الأنبا شنودة
إن موضوعا واسعا كهذا، كتبت فيه مجلدات عديدة ولم توفه حقه بعد، لست أستطيع أن أدعي بأنني سألم بأطرافه المترامية في صفحات قليلة كهذه.
وإنما سأعرض لبعض النقاط المحدودة وألقي عليها ضوءا بسيطا، نراها من خلاله، ونترك التفاصيل لبحوت خاصة.
فكرة القرآن عموما عن المسيحية تعرض القرآن للمسيحية : شرح كيف أنها ديانة سماوية، ديانة إلهية، أرسلها الله هدى للناس ورحمة، على يد المسيح بن مريم. والمؤمنون بالمسيحية سجَّل القرآن أن لهم أجرهم عند ربهم، وأنهم غير المشركين، وغير الذين كفروا.. وقال أيضًا إنهم أقرب الناس مودة إلى المسلمين؛ وإنهم متواضعون لا يستكبرون.
وشخص المسيح له في القرآن مركز كبير. إنه كلمة الله؛ وروحٌ منه. وُلِدَ بطريقة عجيبة لم يولد بها إنسان من قبل ولا من بعد؛ بدون أب جسدي؛ ومن أم عذراء طهور لم يمسسها بشر.. ومات ورُفِعَ إلى السماء بطريقة عجيبة حار فيها المفسرون والعلماء عاش على الأرض يهدي الناس، ويقوم بمعجزات لم يعملها أحد مثله.. وقد هدى الناس عن طريق تبشيرهم بالإنجيل. والإنجيل له مكانة عظيمة في القرآن الذي كان مُصَدِّقًا له وداعِيًا الناس إلى الإيمان به.. ولم يُذكَر في القرآن إطلاقًا أنه نسخ التوراة أو الإنجيل، بل على العكس ذكر أن المؤمنن ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل.
وللعذراء مريم أم المسيح مركز ممتاز في القرآن، في بتوليتها وطهرها ونسكها وعبادتها وتشريف الله لها واصطفائها على نساء العالمين. وقد تحدث القرآن أيضًا عن الحوارين تلاميذ المسيح. وتحدث عن بعض العقائد المسيحية.. وهنا يظهر بعض الخاف بينه وبين المسيحية، شيء من ذلك خلاف حقيقي. وشيء آخر لا يمكن أن نسميه خلافًا. وإنما هو محاربة لبعض البدع الدينية التي كانت سائدة وقتذاك، والتي تحاربها المسيحية أيضًا، والتي لم تكن في يوم من الأيام من عقائد المسيحية كما يخطئ البعض في الفهم والتفسير. وما أكثر الملل والنحل التي تقوم في كل جيل، يحارب أخطاءها أولياء الله الصالحون. وسنعرض لكل هذا بالتفصيل:
نظرة القرآن إلى النصارى:
يدعوهم القرآن “أهل الكتاب”، أو “الذين أوتوا الكتاب من قبلكم” أو “الذين أتيناهم الكتاب” أو “النصارى”. ويصفهم القرآن بالإيمان وعبادة الله، وعمل الخير.
ويقول في ذلك “مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللِّه آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللِّه وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِى الْخيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحنَ” “سورة آل عمران ”113
ويقول أيضًا: “الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ” “سورة البقرة 121 ”
“وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّه” “سورة النساء 131 ” “الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ” “سورة القصص 52 ”
هم إذن من المؤمنين، يعبدون الله، ويسجدون لله وهم يتلون آيات الكتاب طوال الليل. يؤمنون بالله وبالكتاب وباليوم الآخر، وهم من الصالحين. ولذلك أمر القرآن بمجادلتهم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.
وفي ذلك يقول “وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ” “سورة العنكبوت ”46
ولم يقتصر القرآن على الأمر بحُسن مجادلة أهل الكتاب، بل أكثر من هذا؛ وضع القرآن النصارى في مركز الإفتاء في الدين، فقال: “فَإِن كُنتَ فِى شَكٍّ مِّما أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ”
“سورة يونس 94 ” وقال أيضًا:
“وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ” “سورة الأنبياء 7”
ووصف القرآن النصارى بأنهم ذوو رأفة ورحمة: وقال في ذلك: “وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَم، وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ، وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً” “سورة الحديد 27 ”
واعتبرهم القرآن أقرب الناس مودة إلى المسلمين:
وسجل ذك في سورة المائدة حيث يقول: “لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِنَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ” “سورة المائدة 82 ”
ونلاحظ في هذه الآية القرآنية تمييز النصارى عن الذين أشركوا. لأنها هنا تذكر ثلاث طوائف واجهها المسلمون وهي اليهود والذين أشركوا في ناحية، والنصارى في ناحية أخرى. فلو كان النصارى من المشركين، لما صحّ هذا الفصل والتمييز.
إن التمييز والفصل بن النصارى والمشركين أمر واضح جدًا في القرآن، ولا يقتصر على النص السابق، وإنما سنورد هنا أمثلة أخرى. منها قوله: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّه يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” “سورة الحج 17 ” “ نفس هذا التمييز نجده في الآية 186 من سورة آل عمران، ونجده واضحًا “قوانن التزوج المشترك( وفي قوانن الجزية، ولا يتسع المجال في هذه العجالة لبحث مثل هذا الموضوع الواسع. على أنني سأعود إلى التكلم فيه في نهاية هذا المقال. أما الآن فيكفي في نظرة القرآن إلى إيمان النصارى أن نورد قوله “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِنَ مَنْ آمَنَ بِاللِّه وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يحَزَنوُنَ” “سورة البقرة 62 ؛ سورة المائدة 69 ”
أما الآن فنتكلم عن نقطة أخرى في موضعنا، وهي الإنجيل.
نظرة القرآن إلى الإنجيل:
يرى القرآن أن الإنجيل كتاب مقدس سماوي منزل من الله يجب قراءته على المسيحي والمسلم وكل من آمن بالله.
فيقول: “نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحقِّ مُصَدِّقًا لِّما بَينْ يَدَيْهِ، وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ” “سورة آل عمران 3و 4”
ويقول أيضًا “وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَم مُصَدِّقًا لِّما بَينْ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ، وَمُصَدِّقًا لِّما بَين يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِنَ. وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِما أَنزَلَ اللُّه فِيهِ، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِما أَنزَلَ اللُّه فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحقِّ مُصَدِّقًا لِّما بَيْن يَدَيْه مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ” “سورة المائدة 46 - 48 ”
وكون القرآن مصدقًا لما بين يديه من الكتاب، فهذا يعني صحة الإنجيل والتوراة وسامتهما من التحريف. وإلا فإنه يستحيل على المسلم أن يؤمن بأن القرآن نزل مصدقًا لكتاب محرَّف. كذلك لو كان التوراة والإنجيل قد لحقهما التحريف، ما كان يأمر قائلً: “وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِما أَنزَلَ اللُّه فِيهِ، وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِما أَنزَلَ اللُّه فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ”. بل ما كان يصدر أيضًا ذلك الأمر: “قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ” “سورة المائدة 68 ”
وما أكثر الآيات القرآنية التي تسجل أن القرآن نزل مصدقًا لما بين يديه من الكتاب، يطول بنا الوقت إن حاولنا أن نحصيها..
وما أكثر الآيات القرآنية التي تدعو إلى الإيمان بالإنجيل والتوراة، نذكر منها غير ما سبق “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللِّه وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللِّه وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَالً بَعِيدًا” “سورة النساء 136 ”
ونلاحظ في هذا النص أنه قال “كتبه” ولم يقل “كتابه”. فيجب الإيمان بجميع الكتب الإلهية التي أرسلها هدى ونورًا وموعظة للمتقين.. وقد ورد في سورة البقرة عن أهمية هذا الإيمان “وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ. أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمفْلِحُونَ” “سورة البقرة 4و 5” “قُولُواْ آمَنَّا بِاللِّه وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ” “سورة البقرة 136 ؛ سورة آل عمران 84 ” “لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ” “سورة المائدة 68 ”
أقتصر الآن على هذا القدر القليل، وقبل أن أترك هذه النقطة أقول إن كل ما سبق ينفي بأسلوب قاطع الفكرة الخاطئة التي ظنها البعض وهي أن القرآن نسخ التوراة والإنجيل!! من المحال أن يكون ناسخًا لهما وفي نفس الوقت يدعو إلى الإيمان بهما ويحذر من إهمال ذلك.
ملاحظة أخيرة أنبه إليها القراء وهي أن القرآن -في كل سوره وآياته- عندما ذكر الإنجيل، إنما يعني الإنجيل الذي بشَّر به المسيح.
ولم يرد في القرآن حرف واحد عن ذلك المؤلف المزيف الذي أسماه كاتبه “إنجيل برنابا”. إن اسم برنابا هذا غير موجود على الإطاق في القرآن، كما أن كثير من تعاليمه ومعلوماته منافية ومناقضة لتعاليم القرآن. فكرة القرآن عن المسيح يسميه القرآن “عيسى”، وهذا الاسم يقرب من الكلمة اليونانية “إيسوس”أما اسم المسيح في العبرية فهو يسوع ومعناه “مخلص”. عن أن القرآن ذكر اسم المسيح أكثر من عشر مرات. “انظر سورة آل عمران 45 ؛ سورة النساء 157 ، 171 ، 172 ؛ سورة المائدة 17 ]مرتن[، 72 ]مرتن[،
سورة التوبة 30 ، 31 ” وسنحاول أن نورد بعض هذه الأمثلة خال حديثنا. واسم المسيح هذا كان موضع دراسة لكبار المفسرين في الإسام، وقيل في ذلك أنه سمي مسيحًا “لأنه مُسِحَ من الأوزار والآثام”. وأورد الإمام الفخر الرازي حديثًا شريفًا قال فيه راويه “سمعت رسول الله يقول: “ما من مولود من آدم إلا ونخسه الشيطان حين يولد فيستهِل صارخًا من نخسه إياه، إلا مريم وابنها”.
وكل هذا، وما سيأتي، يدل على المركز الرفيع الذي تمتع به المسيح في القرآن وفي كتب المفسرين، وهو مركز تميز به عن سائر البشر. ومن ذلك:
أ- أنه دُعيَ كلمة الله وروحٌ منه: وقد تكرر هذا اللقب، فورد في سورة إل عمران 45 : “إِذْ قَالَتِ الْملائِكَةُ يَا مَرْيَم إِنَّ اللَّه يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَم وَجِيهًا فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمقَرَّبِنَ”. وورد في سورة النساء 171 : “إِنَّما الْمسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَم رَسُولُ اللِّه وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم وَرُوحٌ مِّنْهُ”.
وقد أثارت عبارة “كلمة الله” تعليقات لاهوتية كثيرة لا داعي للخوض فيها الآن، وبخاصة لأن تسمية المسيح بكلمة الله يطابق الآية الأولى من الإنجيل ليوحنا الرسول. وكذلك لأن عبارة “الكلمة” وأصلها في اليونانية “اللوجوس”، لها في الفلسفة وفي علوم اللاهوت معان معينة غير معناها في القاموس. وبنفس الوضع عبارة “روح منه” التي حار في معناها كبار الأئمة والمفسرين. وأيًا كانت النتيجة فإن هذين اللقبين يدلان على مركز رفيع للمسيح في القرآن لم يتمتع به غيره.
ب- ولادته المعجزية من عذراء: لم يقتصر الأمر على كنه المسيح أو طبيعته من حيث هو “كلمة الله وروح منه ألقاها إلى مريم”، وهذا ما لم يوصَف به أحد من البشر، وإنما الطريقة التي وُلِدَ بها والتي شرحها القرآن في سورة مريم كانت طريقة عجيبة معجزية لم يولد بها أحد غيره من امرأة. زادها غرابة أنه “يُكَلِّمُ النَّاسَ فِ الْمهْدِ” “سورة آل عمران 46 (، الأمر الذي لم يحدث لأحد من قبل ولا من بعد.. أترك هذا العجب لتأمل القارئ لتسبح فيه روحه. وأنتقل إلى نقطة أخرى هي:
ج- معجزات المسيح العجيبة: وأخص منها مما ورد في القرآن -غير إبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى- معجزتن فوق طاقة البشر جميعًا، لم يقم بمثلهما أحد من الأنبياء وهما القدرة على الخلق، وعلى معرفة الغيب. وفي ذلك يقول القرآن على لسان المسيح “أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّنِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللِّه.. وَأُنَبِّئُكُم بِما تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِ بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِنَ” “سورة آل عمران 49 ”
هنا ويقف العقل لكي تتأمل الروح.. لماذا يختص المسيح بهذه المعجزات التي لم يعملها أحد والتي هي عمل الله ذاته: الخلق ومعرفة الغيب!
ومن الأمور الأخرى التي يذكرها القرآن في رفعة المسيح وعلوه:
د- موته ورفعه إلى السماء: وقد ورد في ذلك: “إِذْ قَالَ اللُّه يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ، وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ” “سورة آل عمران 55 ”
والمسيحية تؤمن بموت المسيح وصعوده إلى السماء. ولكن القرآن لم يبين كيف رُفِعَ المسيح ومتى حدث ذلك، وبقى الأمر عجبًا..
ه- صفات المسيح الأخرى: من الصفات التي ذكرها القرآن عن المسيح أنه: “وَجِيهًا فِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ” وقد شرح أئمة المفسرين معنى هذا الوصف باستفاضة، وخرجوا منه بعلو مركز المسيح علوًا عجيبًا، وبأنه في الآخرة تكون له شفاعة في الناس.
مركز العذراء مريم في القرآن يشرح القرآن في سورة آل عمران أن مريم نذرت للرب وهي في بطن أمها “فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا”. وأنها تربَّت في الهيكل تحت رعاية زكريا، وأنها كانت تطعم طعامًا من السماء “كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْدرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا. قَالَ: يَا مَرْيَم، أَنَّى لَكِ هَذَا؟! قَالَتْ: هُوَ مِنْ عِندِ اللِّه”.
وعلو مركز العذراء مريم يظهر في قول القرآن عنها “وَإِذْ قَالَتِ الْملائِكَةُ: يَا مَرْيمُ، إِنَّ اللَّه اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَينَ” “سورة آل عمران 42 ” وهكذا ارتفعت مريم في نظر الإسام فوق نساء العالمن.
وكانت عذراء عابدة تسجد وتركع مع الراكعين، وكانت تحيا في وحدة وتأمل “انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا، فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا” “سورة مريم 17،16 ” وقد “نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا” “سورة مريم 26 ”.
ويمكن الرجوع إلى سوره مريم وسورة آل عمران وغيرهما لمن يريد أن يتوسَّع في معرفة فضائل العذراء مريم وعلو مكانتها، كما يشرح القرآن ذلك.. بعض خلافات غير حقيقية إن هناك بعض نقاط خاف موجودة في القرآن يظنها البعض منسوبة إلى المسيحيين، والمسيحيون لا يؤمنون بتلك البدع؛ بل يحاربون أصحابها حيثما وجدوا. وهذه الخلافات تتركز في الآيات القرآنية الآتية:
النقطة الأولى: خاصة بألوهية العذراء:
وورد في ذلك “وَإِذْ قَالَ اللُّه: يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَم، أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَينْ مِن دُونِ اللِّه. قَالَ: سُبْحَانَكَ” “سورة المائدة 116 ” “ والمسيحية لم تقل في يوم من الأيام بألوهية العذراء مريم. بل إن مريم نفسها تقول في الإنجيل أنها “أمة الرب” فتأخذ وضعها كعبدة أمام الله. فإن كانت قد قامت بدعة تنادي بتأليه العذراء، فإن المسيحية تحاربها بكل قوة.
كذلك لا يمكن أن تؤمن المسيحية إطلاقًا بوجود إلهن من دون الله حتى لو كان المسيح أحدهما.. فنحن نؤمن بإله واحد لا سواه.
ولعل هذا الموضوع سنتعرض له عندما نعرض النقطة الثالثة الخاصة بالشِّرك...
# النقطة الثانية: خاصة بوجود صاحبة لله: وورد في ذلك: “بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ” “سورة الأنعام 101 ” وأيضًا: “وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا” “سورة الجن
”3
ليس بين المسيحية والقرآن خلاف في هذا الأمر. فالمسيحية تقول أيضًا إن الله لم يتخذ صاحبة، سبحانه. الله روح مُنَزَّه عن الجسد وأعماله. وبنوة المسيح لله هي بنوة غير جسدية، غير تناسلية. إنها شيء روحي إلهي يتسامى فوق هذا المستوى الجسدي. فإن ربطنا البدعتن الأولى والثانية: الأولى التي تدعي ألوهية العذراء والثانية التي تدّعي صاحِبة لله، أدركنا سر البدعة الثالثة الخاصة بالشرك بالله.
النقطة الثالثة الخاصة بالشرك بالله: كما لو كان هناك ثالوث مكون من الله وصاحبة وابن أنجبه الله من صاحبة!! وهذا كفر مبين تتنزَّه عنه المسيحية، وليس ثالوث المسيحية من هذا النوع الوثني كما ورد في العبادات المصرية القديمة في قصة إيزيس وأوزوريس وابنهما الإله حورس. إن وجدت بدعة من هذا النوع يحاربها القرآن، فالمسيحية تحاربها أيضًا. ولا يمكن أن تؤمن بمثل هذا الكُفر.. المسيحية لا تؤمن بالشرك بالله، وإنما تؤمن بالتوحيد. ولا تؤمن بثلاثة آلهة، إنما تؤمن بإله واحد لا شريك له. والآيات الدالة على التوحيد في التوراة والإنجيل لا تدخل تحت حصر.
إن التوحيد أمر بديهي لا يتناقش فيه اثنان.
فإن قال القرآن في سورة النساء 171 :“وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاثَةٌ.. إِنَّما اللُّه إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ”؛ فإن المسيحية تقول مثل هذا أيضًا. إنها تنكر التعدد والشُرك؛ وتنكر أن يكون لله ولد من صاحبة بتناسل جسدي! وإن قيل في سورة المائدة 73 : “لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّه ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ”، فالمسيحية تقول هذا أيضًا، ليس الله واحدًا من ثلاثة آلهة، لأنه لا يوجد سوى إله واحد لا شريك له. إن الإسام في كل الآيات إنما يحارب بدعة تحاربها المسيحية أيضًا، وهي ليست من المسيحية في شيء.
أما ثالوث المسيحية فغير هذا كله. نقول فيه “باسم الأب والابن والروح القدس، إله واحد آمن”. فالله هو جوهر إلهي أو ذات إلهية، له عقل، وله روح. والثلاثة واحد.
كالنار لها ذات هي النار، وتتولد منها حرارة، وينبثق منها نور. والنار بنورها وحرارتها شيء واحد. وكالإنسان ذاته وعقله وروحه كيان واحد.. والبنوة في اللاهوت هي كبنوة الفكر من العقل. العقل يلد فكرًا وليست له صاحبة!
وأخيرًا فليس معنى كل ما قلناه أن القرآن والمسيحية شيء واحد. كلا، فهناك خلافات جوهرية منها التثليث والتجسد والفداء ولاهوت المسيح وصلبه ومنها أسرار الكنيسة ومنها القرآن نفسه.. وأشياء أخرى كثيرة، ولكننا أحببنا في هذا المقال أن نتكلم على نقاط التلاقي فقط، لا عن نقط الخلاف...
ديسمبر 1970