الجمعة 3 مايو 2024

تحديات الواقع الثقافي على مائدة الحوار الوطني

مقالات17-6-2023 | 18:51

تحت عنوان "خيانة في المغرب" صدرت مؤخرًا عن دار كُتوبيا للنشر والتوزيع أول رواية مصرية بتقنية الذكاء الاصطناعي، قام على التجربة الروائي الشاب أحمد لطفي مُستَخدِمًا تطبيق الدردشة chat GPT، ونُشِرَت على تطبيق القراءة الإلكترونية "أبجد" أحد أهم تطبيقات القراءة الإلكترونية حاليًا.

الناشر أيمن حويرة أكد في تصديره للتجربة أنها تأتي بعد استخدام الذكاء الاصطناعي في تصميم أغلفة الكُتُب وتحقيق نتائج جيدة، وتكمن هذه المرة في إدراك حدوده وإمكانياته في تأليف رواية، وإلى أي مدى قد يُضيف أو يُفيد ليس فقط في صناعة النشر، ولكن أيضًا في مجال ورش الكتابة أو تعليم أسس الكتابة الروائية، وكذلك الحال في إطار البحث المعرفي المطلوب لبعض الروايات، خاصة فيما يتعلق بأُطُر الزمان والمكان.

ولمن لا يعرف فإن الذكاء الاصطناعي أو Artificial Intelligence هو مُصطلح حديث نسبيًا يُقصَد به قدرة الآلات على أداء المهام والوظائف التي يؤديها البشر، من أمثلة هذه المهام ما يؤديه الإنسان عادة من القدرة على التفكير والتحليل، واكتشاف العوامل المشتركة أو الاختلالات، وأيضًا استخراج المعاني والتعميم والاستفادة من التجارب السابقة في مجالٍ ما، وتَعود جُذور المصطلح إلى عَالِم الإلكترونيات الأمريكي جون مكارثي John McCarthy في منتصف خمسينيات القرن الماضي.

أما chat GPT فهو أحدث تطبيقات تقنية الذكاء الاصطناعي، وهو عبارة عن روبوت دردشة يقوم على دمج لغات برمجة عالية الأداء، بحيث تجمع مجموعات كبيرة من النصوص الإلكترونية لتقديم الردود التلقائية على أي أسئلة يقوم بطرحها مُستَخدِم التطبيق، وهو الآن من أقوى مصادر المعلومات المُستَخدَمَة في مختلف المجالات، ومنها مؤخرًا صناعة المحتويات الإبداعية، ولعل التطبيق هو الأسرع انتشارًا في التاريخ حيث جمع ما يزيد على مائة مليون مُستَخدِم خلال أقل من شهرين حال إطلاقه مطلع العام الماضي، كما وصل إلى مليون مُستَخدِم في أيامه الخمسة الأولى من عمره، وهو الرقم الذي استغرق سنوات حتى تُحققه معظم التطبيقات الشهيرة المُستَخدَمَة لسنوات طويلة الآن.

أَخَذْتُ تقنية الذكاء الاصطناعي وأحد أدوارها في صناعة المحتوى الإبداعي، مدخلًا لتحديات الواقع الثقافي على مائدة الحوار الوطني الجاري حاليًا، باعتباره في تقديري يمثل واحدًا من أهم هذه التحديات، كما أنه يَمنحنا مؤشرًا هامًا نحو ضرورة الخروج عن دائرة النمطية في التعامل مع مختلف ملفاتنا الثقافية التاريخية في مجموعها.

فإذا ما راجعنا أجندة المحور الثقافي في الحوار الوطني، نجدها تضم أربعة ملفات رئيسية هي مؤسسات الدولة الثقافية، الصناعات الثقافية، الهوية الوطنية، وأخيرًا حرية التعبير والإبداع.

ولعل سيرة عميد الأدب العربي د. طه حسين تظل دائمًا حاضرة طالما كانت الثقافة محل الطرح أو الحوار، خاصة وأن التقصير لا يزال سيد الموقف في حق الرجل وتراثه العابر للأزمنة القارئ للمستقبل في وقته، والرسالة كانت واضحة بقوة في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" المنشور في القاهرة سنة 1938، نحو مائة عام إلا قليلًا الآن، وملخصها أن الثقافة هي كل ما فيه استنارة للذهن، وتهذيب للذوق، وتنمية لملكة النقد والحكم، وأن هذه الثقافة مُقوماتها معارف الأمة ومعتقداتها وتقاليدها، ومعها قدرات أفرادها وإبداعاتهم ومبتكراتهم، وأن لها أنشطتها وأساليبها ونماذجها النظرية والعملية المادية والروحية، كما ألقى عميد الأدب العربي بمسؤولية الثقافة وتطويرها على المثقفين قبل الدولة، باعتبار الدولة ليست صاحبة العطاء الذي يُنشئ الثقافة ويطورها، وإنما هي وسيلة أو آلية لدعم المثقفين أصحاب العطاء الثقافي.

هكذا بسط د. طه حسين مفهوم الثقافة وطَرَح الرؤية وحَدَد الأدوار، ونذر حياته جاهدًا على أمل رؤية أحلامه واقعًا على الأرض، بينما أخذ الجميع في المقابل تَوجهًا متواصلًا ومستمرًا، تجاه نخبوية المفهوم وحصار رؤيته وأنشطته في أبراج عاجية، أسست لانعزال وانفصال الثقافة ومؤسساتها والمثقفين أيضًا عن جموع الناس المستهدفين منها في الأصل، ولعل هذا الانفصال يمثل أكبر تحديات الواقع الثقافي الواجب طرحها على مائدة الحوار الوطني، بحيث تصدر عنه رؤية لاستراتيجية واقعية تمثل منهجًا يُسقِط الأبراج ويُزيل الأسوار، ويأخذ رجل الشارع مع الوقت نحو رفع الوعي وتهذيب الوجدان، تحقيقًا لطموح عميد الأدب العربي.

قياسًا على هذا الطرح، وفيما يتعلق بمؤسسات الدولة الثقافية، أول ملفات المحور الثقافي في الحوار الوطني، فإن إعادة هيكلة هذه المؤسسات بداية من وزارة الثقافة نفسها وحتى أصغر مؤسسة تابعة لها على طول البلاد وعرضها، أصبحت ضرورة حتمية حتى تواكب هذه المؤسسات تحديات الحاضر وطموحات المستقبل، وبحيث تجمعها استراتيجية واحدة شاملة تعمل على تحقيق رؤية طموحة، من خلال مهام ومسؤوليات فاعلة، تحقق أهدافًا واضحة في توقيتات زمنية محددة، وترفع في الوقت نفسه مجموعة من القيم تُلخِص ملامح هذه الاستراتيجية، ولن يتحقق هذا إلا بالخروج عن النمطية التاريخية في اختيار الكوادر القائمة على هذه المؤسسات، باعتبار تكليف الشخص المناسب في المكان المناسب في الوقت المناسب، يقطع أكثر من نصف الطريق نحو تحقيق النجاح، مطلوب فقط جرأة الاختيار من خارج الصندوق بالفعل، بعيدًا عن جيوب وزارة الثقافة العتيقة وقوالبها المتجمدة الراسخة، وبحيث ينطلق الجميع من حيث انتهى الآخرون بعيدًا عن منهج اختراع العجلة التاريخي، والمحور الثقافي بـ"رؤية مصر 2030" أساس قوي يمكن البناء عليه في هذا الاتجاه.

فإذا أتينا إلى الصناعات الثقافية، الملف الثاني من ملفات المحور الثقافي في الحوار الوطني، نجد أننا في أمس الحاجة للاتفاق على تعريف هذه الصناعات، خاصة وأن استراتيجية التنمية المُستَدامة "رؤية مصر 2030" مَنَحَت الصناعات الثقافية ما تستحقه من اهتمام، سواء فيما يتعلق بإدراجها كأول أهداف المحور الثقافي بهذه الاستراتيجية تحت عنوان "دعم الصناعات الثقافية كمصدر قوة للاقتصاد" أو في تعريف الهدف "تمكين الصناعات الثقافية لتصبح مصدر القوة لتحقيق التنمية والقيمة المُضافة للاقتصاد المصري، بما يجعلها أساسًا لقوة مصر الناعمة إقليميًا ودوليًا" أو في استعراضها لأهم التحديات التي تواجه هذه الصناعات في مصر، والمتمثلة في ضعف التشريعات المتصلة بها وخاصة فيما يتعلق بحماية الملكية الفكرية والتنافسية ومنع الاحتكار، وذلك بعدما حَصَرَت "رؤية مصر 2030" الصناعات الثقافية في السينما والمسرح والموسيقى والغناء والفن التشكيلي والإذاعة والتليفزيون والنشر والكتب والحرف التراثية، أعود فأقول بضرورة الاتفاق على تعريف الصناعات الثقافية ونحن نتحدث عن تحديات الواقع الثقافي على مائدة الحوار الوطني، باعتبار انفصال هذا الواقع حتى الآن عن طموحات استراتيجية التنمية المُستَدامة "رؤية مصر 2030" وخاصة فيما يتعلق مثلًا بالنظر إلى "النشر" باعتباره صناعة.

أما عن الهوية الوطنية، الملف الثالث من ملفات أجندة المحور الثقافي في الحوار الوطني، فهي الأخرى تحتاج إلى إعادة تعريف بعدما مرت به مصر من مِحَن في سنوات ما بعد ثورة 25 يناير 2011، وخاصة السنة الكبيسة منها التي حكم فيها مصر الإخوان المسلمون بتداعياتها ومآلاتها الكارثية على قِصَر مدة توليهم السلطة، مفهوم الهوية الوطنية يستحق الآن إعادة التأسيس بما يعزز الهوية المصرية في المقام الأول، قبل أن يتصل بأبعاده أو ملامحه العربية أو الإفريقية أو الإسلامية، خاصة وأن الهوية المصرية تاريخيًا هي أقوى دروع الدفاع عن النفس في مواجهة أعداء الوطن المتربصين بمصر في الداخل والخارج، ولهذا هي دائمًا مُستَهدَفة من أولئك وهؤلاء وبكافة الأساليب والمناهج المتوقعة وغير المتوقعة، وأهمها تلك السموم المدسوسة في عسل المدنية والتحضر والانفتاح على الآخر بمختلف ثقافاته، أو مثيلاتها الغارقة في شَهد احتكار الدين وتوزيع صكوك الجنة وفرض قيود ما أنزل الله بها من سلطان على إعمال العقل تفكيرًا وتدبرًا، وهو ما أمرنا به الخالق عز وجل في قراءة قرآنه المُطلَق، وتَضيق به صُدور الأفاقين تجار الدين قبل عقولهم في أمور الدين والدنيا معًا، انتبه جيدًا لهويتك حتى لا تَهلَك مع الوقت من فرط التصفيق حماسًا أو التهليل اندفاعًا، حكم عقلك قبل مشاعرك قبل فوات الأوان.

وختام أجندة المحور الثقافي في الحوار الوطني مِسْك بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ ومفردات، الملف الرابع الخاص بحرية التعبير والإبداع، ملف تاريخي هو الآخر بكل ما يحمله من آمال وآلام، ولعل المُلفِت فيه أولًا تناقض أفعال رافعي لواء الحرية مع أقوالهم في اللحظة الحرجة، لحظة الاختبار الحقيقي لاستقامة الفعل مع القول، أنصحك حين تُقابل واحدًا من هؤلاء بأن تختبر مصداقيته فورًا، اختلف معه فيما يطرحه بشأن أي موضوع وانظر بعدها ماذا ترى، في معظم الأحوال تناقض صارخ وحرية على المقاس، وآخر ما يمكن أن يقبل به الرأي الآخر المُختَلِف معه، نحتاج ثانيًا إلى تأمل ملمح تاريخي هام، ألا وهو أن الحرية لم تكن يومًا بلا قيود، وفي المقابل الإبداع لم يكن يومًا بلا حلول، وكل شيء في حياتنا مدفوع الثمن، والأسماء لا تُكتَب في صفحات التاريخ مجانًا، وأنوه ثالثًا إلى ضرورة الاشتباك مع قضايا حرية التعبير والإبداع بوعي، بحيث يقوم دائمًا على أرضية وطنية قادرة على استيعاب تنوع الرؤى والأفكار والآراء، ورابعًا فإن الدولة لابد وأن تكون في كل وقت صمام أمان حرية التعبير والإبداع وليست خصمًا بأي حال من الأحوال، وأخيرًا نؤكد أن حرية التعبير والإبداع مدخلًا هامًا من مداخل رفع الوعي، وثقافة الحرية بشكل عام مرتبطة بمستويات هذا الوعي، فكلما زاد وعي الناس قلت بطبيعة الحال الحاجة لفرض أي قيود من أي نوع على الحريات في مجموعها.

الحوار الوطني فرصة متجددة لمراجعة الذات على كافة المستويات، وهو نفسه يحتاج إلى التعاطي معه بكل تجرد بعيدًا عن الصورة الذهنية السلبية عن جولاته التاريخية السابقة، فتطورات الأحداث في الآونة الأخيرة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وعلى كافة الأصعدة محليًا وإقليميًا ودوليًا، خاصة ونحن قبل عام تقريبًا من إجراء انتخابات رئاسية متجددة، كلها تدفع في اتجاه ولا نبالغ إذا قلنا تفرض جدية الحوار الوطني، وهو ما يفرض بالتالي على الفاعلين في جلساته بشكل مباشر أو حتى هؤلاء المشاركين فيه عن بعد، جدية المساهمة واجتهاد الطرح وجَلَد النقاش، وبهدف التوافق وليس الاتفاق بالضرورة في ظرف تاريخي شديد التعقيد.

ولعل التحدي الأكبر أمام الجميع مع نهاية جلسات الحوار الوطني، يظل في كيفية تفعيل توصياته واقعًا على الأرض، وجرأة كسر تابوه النمطية بشأن متطلبات تطبيق هذه التوصيات، سواء كان تجديد بنية تشريعية عتيقة أو إعادة هيكلة مؤسسات راسخة أو تطوير آليات اختيار الكوادر المنوط بها حمل هذه الأمانة، ومن جديد نحفظ حق الشباب في ضرورة حصولهم على فرص حقيقية في تحمل المسؤولية، مدعومًا بذوي الخبرة من هؤلاء القادرين على مواكبة لغة العصر وأدواته وإيقاعه، بما يسمح بتواصل صحي وفعال مع الشباب لا يأتي فَوقيًا مُنَفِرًا في أي وقت.

Dr.Randa
Dr.Radwa