الإثنين 29 ابريل 2024

فوضويتنـا المُنَظّمَـة

مقالات17-6-2023 | 14:30

أحسد المصريين كثيراً على عشوائيتهم في التنظيم، نعم التنظيم، فهم ملوك الفهلوة والحداقة والعمل تحت قسوة الضغط، بل والخروج بأحسن المخرجات نتاج هذا الضغط في أقل وقت ممكن، وهي قاعدة فوضوية يتحدى بها المصريون أنفسهم وقوانين الطبيعة المُنَظَّمَة التي يتحلى بها العديد من شعوب العالم، وينظرون لنا بعين الاستغراب لنجاحاتنا برغم فوضويتنا.

هل نجاح البعض برغم أية تفاصيل عجيبة هو ما قد منح البعض صفة الاغترار في النفس وفي القدرات بالمقارنة إلى الآخرين المنظمين الأقل حظاً منهم!! هل هذا الكبر الذي نما بداخلهم مع الوقت منحهم مناعة قبول النصيحة!! هل هي صدفة المحظوظين، أم قدرات البعض التي كانت لتكون نتائجها أفضل بكثير مع قليل من التنظيم والتركيز!! أم هو خليط غير متجانس لكنه يحظى بالنجاح ويستحق التأمل والدراسة؟!
فمن مِننا -كل في محيط أسرته- لا يوجد بها فرد أو أكثر ممن ينعمون ويغطون بحياة الفوضى ويعشقون مذاهب اللا نظام، بل والأكثر من ذلك أن كلهم يرددون نفس الجملة الشهيرة "أنا أعشق هذا المنظر الفوضوي فهو يُرِحْ لي أعصابي، وأعلم كل تفصيلة في هذه الفوضى ويمكنني استخراج ما أريد من بين تفاصيلها في لحظات"!! بل ولا يمكن لأحد لمس أي من تفاصيلها العشوائية لأن ذلك من شأنه إفساد المشهد العبثي على صاحبه ... أمر غريب يستحق الدراسة!!
فمن مننا -من أبناء جيلي- لم يتبع سياسة مذاكرة ليلة الامتحانات، بعد انقضاء فترة العام الدراسي بأكمله بين اللهو والهزل وتبادل الأفكار المثلى لإهدار الوقت بل والتفنن في تنوعها، وحصل بنهاية العام على أعلى الدرجات والتقديرات، لم أكن من هؤلاء على أية حال، لأنني أقدر فكرة الالتزام والنظام والانتظام حق التقدير تماماً كما أبي الألماني الهوى.
وعلى ذكر الألماني، فقد قمت بحضور إحدى الفعاليات التي أقيمت بمناسبة مرور 10 سنوات على إقامة برنامج تعاون بين وزارة التجارة والصناعة المصرية ومؤسسة GIZ الألمانية، لتدريب بعض رواد الأعمال المصريين في الأراضي الألمانية على مختلف الصناعات العاملة بالطاقة النظيفة في اتجاه دعم تحويل الاقتصاد المصري إلى اقتصاد أخضر.
في الحقيقة كانت الفعالية فرصة جيدة لإحياء الجانب الشغوف بداخلي لمعرفة ماهية البرنامج وأشكال التدريب ومردوده، ونظرة الجانب الألماني للمتدربين وجدوى التدريب، وقد كنت على حق بقدر كبير كما توقعت بانبهار كل من الطرفين بالآخر، فانبهار الألمان بقدرات المصريين وحجم تفاعلهم جعل من برنامجهم ممتد الأثر عاماً تلو الآخر حتى وصل عامه العاشر، فكل مجموعة تضع لبنة بناء وثقة للمجموعة التي تليها، وعلى الصعيد الآخر كان انبهار المتدربين المصريين بحجم قدرات الجانب الألماني في الصناعة والتسهيلات الممنوحة لهم، كيف لا وهو المارد الألماني في الصناعة صاحب الشهرة الأعظم على مستوى العالم. 
لكنني ومن ناحية ثالثة أخرى، خرجت بنتائجي الشخصية، التي بها شيئاً من تأكيد المعلومة بداخلي، فالسلوكيات الفوضوية التي يشترك فيها العديد من المصريين مهما وصل حجم كفاءاتنا وقدراتنا ستظل عائقاً في التواصل والتكامل بيننا وبين أي جانب أجنبي، لا حاجز اللغة كما هو متوقع في أي حالة فنحن ملوك الفهلوة ويمكننا التواصل بكل الطرق.
فبينما كان أحد المسؤولين رفيعي المستوى من وزارة التعاون الاقتصادي والتنمية يلقي كلمته عن التعاون القائم بين الجانبين المصري والألماني، تحدث فيها عن حجم التحديات التي تواجه الدولة المصرية ولكن مع قدر هائل من التفائل في ظل وجود 50% من قوام السكان من فئة الشباب، وقد هممت برفع نبرة صوتي قائلة لا يا سيدي هم 70%.
واستكمل حديثه عن مصادر الطاقة المتجددة الهائلة التي تنفرد بها مصر وعلى رأسها "الطاقة الشمسية" كمصدر يمثل 50% من مصادر مصر من الطاقة النظيفة معظمها يأتي من محطة بنبان للطاقة الشمسة بأسوان، ولا سيما بعد نجاح مصر في استضافة مؤتمر المناخ  COP 27 في نوفمبر الماضي بشرم الشيخ وفوزها بجائزة أفضل مدينة سياحية عربية مستدامة لعام 2023 ، وهنا كنت على وشك الإشارة بكف يدي بأكمله في وجه المسؤول لدرء العين عن نعم الله الطبيعية التي حبا بها وطني.  
من ناحية أخرى، كنت أستشعر حركة غير عادية في الدخول والخروج والهمهمات بين الحضور، حتى أن طلب المسؤول بعض الهدوء في القاعة حتى يتمكن من إلقاء كلمته، ليس هذا فحسب بالمواقف متعددة.
كنت قد تزاملت في فترة دراسة ما مع العديد من بعض زملائي من وزارات مختلفة، وظلت إحداهما تحدثنا بانبهار شديد عن تجربة حصولها على درجة الماجيستير من كوريا، وتعلقها الشديد بشكل ونمط الحياة في كوكب كوريا على حد قولها، وإذ بي أفاجئ بأول مواقفي معها وهي تدخل دورة المياة وتترك الباب من خلفها لينغلق في وجهي، دون إيلاء أدنى اهتمام أو اكتراث للتفاصيل من حولها، ثم مجدداً تقوم بغسل أيديها واستخدام المناديل الورقية وإلقائها بعدم اهتمام خارج سلة المهملات، ونظرت إليها ولم تكترث بالتقاطها بورقة أخرى ووضعها داخل السلة.
تعتريني مشاعر الذهول دوماً في عدم قدرتي على تفسير تلك السلوكيات، فجميعها يتضارب مع قوانين الطبيعة الفطرية، ولاسيما أيضاً فطرة عوالم الألفية التي تميل إلى مزيد من أدبيات النظام والرقمنة والانتباه إلى تنظيم سلوكيات البشر بقوة التعليم والإلزام القانون، أو العقاب بقوة النبذ البشري وتوقيع القانون أيضاً.
 يا معشر قومي الذي تسيد وطنه العالم حتى قبل أن يأتي التاريخ من خلفه، نحن أحفاد أقوام حملوا لنا النظام والقانون والجمال والفنون والرقي وقوة التفاصيل في كل مناحي الحياة، حتى دونوها وتركوها لنا إرثاً إنسانياً عظيماً نستلهم منه ما حيينا، لكننا ومع كل أسف لا نلتفت إليه إلا من أجل التباهي الأجوف، لا البحث فيه واتباع منهجيته الحسنة التي سبقنا إليها وفيها أمم وجدت أول أمس.
نكون أو لا نكون، بالفوضى أو بغيرها، هو قرار الاختيار ...

 

Dr.Randa
Dr.Radwa