الإثنين 6 مايو 2024

مثلما تقولون.. نَعَمْ مغرور!

مقالات24-5-2023 | 12:30

 هل الشعراء مغرورون.. مثلما يرى الكثير من النقاد غرور الشعر في نصوصه ؟!! ربما كان ذلك مرجعه إلى أسبقية وجوده على غيره من الأجناس الأدبية الأخرى مثل الرواية والمسرحية والمقال.. وربما بسبب ما يضْفيه عليه مبدعوه وقراؤه من الإلهام والإبداع اللذين يجعلانه يعلو غيره من فنون القول ، لكننا - دونما افتئاتٍ على مكانة بقية الأجناس الأدبية - يمكننا الجزم أن الشعر الحقيقي لا تنْفتح أصدافه، ولا يمنح أسراره إلا بعد أن نقدِّم القرابين النفيسة !! وهنا يلحُّ على الخاطر سؤالٌ مباغتٌ.. أليس للعقل دورٌ محوريٌّ في إبداع الشعر والسياحة بين أفلاكه ومداراته ؟!! ورغم احتياجنا إلى العقل الذي هو هبةٌ إلهيةٌ أتاحت لنا حسْن استثمار ثروات الأرض ، وبناء الحضارات الإنسانية المتعاقبة ؛ إلا أن هذه المكانة العليا للعقل لا تتيح له الانفراد بالشعر إبداعاً وقراءةً!! ولنتنبه إلى لفظة (الانفراد) ؛ فالشعر مبدأه القلب ثم يليه العقل ، ويحتاج قارئ الشعر جسوراً من القلب والعقل كي تفتح القصيدة أبوابها مرحبةً به ضيفاً كريماً تصطفيه بأطايب ألفاظها وقطوف مجازاتها ، ولسان القصيدة يدعو إلي التلذُّذ بقطوفها الدانية لمن أجاد التوغل في القصيدة بقلبه لا بعينيه ، واستعد  لما تثيره القصيدة من أسئلة تكمن له أثناء سيره في جنباتها ، فتقطع عليه الطريق ، والشاعر لا يعنيه أن يقدم حلولاً جاهزةً بقدْر ما يعنيه أن يثير في القارئ الكثير من التساؤلات المغلَّفة بالشغف المستمر والدهشة المتواصلة ؛ حيث لا يملك الشاعر أمام سطوة الجمال الذي يمتزج بحواسه وروحه إلا أن يقدم لمريديه عسلا مُصَفَى يعينهم على تجاوز هذا الروتين القاتلَ نبضاتِ مشاعرهم ، والمللَ المحاصر أنفاسهم ، والمريدون طوال رحلتهم في استبطان أسرار القصيدة لا يريدون لرحلتهم أن تنتهي ؛ إذ يجدون فيها جمالاً في كل قراءة يتجدد ، وثراءً لا ينفد تفيض به صحافهم !!

ولقد كان العرب في الجاهلية يقيمون الأفراح الليالي الطوال أن ُولِد فيهم شاعرٌ فقد كان بمثابة وزير إعلام قبيلته ؛ يفخر بفضائلهم ويمدح ساداتهم  ويرثي قتلاهم ويهجو أعداءهم ، وفي السيرة النبوية أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-لما أشتد عليه أذى قريش بالهجاء قال لأصحابه:" ما يمنعُ الذين نصروا الله ورسوله بأسلحتهم أن ينصروه بألسنتهم " ؟ فقال حسّان أنا لها؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم  كيف تهجوهم وأنا منهم "؟ فقال: " أسُلك منهم كما تسل الشعرة من العجين". فقال صلى الله عليه وسلم: " اهجهم ومعك روح القدس"، ولقد كان أبوبكر الصديق رضى الله عنه راويةً للشعر وكان يتمثَّل بقول الشعر، وكذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يترك وافداً يفد عليه من قبائل البادية دون أن يسأله عن بعض شعرائها ، وكان رضي الله عنه لايعرض له أمرٌ إلا استشهد ببيت من الشعر ، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول :"إذا قرأتم شيئاً من كتاب الله ولم تعرفوه فابتغوه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب"وبذلك نتفهم بيت المتنبي ( أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي **وأسمعت كلماتي من به صمم )ومَنْ غيره يشغل الناس حتى يومنا !! 

 وللشاعر العراقي "أحمد مطر" قصيدةٌ رائعةٌ بعنوان (يُوقِد غيري شمعة) ؛ يقارن فيها بينه وبين سواه من الشعراء ، فغيره "يوقد شمعةً ليشعل أشعاره" وأحمد مطر "يشعل بركانا" ، وغيره "يستَدرُّ دمعـةً ليُغـرقَ الأشعـارَ أحزانـا"، وشاعرنا يقدم سببا جديدا لتفرُّده ( لكنّـني .. أذرِفُ طوفانـا ! شـتّانَ) ، تستمر المفارقات في المقارنة ( غيري شاعِـرٌ ينظـمُ أبياتاً... ولكنّـي أنا.. أنظِـمُ أوطانـا!/ وعِنـدهُ قصيدَةٌ يحْمِلُهـا لكنّني قصيـدةٌ تحمِـلُ إنسـانا!) ؛ ليصل بنا البديع "أحمد مطر"إلى مسلَّمةٍ يتيه بها (كلٌّ معانيـهِ على مقـدارِ ما عانى) فالمعاني تأتي على قدر المعاناة ، ولابأس في الختام من تذكيرنا بعلاقة الشعراء بشياطين الشعر منذ العصر الجاهلي فيقول :( للشُّعـراءِ كُلّهم شيطانُ شعـرٍ واحـدٌ ..ولي بمفـردي أنا .. عشـرونَ شيطانـا !!).                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                  لنصل إلى محطتنا الأخيرة وقصيدة (قوّال سلالتي) للشاعر السنغالي " نداي كومبا دياخاتي "ويبدو فخره بشعره شديد الشبه بالمتنبي ؛ لكنه يدمج فخره بشعره بفخره بأصله ودمه ولون بشرته ، وجذوره الممتدة في تربةٍ ارتوت بدماء الأجداد ، ولا يشعر بغربةٍ بين عناصر بيئته من نبات وحيوان ، ويبدو أن القصيدة موجهةٌ إلى الإنسان الأبيض الذي ترسَّختْ نظرته لكل زنجيٍّ بما يراه في مدنه الرمادية من هؤلاء الزنوج المعدمين الملتصقين بحياةٍ عفنةٍ لا يقبل بها شاعرنا !!ليصرخ شاعرنا في وجه الإنسان الأبيض مرتين ( أنا من لا تعرفه ) ؛ فتَعْقبُ صرختَه الأولى مغايرتُه بصراحته ووضوحه مفاسد المدنية الصارخة ، ويعقب صرخته الثانية تمردُه على كل ماوضع لحصاره واستعباده !!! فمع السنغالي "نداي كومبا" وقصيدته ( قوَّال سلالتي ):

أنا قوّال سلالتي.. شاعرٌجوّالٌ أغنّي سلالتي.. بصوتٍ عال،

أغنّي دمي الّذي يُعلن من أكون.

أنا خشبُ الأبنوس  الّذي يستهلك النّار البطيئة للكذب.

أنا الحصى الأحمرلدم أسلافنا الشّرس.. أنا الغابةُ الطّاهرة.. ومملكةُ القردة الصارخة.

ولستُ زنجيَّ الأحياء الفقيرة المحشور في حفرة قذرة في المدينة الرّمادية الّتي تخنق وتقتُل.

أنا من لا تعرفه:

شمسٌ بلا خِداع، ولستُ شمعةَ نيّون مُنافقة.

أناضوءُ البدر الصّافي المتواطئ مع مُداعبات اللّيل ... والدّم الّذي يقفز بنفاذِ صبر في متاهات شراييني.

أنا من لا تعرفه.
أبصقُ على الرّوح القذرة وها أنا أحطّم السّلاسل والصّمت الكاذب الّذي قذفتَ به إليّ.

Egypt Air