لرجلٍ وصل محطة عمره الأخيرة وقد ضَنَّتْ عليه الحياةُ بالحب الذي به يعتدل طقس الكون ، وما الحياة إلا هذا البحر ، والمستغرب هذا التفريق بين رِدَّة فِعْل المرأة حال فقدانها الحب المعادل الموضوعي للحياة فصارت في عداد الموتى وإن تحركتْ قدماها ، أما رِدَّةُ فعْل الرجل حال حرمانه الحب هو الغضب الهادر الذي لا تستطيع الحياة مواجهته ، والمدهش الربط بين (البحر) المرأة والرجل ( الأمواج )فهل قصد الشاعر أن هدوء الأمواج نابعٌ من إشراقة البحر وتفاؤله؟!! لعله أراد ذلك!! فالمفردتان تنتميان إلى عالَمٍ واحدٍ يكتمل بامتزاجهما معا فإلى قصيدة (عاطفيّ) والشاعر السنغالي كوليبالي:

أظلم البحرُ من مرور الغيم

كزوجةٍ ترتدي الحداد على حياتها

تقلّبت الأمواج غاضبةً

كرجلٍ حُرم الحب في منحدر العمر

Dr.Randa
Egypt Air