الأحد 19 مايو 2024

طه حسين

24-9-2017 | 14:21

بقلم الأستاذ عباس محمود العقاد

كان “الهلال” قد اقترح على الأديبين الكبيرين الأستاذ عباس محمود العقاد والدكتور طه حسن أن يكتب كل منهما موضوعا يفضى فيه برأيه فى أدب صاحبه ونواحى تفكيره، وقد قبا هذا الاقتراح على أن ينشر المقالان فى عدد واحد، ولكن عرضت للأستاذ طه حسن مشاغل فى برامج التعليم اضطرته إلى تأجيل كتابة مقاله، وكان الأستاذ العقاد قد كتب مقاله، فرأينا أن ننشره بعد استئذانه فى هذا العدد، أما الدكتور طه فقد وعد قراء الهلال بنشر مقاله فى عدد قادم.

للقدماء ضروب من التوقر يستخف المحدثون ولا يحفلون بها وحق لهم أن يستخفوا ولا يحفلوا، لأنها ترجع إلى أسباب خاطئة فى زمانها فضا عن الأزمنة الحديثة، وليس أدل على قلة الحياة من كثرة البحث فيما يجوز وما لا يجوز، لأنه دليل على كثرة القيود.

وأول ضروب التوقر التى يحق للمحدثين أن يستخفوا بها اجتناب الكتابة عن الأحياء وقصر التاريخ والتقدير على من فارقوا الحياة، فربما كان مصدر هذا العرف عند القدماء أنهم كانوا يكبرون السلف ويحصرون فيه العلم والمعرفة والأدب والخلق والشهرة، وكأنهم كانوا يستكترون الجمع بين العلم والحياة أو بين الشهرة والحياة فى وقت واحد: فإما حياة وخمول وإما موت وشهرة، ولا توسط بين الأمرين فى تاريخ العلماء والأدباء وتقدير حظوظ العلم والأدب.

وقد جرف العصر الحديث ذلك العرف جرف السيل فكثرت تراجم الأحياء للأحياء، بل كثرت تراجم الأدباء لأنفسهمبأقلامهم ونشرها فى إبان حياتهم، وتلك علامة خير وصلاح، لأن ما خف من جانب التوقر إنما يزيد فى جانب الحياة، ولأن إساغة التاريخ للأحياء تدل على رحابة الصدر والتفاهم على الطبيعة الإنسانية فى جوانب كمالها ونقصها وإطرائها وعيبها، ولأن العصر الذى يساغ فيه الاعتراف ببعض العيوب هو العصر الذى تتوافر فيه المزايا والمحاسن، فلا يضار المرء بالنقد لأنه يعرف حدود الطبيعة الإنسانية وما يبقى له بعد النقد من وجوه التحبيذ والترجيح.

ولست أنا من أعداء القديم حبا لعداوة القديم، ولكننى أكره التحرج الكثير فى غير طائل، وأشايع زمنى فى هذه العادة خاصة، فا أرى حرجا فى الثناء على الدكتور طه حسن أو اغتيابه على ملأ من الناس.. ولهذا أجبت دعوة “الهلال” حين دعانى إلى إجمال رأى فى الصديق العالم الأديب، وهو يعدنى أو ينذرنى بمثل هذا النصيب! وقبلت الكتابة وأنا أرجو ألا أكون مغلوبا حين تنكشف الورقتان المطويتان، إذ الكلام فى كلينا سر مكتوم عن صاحبه حتى يطلع الهلال، وعندئذ تشيع الغيبة وينجلى السر عمن أحسن الحيطة والتخمن.

أنا ضامن أن الدكتور طه حسن سيقول أننى شاعر، فليضمن الدكتور طه حسن إذا أن أقول فيه إنه كاتب ناتج فى الأدب، وخير ما نتجه كتابه “الأيام” وكتابه “فى الصيف” وهما الكتابان اللذان سرد فيهما بعض ما جرى له فى حياته، فكان فيهما مثلا فى البساطة والثقة التى تعزف بصاحبها عن التماس التأثير المصطنع بالتعامل والتجمل والطاء والتزويق، فالموصوف فى هذين الكتابن صادق بسيط والوصف كذلك على مثل هذه الحال من الصدق والبساطة، ولكنى لم أطلع على شىء يصف به الدكتور ما لم يجر له أو يصف ما يخلقه من الشخوص والحوادث فى عالم الرواية، فما علة ذلك يا ترى؟

أنا ضامن أن الصديق الأديب سيجد عيبا أو عيوبا فى شعرى يقيسها بمقياسه ويقدرها بمعياره، فإذا ضمنت هذا فليضمن الصديق الأديب أن أعلل قلة الوصف المخلوق فى كتاباته القصصية بعيب فيه وهو قلة الخيال.. فهو يصف ما يعالجه من المحسوسات ولا يتخيل ما عداه من نقائضه أو مشابهاته، والعوض من ذلك عنده أنه يحسن البساطة التى يندر من يحسنها ويشعر بالكفاية التى تأتى من الثقة والاطمئنان إلى صدق الشعور، وهو عوض فيه غنى لمن يحسن الاستغناء.

• أما طه حسن الناقد فماذا أقول فيه ؟

- أقول إنه اطلع على الأدب العربى اطلاعه الواسع الذى لا جدال فيه، واطلع على نفائس من أدب الإغريق واللاتن الأقدمن، واطلع على آثار رهط من كبار الأدباء الأوربيين ولاسيما الفرنسيين، وكل أولئك خليق أن يحبب إليه الصحة والمتانة والقوة ويبغض إليه الزيف والركاكة، فهو يختار ما يعلو على مقاييس المقلدين المصطنعن، فهم لا يختلفون، ثم نراه يقول بعد أشهر قليلة إن النقد ليست له أصول مقررة عند الناقد الفرد فضلا عن الأمم الكبيرة والعصور الكثيرة، وإن الناقد يستحسن أو يستهجن والمرجع إلى ذوقه وحده فى استحسانه واستهجانه.

ولعل هذا التباين بين القاعدة والطبع هو الذى جعل الدكتور ينكر الجديد إذا جاءه فى زى القديم، أو هو الذى جعله يطالب الشعر الحديث بأمور لا يطالب بها فى حكم الطبيعة لأنه يجرى فى مطالبته على القياس.

وأقول للقلم: على رسلك إلى أين؟ ما أحسبك إلا متوقعا الكثير من تعقيب الدكتور واستدراكه فأنت تستوفي المثل وتأمن أن تزيد، ويقول القلم: ما أحسبنى والدكتور مغلوبن على كل حال فى هذه الصفقة، وليس الحق بعد كل تعقيب واستدراك وإذا قلت إن الدكتور أمن استحسان السخيف من الأدب فاختلافك بعد ذلك فى زيادة القيمة التى يقوم بها الجيد أو نقصها إنما يغير الثمن ولا يغير جودة الشىء الثمين.

ومن حساب الدكتور طه حسن أنه رجل جرىء العقل قويه، مفطور على المناجزة والتحدى، يستفيد مما يقتنع بصحته ومما يعينه على التحدى والتفرد فا يحجم عن اتخاذه، ولهذا تغير أسلوبه الكتابى بعد دراسته للأساليب الأوربية، فاتخذ له نمطا يوافق علمه بالعربية الفصيحة وعلمه بتقسيم المقاطع والفواصل فى الكلام الأوروبى، كما يتكلمه من يجمع بين الحديث والكتابة فى وقت واحد، فهو يتحدث ولا ينسى أنه يكتب، ويكتب ولا ينسى أنه يتحدث، وأسلوبه الذى اختاره أوفق الأساليب لذلك جميعا وأولها من نوعه فى اللغة العربية، وليس فيه محاكاة لأسلوب آخر فى اللغات الأوروبية. ولو كانت كتابته حديثا محضا لاسترسلت با توكيد ولا تكرير .

وإلى هنا لا أظن أن الدكتور سيعترف لى بأقل من هذا القدر فى ميزان الكتابة المنثورة فأنا رابح على هذا التقدير ولا أظن كذلك أنه سيعترف لى فى هذا الميزان با تعقيب ولا استدراك، فلنسرع إذن إلى التعقيب والاستدراك، ولا لوم ولا إجحاف.

فالدكتور صحيح الأصول فى النقد ولكنه لا يوافق بن أصوله وطبيعته فى كثير من الموضوعات.

وهو حين يقرر المبدأ على صواب غالب.

ولكنه حين يطبق المبدأ ينحرف أحيانا عن الصواب.

وعلة ذلك كما أسلفنا أن القاعدة والطبيعة عنده لا تتفقان.

فالطبيعة عنده لا تحتكم إلى الخيال والتصوير الخالق، ولكنها تحتكم إلى الرأى والاطاع فيقع من هنا التباين والاختلاف.

أليس الدكتور يوصى بمبدأ “الشك” أو مذهب ديكارت؟

بلى! ولكنك حين تقرؤه ترى له عبارات من التوكيد واليقين قلما تراها فى عبارات الشاكين المترددين، فا يعجب- أكثر ما يعجب- إلا أشد الإعجاب، أو إعجابا لا حد له، ولا يقنع بما دون الإسراف وترديد كلمة الإسراف، ولا يغضب الذين يتحدث عنهم إلا غضبا شديدا ، ولا يضيقون إلا أشد الضيق، ولا يتكلمون إلا بصيغة المبالغة فى معظم الأشياء.. ثم تنتقل من هذا إلى تشكيك يذكرك “بإن شاء الله” التى قالها جحا حين ضاع المال.. فقال ضاع المال إن شاء الله.

كأن الدكتور يخاف من نسيان الشك خوف جحا من تلك الكلمة التى نسيها فضاع ماله، فأنت تسمع منه: “أزعم أننى ضحكت!” وقد أزعم.. وقد أتردد.. وقد أقول وقد لا أقول”.. مع أن المرء لو أقسم جاهدا “والله لأزعمن وتالله لأترددن، وبالله لأقولن” لما خرج بالقسم، مع الزعم، من دائرة الشكوك.